في المغرب تحدث أمور لا تقع إلا في المغرب، وفي بعض الأنظمة الشمولية القليلة، وخصوصاً في مجال الصحافة. فالدولة، مشكورة أو مشكوكا في نواياها (حسب السياق)، قررت منذ سنوات أن تُنقذ الإعلام من أزماته البنيوية. وفي 2019، كانت ميزانية الدعم تقارب 5 مليارات سنتيم. نعم، هو مبلغ كبير، لكنه يبقى مفهوماً ضمن سياسات الدعم الاجتماعي والقطاعي. غير أن الغريب أن هذا الرقم قفز في 2020 — بجرّة كورونا — إلى حوالي 20 مليار سنتيم، ويُتوقع أن يصل إلى 27 مليار سنتيم السنة المقبلة. 27 مليار سنتيم... لدعم من؟ ولماذا؟ وكيف؟ 27 مليار سنتيم... من جيوب من؟ 27 مليار سنتيم... لتأدية أجور من؟ 27 مليار سنتيم... لشراء صمت من؟ إنه العبث في أبشع تجلياته. فالمال الذي يُقتطع من ضرائب المواطن يذهب، بلا حياء، إلى تأدية أجور الصحافيين داخل مؤسسات خاصة، هي نظرياً مؤسسات مستقلة، وعملياً مؤسسات مدينة بما يكفي لتفقد القدرة على قول "لا" ولو مرة واحدة في السنة. أي أننا أمام صحافة تتلقى راتبها من الجهة نفسها التي يُفترض أنها تراقبها. وهل ثمة عبث أكبر من هذا؟! على من يضحكون هؤلاء؟ الدولة تؤدي أجور الصحافيين، ثم تطلب منهم أن يظلّوا "سلطة رابعة"؟ كيف يمكن الحديث عن سلطة رابعة إذا كانت ممولة بالكامل من السلطة التنفيذية؟ كيف يمكن لصوت يتقاضى مرتبه من وزارة المالية أن يصرخ في وجه وزارة الداخلية، مثلاً؟ وكيف نقنع الناس بأن هؤلاء ليسوا "مستخدمين" لدى الحكومة، بل "صحافيين"، بينما آخر شهر من كل سنة يحمل لهم شيكاً سخياً من جيوب المواطنين؟ أي سلطة رابعة هذه؟ نحن أمام سلطة تابعة، أو بالأحرى سلطة مدعومة إلى درجة الذوبان. والأدهى من ذلك هو هذا الخطاب الرسمي الذي يصرّ على أننا في "دولة الحق والقانون"، وأن الصحافة "مستقلة"، بينما التمويل نفسه متورّم ومنتفخ ومتناقض مع أبسط قواعد الاستقلالية المهنية. في كل تجارب العالم، الدعم العمومي للصحافة موجود، نعم، لكنه مشروط بقواعد صارمة تمنع أي تأثير سياسي مباشر، ومخصص لمشاريع تطوير، أو انتقال رقمي، أو تكوينات، أو إنتاجات ذات مصلحة عامة. أما عندنا فقد أصبح الدعم صندوق أجور، وفق منطق بئيس مفاده: "خلّص وأنا نسمّيها حرية إعلام". يا للمهزلة. هذه ليست سلطة رابعة، بل هي سلطة "ملحقة" بالسلط الثلاث، تتلقى التعليمات من الدفتر نفسه، وتستلم الراتب من الخزينة نفسها. ليست سلطة رابعة، بل سلطة راكعة زاحفة على بطنها. بالواضح المكشوف: لا يمكن لصحافة تتلقى رواتبها من الدولة أن تمثل رقابة على الدولة. هذه قاعدة بدهية لا تحتاج فلسفة: من يُؤدي أجرك يتحكّم في سقفك، يحدد جرأتك، ويقول لك متى تتكلم ومتى تصمت. أو كما يقول المثل: "من يدفع أجرة الزمار هو من يتحكم في الإيقاع واللحن". والنتيجة؟ لدينا إعلام يعيش على التنفس الاصطناعي، لا يجرؤ على رفع رأسه، يُساق في حملات "التطبيل" و"التبييض"، ويتحول إلى بروباغاندا مكتوبة على طريقة المقاولات الخاصة. إعلام يشبه موظفاً حكومياً دون صفة رسمية؛ موظفاً ببطاقة صحفي مهني يكرر كالببغاء ما يتوصل به من توجيهات مستخدميه. وفي المقابل، الصحافيون الحقيقيون، المستقلون، المغضوب عليهم، يُرمون خارج المشهد، ويُحرمون من الدعم، ويُتركون للمتابعات والضغوط وتجفيف الموارد. لأن النظام برمّته صُمِّم ليكافئ الولاء لا المهنية، ويكافئ الهدوء لا الجرأة، ويكافئ الخدم لا المستقيمة أعمدتهم الفقرية. يا ناس، يا دولة، يا مسؤولين، يا صحافيين، يا مواطنين، يا كل الناس: الاستقلالية ليست شعاراً، والصحافة ليست جمعية خيرية، والدعم ليس غطاءً لشراء الصمت. المغرب لا يحتاج إلى صحافة تتحوّل إلى "قطاع عمومي" برخصة خاصة، ولا إلى صحافيين موظفين لدى الدولة يسمّون أنفسهم "سلطة رابعة". المغرب يحتاج إلى صحافة تُحاسب من يموّل الميزانية، لا أن تتغذى من الميزانية نفسها. إذا استمرت الدولة تؤدي أجور الصحافيين، فلتعلّق على باب كل مقاولة إعلامية لافتة تقول: "مرحباً بكم في الإدارة العامة للبروباغاندا، المرجو احترام التسلسل الهرمي، وكل التقدير والتحية للأخ الأكبر". هذا ما كان. وكل الاعتذار للكبير جورج أورويل.