أشرنا في أكثر من مقال و محاضرة إلى أن صعود الصين كان نتاج لثلاث إصلاحات مؤسسية رئيسية حصلت في 30 سنة الأخيرة بالصين، وشملت: 1- الانفتاح على العالم الخارجي وتشجيع التدفقات المالية باتجاه الصين مع إعادة هيكلة المنظومة المالية للصين، 2- إصلاح الاقتصاد الريفي،3- إصلاح المؤسسات العمومية … ويلاحظ أن هذه الإصلاحات الاقتصادية الكبرى تمحورت حول ثلاث ركائز : اللامركزيةdecentralization والإصلاحات الريفية rural reforms ، والتجريب والابتكار : فاللامركزية بجوانبها المتعددة، تسمح بالتجريب والابتكار دون اضطراب هائل، كما أن القطاع الريفي استفاد بشكل أساسي من تطبيق اللامركزية.. وقد ساهم هذا القطاع في نمو الإنتاجية في المراحل الأولى لانتقال الصين ،وكان بمثابة مصدر مهم للعمل الذي ساعد في النمو الصناعي Industriel growth خلال كامل الفترة. كما أن اللامركزية بالمؤسسات الريفية وطبيعة التقاليد الريفية بالريف الصيني، وفرت الأساس لنجاح المؤسسات الجماعية الريفية والمنشآت الصناعية الجديدة، التي قادت النمو في الصين ابتداءا من منتصف الثمانينات. تحليل اللامركزية analysis of decentralization ، والاقتصاد الريفي rural economy ، والمشاريع الجديدة new enterprises ،يوفر لنا السياق المنطقي لفهم فعالية منهج الانتقال بالتدرج في الصين، و يمكن تلخيص هذا المنهج التدرجي في ثلاث مبادئ أساسية: أولا – البناء على التجربة: البناء على التجربة، وتبين التجربة الصينية أن التكيفيه وعملية الانتقال تسير" خطوة – خطوة step by step "، فيمكن الإبقاء على رأس المال الاجتماعي والتنظيمي الذي أسس في المراحل السابقة للتنمية وتحويلها بطرق تعزز" الكفاءة والإنتاجية efficiency and productivity". فالإصلاحات مست في البداية الزراعة وانتقلت فيما بعد للتصنيع الريفي، وأخذت دائرة الإصلاحات تتسع أفقيا وعموديا. لكن أحيانا التدرجية أو نهج التدرج "gradual"، يساء فهمه على أنه نوع من البطء "slow". فالإصلاحات التي مست الريف الصيني من 1978-84 سجلت نجاحا مهما ، فهي مثلت –ربما- اكبر تغيير اجتماعي واقتصادي على الإطلاق في التاريخ بحكم أنها حدثت في فترة زمنية قصيرة. هذا بالإضافة، إلى أن الإصلاحات انبثقت بشكل تصاعدي وفي ظل تجربة لازال فيها الناس " يعيشون ذكريات الأسرة الزراعيةliving memories of family farming" ، وهو ما يعني انتشار أفقي في "عملية التعلم الاجتماعي process of social learning" وثم تصعيد عملية التعلم بشكل تدريجي إلى الأمام، واقتيد البلد كله من قبل الحكومة نحو التقدم والتحديث . ثانيا – طريق الإصلاح والتغيير في الصين لم يسر بشكل خطي: تميز طريق الإصلاح والتغيير في الصين بقدر كبير من التعرج ، وهو ما أوجد نوع من الاعتراف بأن الظروف المتغيرة تتطلب تغييرات في النهج، فمثلا ، كان القطاع المالي يتسم في المراحل الأولى للإصلاح بالتساهل ، بعكس ما يتصف به اليوم إذ حدثت تحولات عميقة في هذا القطاع … كما أن المؤسسات المملوكة للدولة اطلعت في الماضي بدور مهم في الرعاية الاجتماعية للعمال، لكن في ظل بيئة اقتصادية متغيرة فرضت على الحكومة منح المؤسسات العمومية مرونة كبير في تشغيل وتسريع العاملين بها تبعا لاحتياجاتها الداخلية. ثالثا- الحفاظ على التماسك الاجتماعي: التغيير يمكن أن يفرض ضغوطا على المجتمع، ومن المهم الحفاظ على مستوى من التماسك الاجتماعي الذي يتيح للناس الاستمرار في العمل معا. والبارز في التجربة الصينية هو قدرتها على حماية العمل الجماعي طوال فترة الإصلاح في مجالات متنوعة، بما في ذلك المشاريع الجماعية. وبالرغم من أن عملية الإصلاح، ساعدت على توفير الحوافز الاقتصادية التي شجعت النمو الكبير الذي حدث في ال 30 سنة الماضية، والذي كان له بالغ الأثر في تحسين معيشة الساكنة الصينية ورفع مؤشرات التنمية الاجتماعية بمختلف تمظهراتها. إلا أن هذه الإصلاحات اقترنت ببعض الظواهر السلبية التي أصبحت تعيق تطور الاقتصاد والمجتمع، وخاصة التفاوت في درجة الاستفادة من تمار التنمية الاقتصادية، هذا إلى جانب أن التوسع الاقتصادي فتح تحديات جديدة جعلت من دورة الإصلاحات تتسع في اتجاه ضمان تحقيق النمو المستدام و المجتمع المتجانس…فبالرغم من أن الصين نجحت في تحقيق أداء جيد على المستوى الكلي، إلا أن هذا الأداء تعتريه بعض النواقص و الظواهر الغير صحية التي تهدد الاستدامة وتتعارض وهدف بناء "المجتمع المتجانس"، ومن ذلك : أولا – تزايد الاختلالات في التنمية الإقليمية: فمثلا نصيب الفرد من الدخل كان مرتفعا بداخل وحول المدن الكبيرة ، وخاصة بكين وشانغهاى وتيانجين، و مقاطعة قوانغدونغ. بينما متوسط الدخل في معظم المدن الأخرى لم يتعدى ثلث الدخل المحقق في المقاطعات الساحلية و المدن الكبيرة. ومع ذلك، فتوسع الاقتصاد وفر فرصا جيدة لرفع متوسط الدخل، فكل سنة ، العديد من المزارعين يتمكنون من مضاعفة دخولهم بمعامل 3 أو أكثر، انطلاقا من الانتقال إلى قطاعات وأنشطة أخرى، أو عن طريق التحول من إنتاج الحبوب إلى محاصيل أكثر ربحية، أو الانتقال لزراعة المحاصيل النقدية القابلة للتسويق . و بالرغم، من أن الفرص المتاحة للأفراد لاتخاذ مثل هذه الخطوات بنجاح هي أقل انتشارا في المناطق الداخلية منه في المحافظات الساحلية ، فان الأدلة تشير إلى أن هناك تحولا عميقا في الظروف المعيشية بمعظم أنحاء الصين. ففي الريف شكلت حيازة الأرض، العنصر الرئيسي للضمان الاجتماعي، لكن نظام مسؤولية إنتاج الأسر ألزم المزارعين بإنتاج الحبوب– تحث ذريعة خطر فقدان الأرض في حالة عدم الامتثال– وهو ما كان له آثار اقتصادية سلبية على تحسين دخل المزارعين، إذ أنه عمل على : * تقييد تنقل اليد العاملة إلى العمل بوظائف غير زراعية، خاصة إذا كان العمل يتطلب الغياب الدائم عن المزرعة. * والتقليل من فرص انتقال المزارعين إلى إنتاج محاصيل زراعية ذات ربحية أكبر. وهذه القيود وسعت الفجوة التنموية بين المناطق الريفية و المناطق الحضرية. أما في المناطق الحضرية، فالتنمية الاقتصادية المتسارعة، والتوجه نحو اقتصاد سوقي ، قد أسهم في بروز أشكال جديدة من انعدام الأمن الاقتصادي، فالجماعات الحضرية كانت الأكثر تأثرا بإعادة الهيكلة الاقتصادية، بعدما كانت في وقت سابق تتمتع بالعديد من الامتيازات الاجتماعية: كالسكن والحماية الاجتماعية والتعليم. ثانيا – ضعف أداء الاقتصاد الكلي : أداء الاقتصاد الكلى في الصين قد تحسد عليه من عدة نواحي: فالصين سجلت نموا مذهلا في الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي، إلى جانب النمو السريع في التجارة الخارجية والاستثمار، وهو ما جعل من الصين تتوفر على واحد من أكثر الاقتصاديات انفتاحا في العالم ،كما أن التوازنات الخارجية بقيت سليمة، وقد شهدت الصين طيلة فترة الإصلاح تدبدب في معدلات تضخم ، لكنها تجنبت نوبات التضخم الحادة وطويلة الأمد، خلافا لما تعاني منه العديد من البلدان النامية الأخرى . ومع ذلك، فان أداء الاقتصاد الكلي في الصين أصبحت تعتريه، بعض علامات الضعف في السنوات الأخيرة، ومن ذلك : التباطؤ في نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي منذ عام 1996 بمتوسط نمو يصل 9%، وهو أقل بحوالي نقطتين عن متوسط النمو المسجل منذ 1979 إلى 1995. كما أن معدل نمو فرص العمل قد انخفض بحدة، إلى ما دون المعدل اللازم لاستيعاب الداخلين الجدد لسوق العمل، بالإضافة إلى أولئك الذين سرحوا من المؤسسات المملوكة للدولة وغيرها من الأنشطة. ونتيجة لذلك، ارتفع معدل البطالة في المناطق الحضرية، وتدهور الوضع المعيشي للطبقة العاملة، وهو ما قاد باتجاه نهاية العمل الاشتراكي و بداية تسليع العمل بفعل التحول نحو اقتصاد السوق . الندرة النسبية للإيرادات الحكومية كانت له تأثيرات سلبية على الإنفاق الحكومي على التعليم، والبحث والتطوير، وغيرها من الأغراض الاجتماعية التي تعرف مستوى إنفاق منخفض عن المعايير الدولية. ثالثا – التدهور البيئي و ارتفاع الكلفة الأيكولوجية للتوسع الاقتصادي :النمو الاقتصادي السريع صاحبته مشاكل بيئية رئيسية مثل ثلوت الهواء والماء، ونقص شديد في الموارد المائية، وتقلص المساحات الخضراء.. ونتيجة لذلك ، أصبحت الصين تعاني من الأمطار الحمضية، وتلوث الهواء في المناطق الحضرية و ارتفاع تكاليف التخلص من النفايات الصلبة… هذه المشاكل تعزى إلى مجموعة متنوعة من العوامل، بما في ذلك انخفاض كفاءة استخدام الطاقة والاعتماد على الفحم في توليد الطاقة، وزيادة استخدام الأسمدة في الزراعة، والتوسع العمراني، و تزايد استعمال السيارات من قبل سكان المناطق الحضرية. كما أن التوسع الاقتصادي جعل من الصين أكبر مستهلك للمواد الأولية في العالم، وهو ما جعل الحكومة الصينية تبحث عن مصادر خارجية لتامين احتياجاتها من الطاقة و المواد الأولية. ولتجاوز هذه الإختلالات نجد أن الخطة الخمسية الثالثة عشر 2016 -2020 وضعت عدة أهداف تصب جميعها في علاج الاختلالات السابقة و من ذلك: * تشجيع الابتكار و البحث و التطوير * التنمية الخضراء و الحفاظ على الاستدامة * التنمية المنفتحة و إدماج الصين أكثر بالاقتصاد العالمي * تنمية عادلة تضمن وصول منافع التنمية إلى جميع السكان لتقليص التفاوت * تقليص دور الدولة التدخلي المباشر في الاقتصاد و الاستثمار و الإنتاج و توسيع دورها في الاستهلاك، و منح السوق مساحة أوسع.. * تعزيز دور الشركات و السوق في مجال البحث و التطوير على أن ينحصر دور الحكومة في توفير المناخ المشجع و إنشاء صناديق للبحث و التطوير.. وخلاصة القول، إن مايميز التجربة الصينية بعد 1978 هو انتقال فلسفة النظام السياسي من فكرة " البناء بالهدم " والتي مثلت عنوان الحقبة الماوية، إلى فكرة "الهدم بالبناء" في مرحلة مابعد 1978. فكلا الفلسفتين تتفقان على ضرورة بناء اقتصاد ومجتمع جديد، وهدم معالم النظام القديم . إلا أن الاختلاف الأساسي هو أن الأسلوب الأول يبدأ بهدم القديم قبل بناء الجديد، بينما الأسلوب الثاني يعتمد مبدأ التدرج، فهو ينطلق من فرضية مفادها أن البناء التدريجي للنظام الجديد يعد في ذاته مدخلا لهدم النظام القديم. و هو الأسلوب الذي تبنته الحكومة الصينية في الانتقال من الاقتصاد المنغلق إلى الاقتصاد المنفتح ومن هيمنة القطاع العام إلى إشراك القطاع الخاص. فالدولة حرصت على تفادي العلاج بالصدمة وفضلت أسلوب التدرج مما مكنها من هدم الاقتصاد الموجه، وبناء اقتصاد السوق بأقل الخسائر… و الله غالب على أمره و لكن أكثر لناس لا يعلمون.. أكاديمي متخصص في الاقتصاد الصيني والشرق آسيوي، أستاذ العلوم السياسية و السياسات العامة..