قدّمت الجمعية المغربية لحقوق الإنسان اليوم الثلاثاء 10 دجنبر بالرباط تقريرها المفصل حول "أحداث القليعة" ليوم فاتح أكتوبر 2025، وهو تقرير خلص إلى وجود "استعمال مفرط للقوة" و"إطلاق عشوائي للرصاص الحي" أسفر عن وفاة ثلاثة شبان وإصابة آخرين، في سياق احتجاجات اجتماعية اندلعت استجابة لنداءات أطلقتها حركة "جيل زد" للمطالبة بتحسين الخدمات الصحية ومناهضة أوضاع التهميش بالمنطقة. وأكد التقرير، المبني على زيارات ميدانية وشهادات مباشرة وفيديوهات موثقة، أن أغلب الضحايا قُتلوا "بعيداً عن مقر سرية الدرك الملكي"، وفي وضعيات "لا يمكن تبريرها بالدفاع الشرعي عن النفس"، وهو ما اعتبرته الجمعية "انتهاكاً جسيماً للحق في الحياة" وخرقاً واضحاً للمعايير الدولية التي تلزم الدولة بحماية المتظاهرين وضمان أمنهم وسلامتهم.
وسجّل التقرير أن الاحتجاجات انطلقت حوالي الخامسة والنصف مساء في الشارع الرئيسي لمدينة القليعة، حيث تجمع عشرات القاصرين والشبان في وقفة رفعت شعارات اجتماعية تدعو إلى الحق في الصحة والعمل ومحاربة الغلاء والفساد، قبل أن تتحول إلى مسيرة عفوية في غياب تام للقوات العمومية التي لم تظهر إلا بعد تطور الأحداث. وذكر التقرير أن المحتجين "تحركوا بشكل غير منظم نحو آيت ملول والجماعة الترابية بالقليعة"، وأن عدداً من الأشخاص الملثمين التحقوا بالمسيرة لاحقاً، مما خلق حالة من الارتباك داخل صفوف الشباب الذين حاول بعضهم تنظيم الصفوف حفاظاً على سلمية الاحتجاج. وأورد التقرير أن المناضل سفيان كرت تدخل بمبادرة ذاتية لتهدئة الوضع، وحثّ المحتجين على عدم الانسياق للعنف، مؤكداً أنه "لا فائدة من التخريب سوى الاعتقال والسجن"، قبل أن ينسحب لاحقاً إثر فقدانه القدرة على ضبط ما يحدث. ووفق التقرير، فقد بدأ التصعيد حين وصل المحتجون إلى محيط سرية الدرك، حيث رُشقت بعض الواجهات بالحجارة وأُضرمت النار في حاويات أزبال، بينما ظلت السرية "خالية تماماً من أي عنصر أمني في الواجهة"، ما سمح لمجموعة صغيرة من الملثمين بمحاولة خلع البوابة الخارجية. ورغم ذلك، يؤكد التقرير أنّ عدد المهاجمين "لم يتجاوز خمسة عشر شخصاً"، وأنه "كان بالإمكان تفريقهم بسهولة لو حضر تعزيز أمني مناسب منذ البداية"، مشيراً إلى غياب أجهزة الوقاية المدنية والقوات المساعدة بشكل شبه تام، رغم وجود ثكنة للقوات المساعدة تبعد ثلاثة كيلومترات فقط. ويفيد التقرير بأن عناصر الدرك الملكي أطلقوا الغازات المسيلة للدموع والرصاص المطاطي من النوافذ وسطح السرية، ما دفع المحتجين إلى التراجع، قبل أن يخرج، وفق شهادات متعددة، "ما بين ثمانية وعشرة عناصر من الدرك" إلى الشارع الرئيس، ويشرعوا في "إطلاق الرصاص الوظيفي بشكل عشوائي"، بينما كان المكان "قد خلا تقريباً من المحتجين". ويورد التقرير أن عناصر الدرك "ركضوا في الشارع الرئيس باتجاهات مختلفة وأطلقوا النار على مسافات بعيدة تجاوزت 400 متر عن مقر السرية"، وهو ما اعتبرته الجمعية دليلاً على أن التدخل "لم يكن موجهاً لتحييد خطر مباشر"، بل "استهداف جسدي قاتل" لا يتوافق مع البروتوكولات المعمول بها في استعمال السلاح. وتضمّن التقرير شهادات مؤثرة لعائلات الضحايا الثلاثة، عبد الصمد أبلة ومحمد الرحالي وعبد الكريم الضرفيظي، وكلها تؤكد أن أبناءها "قُتلوا بعيداً عن المركز الأمني، وفي مواقع لا يوجد فيها أيّ مواجهة". وقال والد عبد الصمد أبلة: "ابني أُصيب في منعرج عن الشارع الرئيسي، على بعد 120 متراً من سرية الدرك، والرصاص لم يكن تحذيرياً، بل كان موجهاً نحو الجسد". وأضاف: "تمت مطاردته وقنصه... لن أتنازل عن حق ابني". أما والد محمد الرحالي فأكد أن ابنه "أُصيب برصاصة في الظهر في زنقة الكويت، على بعد 100 متر من السرية"، مضيفاً: "لم يكن هناك أي مبرر لإطلاق الرصاص الحي بعيداً عن مقر السرية... لم يكن الهدف تفريق المتظاهرين". وفي شهادة والدة عبد الكريم الضرفيظي قالت: "ابني أصيب من الخلف، وسقط في المكان نفسه الذي قتل فيه عبد الصمد... نريد فقط حق ولدنا والقانون". وبحسب الجمعية، فإن المعطيات الميدانية التي جمعتها من شهادات، وفيديوهات، ومعاينات لآثار الرصاص والدماء، تؤكد أن جميع الضحايا أُصيبوا "بعد عمليات المطاردة والتشتيت"، وأن إطلاق الرصاص "استمر رغم فرار المحتجين وتفرقهم في أزقة المدينة"، وأن عناصر الدرك "لم يتدخلوا لإخماد الحريق ولا لإنقاذ المصابين"، فيما ظل "غياب سيارات الإسعاف والوقاية المدنية" واضحاً منذ بداية الأحداث وحتى سقوط الجرحى. وأشار التقرير إلى أن "الحالة الصحية في القليعة" كانت أصلاً جزءاً من أسباب الاحتجاج، حيث لا تتوفر المدينة سوى على ثلاثة مراكز صحية بخمسة أطباء ودار ولادة، دون أي مستشفى للقرب أو أطباء مختصين، رغم كونها "ثاني أكبر جماعة من حيث الكثافة السكانية بإقليم إنزكان آيت ملول"، فضلاً عن كونها ملجأً لساكنة مهاجرة من مناطق الجفاف والضيعات الفلاحية والعمال الزراعيين والمياومين، إضافة إلى مهاجرين من دول إفريقيا جنوب الصحراء. ويستشهد التقرير بغياب التأطير السياسي والنقابي والحقوقي محلياً، حيث "لا توجد مقرات لأي منظمة ولا مخاطب مؤسسي"، ما يترك السكان "في عزلة تامة" ويجعل مطالبهم الاجتماعية "غير مسموعة". واستعرض التقرير كذلك الرواية الرسمية كما وردت في تقرير الدرك الملكي وتصريح الوكيل العام للملك بأكادير، والتي تحدثت عن "هجوم منظم على ثكنة عسكرية" وعن "متجمهرين مدججين بالأسلحة البيضاء والعصي الخشبية"، وأن الدرك "استعملوا السلاح الوظيفي دفاعاً عن النفس"، وهي رواية اعتبرتها الجمعية "متناقضة" مع الأدلة الميدانية والفيديوهات، خصوصاً أن الضحايا "قُتلوا بعيداً عن مقر السرية"، وأن "الإصابات كانت في الظهر والكتف والجوانب، وليس في الأطراف السفلية كما تقتضي قواعد تحييد الخطر". وقال التقرير: "الرواية الرسمية ضعيفة ومبنية في جانب منها على شهادات قاصرين"، كما أشار إلى أن "الكاميرا المثبتة لمراقبة السرية" كانت معطلة أو لم تُقدَّم تسجيلاتها. ووفق التقرير، فإن اللجنة الجهوية للمجلس الوطني لحقوق الإنسان بسوس ماسة أكدت خلال لقائها بلجنة تقصي الحقائق أن عدد المعتقلين بلغ 610 معتقلين على مستوى الجهة، من بينهم أكثر من 106 قاصرين، بعضهم لا يتجاوز 12 سنة من العمر، وأن عدد المصابين بطلق ناري الذين وصلت حالتهم إلى مستشفى الحسن الثاني بأكادير بلغ ثمانية، من بينهم طفل عمره 12 سنة خضع لعمليتين جراحيتين. ويخلص تقرير الجمعية المغربية لحقوق الإنسان إلى أن "ما وقع بالقليعة كان يمكن تفاديه بالكامل لو تم التعامل معه بجدية منذ البداية"، وأن السلطات "لم تقدر حساسية الوضع ولم توفر التعزيزات الضرورية"، وهو ما أدى إلى "سلوك انتقامي" ظهر في "استهداف المناضلين" مثل سفيان كرت الذي لا يزال معتقلاً، إضافة إلى أحكام "قاسية" طالت عدداً من القاصرين والشبان. ويضيف التقرير: "إن حجم القوة المستعملة كان غير متناسب إطلاقاً مع طبيعة الاحتجاج العفوي الذي شارك فيه قاصرون، وإن استعمال الرصاص الحي بشكل عشوائي يمثل إخلالاً خطيراً بالمعايير الدولية التي تفرض أن يكون أي تدخل أمني ضرورياً ومتناسباً ويهدف إلى حماية الحياة وليس إزهاقها". ويشدد التقرير على أن مسؤولية الدولة ثابتة وفقاً للمرجعيات الدولية، وعلى رأسها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية وقواعد الأممالمتحدة لاستعمال السلاح الوظيفي، التي تنص على أن "الحق في الحياة هو حق غير قابل للتصرف"، وأنه "لا يجوز إطلاق النار إلا عند الضرورة القصوى". وأضاف التقرير: "ما وقع بالقليعة، كما تؤكده الأدلة الميدانية، يناقض تماماً هذه الضوابط"، داعياً إلى "فتح تحقيق مستقل وشفاف، ومحاسبة كل المتورطين في القتل والإصابات الخطيرة"، وإلى "إصلاح شامل للسياسات الأمنية" وحماية الحق في الاحتجاج السلمي. وفي ختام التقرير، أكدت الجمعية المغربية لحقوق الإنسان أن هذه الأحداث "تُعد من أخطر الانتهاكات التي عرفتها جهة سوس ماسة منذ سنوات"، وأنها "تركت جراحاً غائرة لدى عائلات الضحايا وسكان المدينة"، مجددة مطالبتها بالكشف عن الحقيقة كاملة وإنصاف الضحايا وذويهم، ومشددة على أن "العدالة لا يمكن أن تتحقق دون محاسبة المسؤولين عن مقتل عبد الصمد أبلة، ومحمد الرحالي، وعبد الكريم الضرفيظي"، وفق تعبيرها.