في مقال " لماذا أرى أن وصفة العلاج التي تم تبنيها في الصين بعد 1978، صالحة للبلدان العربية؟"، ورد تعليق لأحد القراء المحترمين " محمد عليان" و يقول فيه: " ثمة فارق مهم جدا بيننا وبين الصين لا أدري لم لا تتناوله بالتحليل استاذنا الا هو ان الصين بلد واحد كبير، بينما نحن عدة دول متفرقة متعادية وعميلة لا قرار لها فكيف نقارن النهضة الصينية بالوضع العربي؟ لا أعرف، لابد من الاجابة على هذا السؤال أولا، لتصح المقارنة، أرجو التعليق من حضرتك على هذا فعندما تقول العرب ماذا تقصد، هل هم دولة واحدة او لهم سياسة منسقة متناغمة واحدة؟ ممكن مقارنة تجربة الصين لدولة ما مع فارق الحضارة والحجم، اما نضع الصين الدولة في مواجهة مجموعة دول ودويلات متصارعة متشاكسه عميلة.. فهذا غريب.."، أشكر صاحب التعليق على هذه الملاحظة، وسأخصص هذا المقال للإجابة على ما ورد في التعليق و شرح وجهة نظري.. صحيح أن الصين ليست في نفس وضعية الدول العربية، من حيث التعداد السكاني و الوحدة السياسية، و لكن أيضا، من حيث فعالية النظام السياسي و قدرته على إدارة عملية " النهضة" و تحديث الاقتصاد و المجتمع الصيني، و إدارة إصلاحات ما بعد 1978 بفعالية، و بالتالي نجاحه في إخراج الأمة الصينية من حالة الفقر و العوز و التبعية، إلى أمة غنية مؤثرة على المستوى الإقليمي و الدولي : أولا- إمكانات الصين: الصين تتوفر على معطيات جغرافية وديموغرافية وسوسيوثقافية، تساعد على تسهيل وتسريع عملية التنمية، ويظهر ذلك بوضوح من خلال : * ميزة الحجم: كبر حجم الصين وسع من إمكانية تخطيها العقبات التي تعترض طريق تطورها الاقتصادي، خصوصا في مجال إقامة الصناعات الكبيرة، وفي تحديد حجم السوق المحلية ، ومدى إمكانية وجود طلب كاف للسلع المنتجة، كما أن المساحة الكبيرة توفر موارد أكثر تنوعا بالشكل الذي يغني عملية التنمية الاقتصادية و يوفر المواد الأولية اللازمة لإقامة الصناعات المختلفة بتكاليف منخفضة. أما حجم السكان الأكبر فيتيح إمكانية توفير عدد اكبر من الأيدي العاملة بمختلف مستوياتها بكلفة منخفضة، إضافة إلى توليده طلبا اكبر على السلع المنتجة محليا، والذي يدفع باتجاه زيادة الإنتاج والدخل المحليين، أي انه يؤدي إلى إحداث نمو اقتصادي كبير، إذا صوحب بتغيرات نوعية معينة يمكن أن يحقق تنمية اقتصادية و اجتماعية شاملة تهيئ الأساس للانطلاق نحو التنمية الشاملة . * التقارب الحضاري والاجتماعي للسكان، تتميز الصين بقدر كبير من التجانس بين رعاياها، بحكم أن الغالبية العظمى من السكان تنتمي إلى القومية الهانية، ويدينون بنفس الديانات، ويتكلمون لغة واحدة ، وتتقارب مستويات معيشتهم و ثقافاتهم و تقاليدهم و هو مامنح للصين قدرا من الاستقرار الذي انعكس إيجابا على مسار التنمية بعد 1978. ثانيا- فعالية الإدارة (الحزب- الدولة ) إن ما يميز التجربة الصينية بعد 1978 هو انتقال فلسفة النظام السياسي من فكرة " البناء بالهدم " والتي مثلت عنوان الحقبة الماوية، إلى فكرة "الهدم بالبناء" في مرحلة مابعد 1978. فكلا الفلسفتين تتفقان على ضرورة بناء اقتصاد ومجتمع جديد، وهدم معالم النظام القديم . إلا أن الاختلاف الأساسي هو أن الأسلوب الأول يبدأ بهدم القديم قبل بناء الجديد، بينما الأسلوب الثاني يعتمد مبدأ التدرج، فهو ينطلق من فرضية مفادها أن البناء التدريجي للنظام الجديد يعد في ذاته مدخلا لهدم النظام القديم. لقد بدأ الإصلاح الاقتصادي الصيني من دون خط شامل أو جدول زمني ، بل على العكس ، فان السلطات العمومية طبقت استراتيجية" فلتشعر بالأحجار وأنت تعبر النهر" و لقد ساعدت تلك السياسة الإصلاحيين الصينيين بعمل اختبارات متعددة على نطاق ضيق، ثم عندما يتحقق و يتأكد النجاح في تلك الاختبارات تعمل الحكومة عندئذ على إقرار التغييرات اللازمة و تعميمها في كل مجالات السياسة الاقتصادية . .. لكن عندما أدعوا إلى ضرورة الاستفادة من دروس التجربة الصينية، فأنا أركز على المنهجية التي تم تبنيها في إدارة الأزمات و تنفيذ الإصلاحات، فمن الصعب فهم الأطروحة التي أدافع عنها بالاعتماد على مقال واحد، بل لابد من تتبع تدرج المقالات و تداخلها، فمنهجية "الهدم بالبناء" و "النهج التدرجي أو التجريبي"، و الإصلاح من داخل النظام و تبني أسلوب النقد الذاتي، و دعم فكرة التداول على السلطة بين الجناح المحافظ و الجناح الإصلاحي ، و لو بداخل الحزب الواحد، كلها مبادئ عامة ناظمة للتجربة الصينية ، و يمكن الاستفادة منها في إصلاح أوضاع البلدان العربية، و نقلها من حال التفكك إلى الوحدة.. فمن دون شك، أن التجربة التي استطاعت أن تنقل الشعب الصيني من حياة الفقر والعوز والتشرد والتفسخ، إلى حياة إنسانية مفعمة بالدفء والطمأنينة والثقة بالنفس والأمل في المستقبل، تغري حقا بالاطلاع وتثير الإعجاب. غير أن شعوب المنطقة العربية- تحديدا- تجد في هذه التجربة أمثلة أخرى حرية بالتأمل، وهي تبحث عن السبل التي تمكنها من التغلب على التخلف والتفكك، الذي اجتاح المنطقة منذ ولوجها دائرة عصور الانحطاط. فقد كانت الصين عند مطلع القرن العشرين عشرات الأقاليم المفككة، التي يحكمها أمراء الحرب. وبذلك، لم تصبح مطمعا لليابان فقط، لكنها كانت مشاعا تنافست عليه الدول. ومنذ أن أدركت ثورة الصين الأولى والثانية خلال مطلع القرن الماضي، أن قوتها في وحدة الصين. وأنها بمقدار ما تشد إليها هذه الوحدة تستطيع زعزعة الاستعمار واقتلاع جذوره. ونتيجة لذلك، شكلت وحدة البلاد البرنامج السياسي، الذي توحدت عنده مختلف التيارات السياسية باختلاف توجهاتها الأيديولوجية. لذلك، فالتحولات التي شهدتها الصين بعد 1978، لم تكن وليدة –فحسب- لسياسة الإصلاح والانفتاح التي تم تبنيها في الدورة الثالثة الموسعة للجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني. بل إنها نتاج لتراكم تاريخي بدأ: أولا، بإدراك الأمة الصينية لحقيقة تخلفها وتأخرها عن روح العصر. وثانيا، بالانتقال إلى تشخيص مكامن الضعف والوهن التي استوطنت جسم الأمة وجعلته ملاذا لهيمنة المحتل الأجنبي. فتم الاتفاق بين جميع الأطراف على حقيقة ضعف ووهن الأمة الصينية، لكن تم الاختلاف والتناحر حول منهجية العلاج… إن التوجه نحو دراسة هذه التجربة لا يعتمد فقط على قوة الصين الاقتصادية والديموغرافية، و غيرها من مقومات الوزن الجيوستراتيجي. فهذه القضايا على الرغم من أهميتها، إلا أنها لا تحتل إلا مكانه ثانوية ضمن سلم الأهمية. فحرصي على تفكيك التجربة الصينية بعد 1978 مهمة لاعتبارات أخرى، منها: أولا- دورة الحدارة والحضارة إن أبرز ما في هذه التجربة – وخاصة لشعوب الأمة العربية والإسلامية – هو أن دورة الحضارة تتغير صعودا ونزولا. فالأمة التي كانت قوية ومسيطرة في الماضي، سرعان ما تتحول إلى امة ضعيفة مهانة. وهو الدرس الذي كشف نواميسه "ابن خلدون" فيما سماه ب"دورة العمران". فصعود الصين ومعها العديد من البلدان الآسيوية، يحيل على أن دورة الحضارة أصبحت عجلتها تتجه بثبات نحو الشرق . ثانيا-التخلف يكمن في تخلف الإرادة إن تجربة الصين بعد 1978 توضح بجلاء بأن المهمشين يمكن أن ينقلبوا إلى ممثلين أساسيين، فوق خشبة مسرح الأحداث الاقتصادية والاجتماعية والسياسة للعالم. إذا ما توفرت الإرادة السياسية الواضحة الملامح. فالهزائم من الممكن أن تتحول إلى انتصارات، إذا ماتم تشخيص مكامن الضعف والخلل التي أفضت للهزيمة، والحرص على تحديد الأهداف بدقة Goal Setting . لاسيما، وان الذات الإنسانية تتجه في لحظة الهزيمة والانكسار، إلى محاسبة الذات بتجرد تام عن كل شعور بالمركزية أو التفوق الحضاري. وهو ما يساعد سيكولوجيا في صياغة العلاجات الضرورية لتجاوز الأزمة…. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.. إعلامي وأكاديمي متخصص في الاقتصاد الصيني والشرق آسيوي، أستاذ العلوم السياسية والسياسات العامة..