تحت سماء رمادية واطئة تلقي بظلالها على مضيق جبل طارق، تلمع الحجارة المبللة لأزقة القصبة العتيقة في طنجة، عاكسة أضواء الفوانيس الخافتة وألوان قمصان المشجعين الفاقعة التي تكسر رتابة الطقس الماطر المستمر منذ أيام، في مشهد يوازي صخب مدرجات ملعب طنجة الكبير الذي يحتضن مباريات المجموعة الرابعة لنهائيات كأس إفريقيا للأمم. وفي زاوية مقهى عتيق بسوق الداخل، يمسح عثمان دياي، وهو طالب سينغالي مقيم في المدينة، قطرات المطر عن نظارته، بينما تتعالى ضحكاته وسط مجموعة من مواطنيه ومغاربة يتابعون إعادة لإحدى المباريات. يقول هذا الشاب العشريني وهو يشد معطفه الشتوي إن المطر في دكار يعني البركة، وهنا في طنجة لا يوقف البلل الاحتفال، مضيفا أنهم يشعرون بأنهم في بيتهم وبين إخوتهم، وأن البرد لا يتسلل إلا لمن يشعر بالغربة. وخارج أسوار الملعب، تحولت المدينة القديمة بمبانيها البيضاء المتراصة إلى رئة تتنفس بها البطولة بعيدا عن الرسميات، فعلى طول الزقاق المؤدي إلى باب البحر، يركض سياح بملامح إفريقية وأوروبية للاحتماء تحت الأقواس الحجرية للمحلات التجارية هربا من زخات مطر مباغتة، وهو ما يعتبره العربي، بائع المنتجات الجلدية، نعمة خفية أنقذت الموسم الشتوي. ويوضح التاجر الستيني، بينما يناول سائحا إيفواريا خفا تقليديا أصفر اللون، أن المطر يضطر المارة للدخول إلى المحلات للاحتماء، وينتهي الأمر غالبا بالشراء، مشيرا إلى أن المشجع الإفريقي زبون ذواق يبحث عن الروح المغربية في السلعة ولا يكتفي بالمشاهدة كبعض السياح العابرين، مما خلق رواجا تجارية غير متوقع في مثل هذا الطقس. ولا تخطئ الأذن في أزقة المدينة العتيقة تداخل اللهجات واللغات، حيث تمتزج الولوفية بالدارجة الشمالية والإسبانية، فالجالية السينغالية القوية في طنجة، معززة بآلاف المشجعين القادمين من دكار، حولت فضاءات مثل ساحة دار البارود إلى مسارح صغيرة لرقصات عفوية تتحدى الغيوم، حيث تؤكد عائشة، صاحبة مطعم صغير، أن الأيام الماضية شهدت انصهارا ثقافيا نادرا، إذ يأتي الزوار للأكل والحديث عن الكرة، وينتهون بتبادل أرقام الهواتف، بينما يجعل المطر الجلسات أطول وأكثر حميمية. وبعيدا عن صخب المقاهي، تجد دور الضيافة نفسها مملوءة عن آخرها في ظاهرة غير مسبوقة لشهر دجنبر الماطر، حيث يؤكد كريم، مسير رياض يطل على الميناء القديم، أن البطولة أعادت اكتشاف الوجه التاريخي لطنجة، فالزوار سواء كانوا من إفريقيا جنوب الصحراء أو من مغاربة العالم، يبحثون عن تجربة العيش داخل الأسوار وسماع صوت المطر على بلاط الفناء الداخلي، وزيارة المآثر التاريخية في الصباح قبل التوجه للملعب مساء. ومع حلول الظلام، وتلألؤ أضواء الساحل الإسباني في الأفق البعيد عبر الضباب، يعود صخب المدينة العتيقة ليرتفع ممتزجا برائحة الأرض المبللة والتوابل، ليؤكد أن طنجة، حتى وهي تلتحف الغيوم والأمطار، تصر على أن تكون عاصمة دافئة لقارة بأكملها، وجسرا إنسانيا يتجاوز حدود المنافسة الرياضية.