اضطرابات في حركة سير القطارات ما بين 12 و26 ماي نتيجة أشغال تأهيل منشآت التشوير    سفير إسرائيل يمزق ميثاق الأمم المتحدة أمام الجمعية العمومية (فيديو)    مزور تستقطب شركة عالمية رائدة للمغرب    القطاع السياحي يسجل رقما قياسيا بالمغرب    هكذا ساهمت دبلوماسية روسيا والصين في مقاومة "طالبان" للضغوط الغربية    143 دولة تدعم عضوية فلسطين بالأمم    حماس: إسرائيل تعيد الأمور للمربّع الأول    تصفيات كأس العالم لكرة القدم النسوية لأقل من 17 سنة .. المنتخب المغربي يفوز على نظيره الجزائري    "الطاس" ترفض الطلب الاستعجالي للاتحاد الجزائري لكرة القدم    منتخب "لبؤات الأطلس" يكتسح الجزائريات    رسميا.. مبابي يعلن الرحيل عن سان جرمان    خبراء يناقشون حكامة منظومات التربية    اعتراض 133 مرشحا للهجرة في طانطان    اللعبي: القضية الفلسطينية وراء تشكل وعيي الإنساني.. ولم أكن يوما ضحية    لحجمري ينصب 3 أعضاء جدد في الأكاديمية    المغرب يسجل 26 إصابة جديدة ب"كورونا"    بعد إحداثها لطفرة في إصدارات الAI وطنيا.. الأمانة العامة للحكومة تُناقش آخر إصدارات الدكتورة رومات حول الذكاء الإصطناعي    تفاصيل قاعدة عسكرية مغربية جديدة لإيواء الدرونات والصواريخ    سماء المملكة غائمة وطقس حار بهذه المناطق!    بالصور.. اعتقال خمسة أشخاص بتهمة تنظيم الهجرة غير الشرعية والعثور على زوارق وسيارات وأموال    مدرب الجيش مطلوب في جنوب إفريقيا    صدمة جمهور الرجاء قبل مواجهة حسنية أكادير    جديد موسم الحج.. تاكسيات طائرة لنقل الحجاج من المطارات إلى الفنادق    الشركات الفرنسية تضع يدها على كهرباء المغرب    دكار توضح حقيقة وجود مهاجرين سنغاليين عالقين بالصحراء المغربية    الشبيبة التجمعية بطنجة تلامس منجزات وتحديات الحصيلة المرحلية لعمل الحكومة    بهدف تأهيله لاستقبال 4.4 ملايين مسافر .. هذه تفاصيل مشروع توسيع مطار طنجة    "طاس" ترفض الطلب الاستعجالي للاتحاد الجزائري لكرة القدم    هل تحتاج الجزائر إلى المغرب لتطوير اقتصادها؟    المغرب..بلد عريق لا يبالي بالاستفزازات الرخيصة    الدراسة الطبوغرافية لأنبوب الغاز بين المغرب ونيجيريا تترجم فلسفة إفريقيا للأفارقة    قرار أمريكي يستهدف صادرات المغرب    توقع تسجيل هبات رياح قوية نوعا ما فوق منطقة طنجة    الأمثال العامية بتطوان... (595)    ثنائية الكعبي تقود أولمبياكوس إلى نهائي "كونفرنس ليغ"    المغرب يعلن حزمة جديدة من مشاريع الترميم والإعمار في المدينة المقدسة    امرأة مسنة تضع حدا لحياتها شنقا بالجديدة    بعد أن أفرغت الحكومة 55 اجتماعا تنسيقيا ومحضر الاتفاق الموقع بين الوزارة والنقابات من محتواها    شفشاون على موعد مع النسخة الثانية من المهرجان الدولي لفن الطبخ المتوسطي    بتعليمات ملكية.. تنظيم حفل استقبال أعضاء البعثة الصحية لحج موسم 1445 ه    نقابة "البيجيدي": آن الأوان لإيقاف التطبيع وإغلاق مكتب الاتصال الإسرائيلي بالرباط    غوتيريش يحذر من أن هجوما بريا إسرائيليا على رفح سيؤدي إلى "كارثة إنسانية"        تأشيرة الخليج الموحدة تدخل حيز التنفيذ مطلع 2025    نقابة تنبه لوجود شبهات فساد بالمندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولات الجمعة على وقع الارتفاع    إحداث منصة رقمية لتلقي طلبات الحصول على "بطاقة شخص في وضعية إعاقة"    أخصائية التغذية ل"رسالة24″… أسباب عديدة يمكن أن تؤدي لتسمم الغذائي    هل يجوز الاقتراض لاقتناء أضحية العيد؟.. بنحمزة يجيب    خبير في النظم الصحية يحسم الجدل حول لقاح أسترازينيكا    الحسين حنين رئيس الغرفة المغربية لمنتجي الأفلام: يتعهد بالدفاع عن المهنيين وتعزيز الإنتاج الوطني    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    الدمليج يقدم "بوريوس" في المهرجان الوطني الرابع لهواة المسرح بمراكش    سابقة بالمغرب .. حكم قضائي يلزم الدولة بتعويض متضررة من لقاح كورونا    النادي الثقافي ينظم ورشة في الكتابة القصصية بثانوية الشريف الرضي الإعدادية/ عرباوة    ندوة دولية حول السيرة النبوية برحاب كلية الآداب ببنمسيك    أصالة نصري تنفي الشائعات    سبع دول من ضمنها المغرب تنخرط في مبادرة "طريق مكة" خدمة لضيوف الرحمن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



2020 :"محمد السادس".. شخصية السنة بامتياز
نشر في تطوان بلوس يوم 31 - 12 - 2020

يطوي العالم لطي صفحة سنة 2020 التي تميزت وتفردت عن مثيلاتها من السنوات، بجائحة كورونا التي وضعت دول وشعوب العالم في خندق واحد لمواجهة فيروس تاجي مجهري (كوفيد -19) أربك الدول وأرهق الشعوب وزحزح الكثير من القيم المجتمعية والإنسانية، من قبيل التضامن والتعاون والالتزام والصبر والمسؤولية والمواطنة والانضباط والتضحية ونكران الذات، وغير النظرة إلى العالم وإلى الكثير من المفاهيم المجردة كالموت والحياة والقوة والضعف والشك واليقين والأنا والآخر والحرية والسجن والدولة والعولمة والقانون والسلطة وغيرها، وعرقل عمل الإدارات والمؤسسات وعطل الكثير من الخطط والمشاريع، وأوقف عنوة حياة مئات الآلاف من البشر عبر العالم منهم رجالات سياسة وفكر وثقافة وفن وإبداع، غادرونا إلى دار البقاء، لم يصمدوا أمام سلطة وجبروتفيروس مجهري، بقدرمجهريته، بقدر ما حير العالم بكباره وبسطائه وصغاره.
وفي ظل هذا الواقع الوبائي الاستثنائي، وخلافا للسنوات السابقة، لاشك أن أحلام وتطلعات شعوب العالم، تتوحد بشكل غير مسبوق في أن تحمل السنة القادمة (2021) بشرى الخلاص من عدو مشترك، غير عنوة طقوس حياتنا وأنماط عيشنا، وآمال الانعتاق من طقوس الجائحة المرعبة، وإذا كانت المناسبة، تقتضي استحضار شريط سنة 2020، فلن نجازف في النبش في حفرياتها، لأن سلك هذا المسك، لن يكون إلا نبشا في ذاكرة ما أحدثته الجائحة المرعبة من أحزان وآلام وأوجاع وهلع وخوف على امتداد أشهر، ولسنا في هذا الإطار على استعداد للخوض في تفاصيل المآسي في سنة المآسي، لأننا سئمنا التوجس وضقنا ذرعا من القلق والمآسي.
وإذا كانت عيون الإعلام والمتتبعين، تنصب عادة في نهاية كل سنة على إبراز شخصيات السنة أو الشخصيات الأكثر حضورا وإشعاعا في السنة الراحلة، فيصعب الاختيار في زمن الارتباك وموسم المآسي، كما يصعب فرز الاستثناء في زمن الوباء، لكن إذا كانت المناسبة تقتضي اختيار "شخصية السنة" في هذا الزمن الاستثنائي، فلن نتردد في اختيار "الملك محمد السادس" شخصية السنة بامتياز، وهو اختيار لم نجد أي عناء في التفكير فيه ولم نهدر أية طاقة أو جهد في التوصل إليه، وما يزكي طرحنا واختيارنا، ما صدر عن الملك طيلة هذه الأزمة الوبائية غير المسبوقة، من مبادرات رائدة تجعل منه شخصية السنة بامتياز، سواء تعلق الأمر بتدبيره المحكم لجائحة كورونا أو بما أعلن عنه من قرارات رامية إلى إعادة العافية للاقتصاد الوطني أو في تضامنه الإنساني مع الكثير من البلدان الإفريقية الشقيقة والصديقة، أو في دبلوماسيته الناجعة والمتبصرة التي دعمت الوحدة الترابية للمملكة وكرست المغرب قوة إفريقية رائدة، أو في جنوحه نحو قيم الأمن والتعاون والسلام والعيش المشترك، وفيما يلي سفر مجاني في عام المآسي، حاولنا من خلاله استحضار ما صدر عن المؤسسة الملكية من قرارات ومبادرات استثنائية في زمن استثنائي، وذلك على النحو التالي :
– رهان على التضامن كأسلوب للتصدي للجائحة :
إذا كان من الصعب، الإحاطة بما صدر عن المؤسسة الملكية خلال هذه الظرفية الخاصة والاستثنائية من قرارات رائدة متعددة الأبعاد، في مقال يقتضي الامتثال لسلطة الإيجاز، فهذا لا يمنع من توجيه البوصلة نحو بعض تجليات التدبير الملكي للجائحة، وفي هذا الصدد، فالمنطلق لن يكون إلا عبرالقرار الملكي الرائد بإحداث "صندوق تدبير جائحة كورونا" الذي شكل إبداعا مغربيا خالصا، كان لابد من الرهان عليه لتدبير الجائحة، لاعتبارين اثنين، أولهما: ما يتملكه الشعب المغربي من قيم التعاضد والتضامن خاصة في اللحظات الحرجة، وثانيهما: الإدراك أن إمكانيات البلد "محدودة" (اقتصاديا، اجتماعيا، صحيا)، ولا يمكن الوقوف في وجه الجائحة العنيدة، إلا بالتعبئة الجماعية والوحدة الوطنية واستثمار القدرات الذاتية، وبفضل هذا الصندوق التضامني، أمكن الرفع من قدرات المنظومة الصحية الوطنية وتقديم الدعم المادي للمقاولات والفئات الاجتماعية المتضررة من هذه الأزمة الفجائية، مما خفف من حدة التداعيات الاقتصادية والاجتماعية للأزمة الوبائية الكاسحة.
حس تضامني ملكي، وازته تعبئة جماعية متعددة الزوايا، حملت توقيع الحكومة بمكوناتها ولجنة اليقظة الاقتصادية والسلطات الصحية والأمنية والإدارية والمجتمع المدني والمقاولات المواطنة والأفراد، بشكل أسس لبيئة محفزة، أطلقت العنان لبروز "الإبداع المغربي" في زمن الجائحة، سواء تعلق الأمر بمنهجية تدبير الحكومة للأزمة أو انخراط بعض المقاولات في إنتاج الكمامات لتلبية حاجيات السوق الوطني، أو بما تم اعتماده من بوابات وتطبيقات إلكترونية للدعم الاجتماعي والاقتصادي وتتبع المخالطين، أو بما تم إنتاجه وتصنيعه من منتجات وأجهزة طبية من "صنع مغربي"، أمنت الاحتياجات الوطنية في ظرفية عالمية اشتدت فيها حرارة الإقبال على الكمامات الواقية والأقنعة والسترات الطبية والمطهرات الكحولية وغيرها.
– حرص على دعم قدرات المنظومة الصحية :
برؤية استباقية وتوقعية، وحرصا منه على دعم قدرات المنظومة الصحية الوطنية وتأهيلها تحسبا لأي ارتفاع محتمل في عدد الإصابات المؤكدة، بادر جلالته، إلى إعطاء تعليماته السامية بصفته القائد الأعلى ورئيس أركان الحرب العامة للقوات المسلحة الملكية، بتكليف الطب العسكري – بشكل مشترك مع نظيره المدني – بمهام مكافحة جائحة كورونا، كما بادر إلى إعطاء تعليماته السامية لإقامة مستشفيات ميدانية في جميع جهات المملكة تحت إشراف المؤسسة العسكرية، وهذه "التوليفة" بين الطب المدني والطب العسكري، وحدت الطاقات والكفاءات والقدرات، وأذابت جليد المخاوف حول واقع المنظومة الصحية المدنية ومدى قدرتها على التصدي لجائحة عالمية أربكت وأحرجت الكثير من المنظومات الصحية في عدد من الدول المتقدمة،ويضاف إلى ذلك، ما صدر عن جلالته من قرار- بصفته الناظر الأعلى – قضى بإعفاء مكتري المحلات الحبسية المخصصة للتجارة والحرف والمهن والخدمات والسكن – ماعدا الموظفين – من أداء الواجبات الكرائية، طيلة مدة الحجر الصحي، إسهاما منه في تخفيف الضرر عن هذه الفئات الاجتماعية.
– الصحة أولا ..
المجازفة في تبني خيار الإغلاق الشامل بكل تكلفته الاقتصادية على النسيج الاقتصادي الوطني للتصدي إلى الفيروس التاجي والحد من خطر انتشاره وتفشيه، تحكمت فيه رؤية ملكية رصينة جعلت من صحة المواطنين أولوية الأولويات في ظل جائحة عالمية أربكت اقتصاد العالم بأسره، وهي أولوية حضرت تفاصيلها في عدد من المحطات، منها المباحثات الهاتفية التي سبق أن أجراها الملك مع الرئيس الصينيفي إطار علاقات الصداقة القائمة بين البلدين، والتي تطرقت إلى سبل التعاون بين الطرفين بخصوص تلقيح كورونا، مما مكن المملكة من احتلال مرتبة متقدمة في التزود باللقاح ضد كوفيد-19، بفضل المبادرة والانخراط الشخصي لصاحب الجلالة اللذان مكنا من المشاركة الناجحة لبلدنا في هذا الإطار، في التجارب السريرية، دون إغفال الإعلان عن خبر انطلاق حملة وطنية مكثفة للتلقيح ضد فيروس كوفيد – 19 والتي يرتقب أن تنطلق بشكل فعلي في قادم الأيام، وهو تلقيح سيكون في متناول جميع المواطنين بشكل مجاني، بناء على التعليمات الملكية السامية التي أصدرها الملك للحكومة.

وهي التفاتة ملكية كريمة تنبع من "العناية الملكية والرعاية الإنسانية التي ما فتئ جلالته يحيط بها كافة مكونات الشعب المغربي، منذ ظهور الحالات الأولى لهذا الفيروس بالمغرب" كما ورد في بلاغ سابق للديوان الملكي، وهي محطات من ضمن أخرى، كرست مؤسسة ملكية "مواطنة" و"مسؤولة" و"إنسانية" قادرة ليس فقط على حماية الصحة العامة وتحمل مسؤولياتها كاملة في زمن الجوائح والأزمات، بل وقادرة أيضا على حماية الوحدة الترابية وصيانة اللحمة الوطنية وكسب رهانات التنمية الشاملة، في إطار من الوحدة والتلاحم القوي بين العرش والشعب، وبهذه المعادلة تم كسب المعركة ضد الاستعمار وأمكن ربح رهان الاستقلال وبناء أسس الدولة المغربية الحديثة وتحقيق ملحمة المسيرة الخضراء وصيانة الوحدة الترابية، والانخراط في سيرورات البناء والإصلاح والتنمية والنماء والعيش المشترك في إطار من الأمن والاستقرار والطمأنينة …
– حرص مستدام على الإصلاح والتنمية :
لم يتوقف الملك محمد السادس عند حدود التدبير الآني للجائحة وآثارها الاقتصادية والاجتماعية، بل بادر في إطار رؤية استباقية متبصرة، إلى تقديم الخطط والبدائل التي من شأنها الإسهام في استرجاع عافية الاقتصاد الوطني ومعالجة ما أبانت عنه الجائحة من اختلالات ومشكلات اجتماعية، وهي رؤية تجسدت بالملموس في خطاب الذكرى 21 لعيد العرش المجيد الذي أتت مضامينه حاملة لهم الإصلاح والتنمية، عبر ما أطلقه الملك من مبادرات رصينة من قبيل "ضخ حوالي 120 مليار درهم في الاقتصاد الوطني" (ما يعادل 11 في المائة من الناتج الداخلي الخام) والإعلان عن "إحداث صندوق للاستثمار الاستراتيجي" لدعم الأنشطة الإنتاجية، ومواكبة وتمويل المشاريع الاستثمارية الكبرى بين القطاعين العام والخاص في مختلف المجالات، والإعلان عن " إصلاح عميق للقطاع العام" وعن "إحداث وكالة وطنية مهمتها التدبير الاستراتيجي لمساهمات الدولة، ومواكبة أداء المؤسسات العمومية"والدعوة إلى "تعميم التغطية الاجتماعية لجميع المغاربة خلال الخمس سنوات القادمة"، وإلى "إدماج القطاع غير المهيكل في النسيج الاقتصادي الوطني".
وكلها مبادرات تتجاوز البعد التدبيري للجائحة، لترتبط باستراتيجية متعددة الأبعاد، تراهن على إعداد المغرب ليتبوأ ما يستحقه من مكانة واعتبار في مرحلة "مابعد كورونا" على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية والاستراتيجية، كما تراهن على تحقيق الإقلاع التنموي الشامل في أفق "النموذج التنموي المرتقب" وفي ظل المكاسب الاقتصادية والتنموية التي يرتقب أن تتحقق على أرض الواقع، عقب الموقف الأمريكي التاريخي بخصوص الاعتراف بمغربية الصحراء والإعلان عن إقامة قنصلية عامة لأمريكا بمدينة الداخلة، وعبر مد جسور التواصل والاتصال مع إسرائيل، وهي استراتيجية واعدة، تقتضي التعبئة الجماعية واستحضار المصالح العليا للوطن أولا وأخيرا، والتحلي بما تتطلبه المرحلة القادمة من مسؤولية ونزاهة واستقامة وتضحية ونكران للذات ومواطنة وحقة.
– مد جسور تضامنية مع إفريقيا في زمن الجائحة :
في الوقت الذي أغلقت فيه الدول حدودها الوطنية، للتصدي للفيروس التاجي، بعيدا عن مفردات التعاون والتعاضد وتبادل الخبرات والتجارب في مجال تدبير الوباء، وفي الوقت الذي اشتعلت فيه حرب الكمامات والمستلزمات الطبية بين الدول الكبرى، لم تتخل المملكة عن إفريقيا في زمن الجائحة، ولم يتخل جلالة الملك محمد السادس عن الأفارقة في لحظة خاصة واستثنائية، رفعت فيها معظم البلدان شعار "أنا ومن بعدي الطوفان"، فبادر مبكرا بتاريخ 13 من شهر أبريل المنصرم، إلى إطلاق مبادرة لرؤساء الدول الإفريقية لإرساء إطار عملياتي، بهدف مواكبة البلدان الإفريقية في مختلف مراحل تدبير جائحة "كورونا"، وهي مبادرة رائدة عاكسة ليس فقط، لأبعاد تضامنية وإنسانية، بل ولمقاربة توقعية لجائحة عالمية عابرة لحدود الدول والقارات، محاصرتها وتدبير تداعياتها الجانبية، يقتضي رؤية تضامنية بين البلدان الإفريقية، تتيح تبادل الخبرات والتجارب ووسائل العمل، حرصا على الأمن الصحي الإفريقي الذي لا يمكن فصله عن مفهوم الأمن بأبعاده ومستوياته المختلفة.
وهي مبادرة تم تفعيلها وترجمتها على أرض الواقع، بإصدار جلالته، تعليمات بإرسال مساعدات طبية إلى مجموعة من الدول الإفريقية (15 دولة) لدعم جهودها في الحرب ضد جائحة "كورونا"، تضمنت شحنات مهمة من المنتجات والمستلزمات الطبية الوقائية والاحترازية، عبارة عن كمامات وأقنعة واقية وسترات طبية وأغطية للرأس ومطهرات كحولية وأدوية مختلفة،وهي منتجات ومستلزمات طبية من "صنع مغربي" خالص، أشرفت عليها مقاولات مغربية، وفق معايير منظمة الصحة العالمية، حاملة رسالة مفتوحة، مفادها أن إفريقيا بإمكانها أن تنهض وترتقي في سلم التنمية البشرية، بالاعتماد على طاقاتها وكفاءاتها والاستثمار الأمثل لقدراتها وإمكانياتها الذاتية، وبالرهان على قيم التعاون والتعاضد والتضامن لمواجهة التحديات الآنية والمستقبلية.
مساعدات مهمة، تتجاوز البعد التضامني الظرفي المرتبط بالجائحة الكورونية، لا يمكن فهم أبعادها ودلالاتها الإنسانية، إلا في ظل ما يربط المملكة بإفريقيا من علاقات إنسانية وثقافية وروحية وتجارية ضاربة في عمق التاريخ، و من قيم الأخوة والصداقة والتعاون والتشارك والتضامن، ومن التزام ومواقف إنسانية ثابتة حيال إفريقيا، تستند إلى استراتيجية يشكل "التضامن" محورها الأساس، في إطار نموذج للتعاون المبدع والخلاق (جنوب-جنوب) يضع التنمية بأبعادها المختلفة في صلب اهتماماته، عبر تسخير الكفاءات والخبرات والتجارب المغربية المتاحة، لفائدة إفريقيا، في إطار شراكات تضامنية متوازنة مبنية على منطق "رابح – رابح".
وهي رؤية بالأفعال لا بالأقوال، تنضاف إلى العشرات من الزيارات الملكية لعدد من البلدان الإفريقية على امتداد العقدين الأخيرين، والتي لم تثمر فقط، اتفاقيات شراكة وتعاون ثنائية ومتعددة الأطراف، بل وجعلت من المغرب، بلدا محوريا ورائدا وفاعلا اقتصاديا في إفريقيا، يمشي قدما نحو المستقبل بثقة وثبات، يتحمل مسؤوليات الانتماء للحضن الإفريقي، من أجل الإسهام في بناء إفريقيا جديدة متضامنة ومتعاونة، لما راكمه من تجارب وخبرات اقتصادية وتنموية وتدبيرية، لا يتردد في تسخيرها من أجل تنمية إفريقيا ورخاء شعوبها.

وإذا كان الملك محمد السادس، قد جعل من التضامن محور علاقاته مع أشقائه وأصدقائه من الزعماء الأفارقة، ومن التنمية عصب العلاقات المغربية الإفريقية، فهي رؤية متبصرة، تدرك كل الإدراك، أن التضامن يعد مفتاح التنمية بإفريقيا، والتنمية مفتاح الأمن والاستقرار، وإذا كان الدستور المغربي قد نص بصريح العبارة على البعد الإفريقي للمغرب، فهذا الاختيار ما هو إلا مرآة عاكسة لتاريخ طويل من العلاقات الإنسانية والوجدانية والثقافية والروحية مع بلدان إفريقيا جنوب الصحراء، تجعل "المغرب بدون إفريقيا" كالشجرة بدون جذور، و "من إفريقيا بدون المغرب" كالجذور بدون أغصان وأوراق.
– دبلوماسية متبصرة شكلت الوحدة الترابية للملكة "خيطها الناظم :
سنة ميزها عن غيرها من السنوات ما حققته الدبلوماسية المغربية من مكاسب ونجاحات تحت القيادة الرشيدة للملك محمد السادس، في ظل التدخل الرصين والمسؤول للجيش المغربي في منطقة الكركرات، والذي حظي بتأييد إفريقي وعربي ودولي متعدد المستويات، واعتبارا لنجاح "دبلوماسية القنصليات" التي جعلت وتجعل من الصحراء وجهة دبلوماسية على جانب كبير من الجذب والإشعاع، وهو نجاح وصل ذروته بانتزاع ورقة الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء وبقرار إقدام الولايات المتحدة الأمريكية على إقامة قنصلية عامة لها بمدينة الداخلة، وبإعادة مد جسور التواصل والاتصال والتعاون بين المغرب وإسرائيل، في قرار تاريخي عاكس لرؤية متبصرة وحكيمة لملك بقدر ما يمشي قدما نحو التنمية والتعاون المشترك، بقدر ما يجنح نحو الأمن والمحبة والسلام والتعايش بين الأديان، بعيدا عن كل ممارسات الكراهية المغذية للصراع والعنف والصدام…
وسواء تعلق الأمر بالاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء أو باستئناف التواصل والاتصال مع إسرائيل، ظلت قضية الوحدة الترابية والمصلحة العليا للوطن، خيطا رفيعا ناظما للتحركات والخيارات المغربية الخارجية، كرس المغرب قوة إقليمية رائدة باتت معادلة صعبة في قارة إفريقية واعدة تعد مستقبل العالم، الرهان عليها هو رهان لايمكن تحقيقه إلا بالمغرب ومع المغرب، ولا يمكن إلا أن نتوقع حجم الاستثمارات التي ستتدفق على المغرب وجهات الصحراء عقب الموقف التاريخي الأمريكي، بكل ما سيحمله ذلك من آثار اقتصادية وتنموية، ستقوي من قدرات المغرب في جميع المجالات، بشكل سيحوله إلى وجهة اقتصادية واعدة وجذابة في بعده العربي وعمقه الإفريقي، دون إغفال أن النهج الرصين للدبلوماسية المغربية، ستكون له مكاسب أخرى ذات طبيعة أمنية واستراتيجية لايمكن أن يجهلها إلا جاهل، وهي مكاسب ونجاحات، أفشلت كل مخططات ودسائس أعداء الوطن من صناع الحقد ودعاة التشرذم والتفرقة والشتات، الذين دخلوا في حالة من اليأس والشك والإحباط والجنون، ولم يعد أمامهم من خيارات سوى اللجوء إلى أساليب قذرة لمواجهة المغرب من وراء حجاب، عبر الرهان على إعلام البؤس الذي لا يجد حرجا أو حياء في فبركة الأحداث وتزييف الوقائع، لإخراج مشاهد "كرتونية" لا توجد إلا في مخيلة من صنعها وأخرجها وأبدعها.
– مواقف ثابتة حيال القضية الفلسطينية :
الإعلان عن استئناف العلاقات مع إسرائيل بالتزامن مع الإعلان عن الموقف التاريخي الأمريكي بخصوص مغربية الصحراء، أثار مشاعر الرفض والغضب لدى البعض تارة باسم الدين وأخرى باسم العروبة وثالثة باسم القومية والالتزام والثبات على المواقف حيال القضية الفلسطينية، وهي مشاعر بقدر ما يمكن تفهما من حيث الشكل، بقدر ما نرى أنها تفتقد للواقعية وتغيب عنها المصالح العليا للوطن في أبعادها الاقتصادية والترابية والتنموية والأمنية والاستراتيجية، وهي أبعاد أبقت على المواقف المغربية التاريخية قائمة بخصوص قضية فلسطين والقدس الشريف، والتي تتأسس في شموليتها على حل الدولتين وعلى المحافظة على الطابع الخاص لمدينة القدس لما لها من خصوصيات دينية وروحية، وهو ما عبر عنه الملك محمد السادس في اتصالاته الهاتفية مع الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" ورئيس السلطة الوطنية الفلسطينية "محمود عباس أبو مازن" الذي أبلغ من قبل جلالة الملك بخبر الاجتماع القريب للجنة القدس في دورتها الواحدة والعشرين بالمملكة المغربية، وهي رسالة معبرة مفادها، أن المواقف المغربية ظلت وستبقى ثابتة وواضحة بخصوص الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ونرى أن التقارب المغربي الإسرائيلي، يمكن أن يكون خادما للقضية الفلسطينية، اعتبارا للعلاقات التاريخية التي تربط المغرب بالمغاربة من أصول يهودية في إسرائيل وخارجها، مما يجعل من المغرب الدولة العربية والإسلامية الوحيدة القادرة دون غيرها، على الدفع بعملية السلام بين فلسطين وإسرائيل في اتجاه حل الدولتين، بشكل يضمن سلاما شاملا ودائما بين الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي.
– جنوح نحو السلام والتعايش:
كما تفاعلنا إيجابا مع اللقاء التاريخي الذي جمع بين جلالة الملك محمد السادس وقداسة بابا الفاتيكان خلال السنة الماضية (مارس 2019) على أرض المملكة المغربية، والذي توج بإصدار وثيقة تاريخية بشأن مدينة القدس الشريف، أطلق عليها اسم "نداء القدس" وقعت من قبل جلالة الملك محمد السادس، أمير المؤمنين ورئيس لجنة القدس، وقداسة بابا الفاتيكان "فرنسيس".. تضمن (النداء) دعوات متعددة المستويات، تقاطعت مضامينها حول المحافظة على مدينة القدس الشريف، باعتبارها مدينة للسلام وتراثا إنسانيا مشتركا وأرضا للقاء ورمزا للتعايش والتساكن بين أتباع الديانات التوحيدية الثلاث.
نتفاعل اليوم بنفس درجة الحماسة والترحيب بالتقارب المغربي الإسرائيلي لاعتبارات ثلاثة، أولها: لأنه خطوة نحو السلام والأمن والاستقرار والتسامح والعيش المشترك، وثانيهما: لأنه مبادرة "مواطنة" و"إنسانية" تصب في مصلحة شرائح واسعة من المغاربة من أصول يهودية الذين يشكلون جزءا لا يتجزأ من التاريخ المغربي والذاكرة الجماعية والهوية المغربية المشتركة، والتي كرسها الدستور الجديد، وثالثها: لكونه ساعد على مد جسور التعاون المشترك مع دولة باتت معادلة صعبة في الشرق الأوسط، لم يعد ممكنا التعامل معها بمنطق العداء والكراهية والتجاوز والإقصاء والوعد والوعيد، مما يجعل من "السلام" المدخل الوحيد والأوحد الذي من شأنه رسم علاقات جديدة بين العرب وإسرائيل، مبنية على قواعد المصلحة والتوازن والتعاون والعيش المشترك، وهو مدخل لن يكون إلا خادما للمصلحة الفلسطينية ودافعا نحوالمفاوضات في اتجاه تبني حل الدولتين، أما العواطف المزيفة والشعارات الغارقة في الحماسة، فلم يعد لها مكان في عالم متغير باستمرار باتت تحكمه لعبة التوازنات ومعادلة المصالح المشتركة.
وفي جميع الحالات، فالتقارب المغربي الإسرائيلي هو قرار "سيادي" عاكس لرؤية ملكية متبصرة مفعمة بقيم السلام والتعايش والتساكن والتعاون المشترك، وهي قيم دينية وإنسانية مترسخة في هذا البلد الأمين الذي ظل عبر تاريخه القديم والحديث، أرضا للقاء والتلاقي والتعارف والتعايش والتساكن بين جميع الأديان والثقافات والأجناس، وفي تلك القيم الإنسانية تحضر روح الإسلام وتتجسد قيم وأخلاقيات وشمائل خاتم الأنبياء والمرسلين في تعامله مع اليهود والنصارى.
– خلاصة:
هي إذن مبادرات وقرارات ملكية رائدة حضرت بقوة في جائحة عالمية غير مسبوقة بالنسبة للمغرب وللعالم المعاصر، أبانت بما لايدع مجالا للشك، في أن قوة المغرب في الملكية وقوة الملكية في الشعب، وقوة الوطن تتجسد في تلك العروة الوثقى التي لا انفصام لهابين العرش والشعب، وهي علاقة متفردة تتحقق معها غايات الأمن والاستقرار ومقاصد صون اللحمة الوطنية، في محيط إقليمي ودولي، يقتضي الحرص على المزيد من التعبئة الجماعية والتحلي بما يلزم من الحكمة والمسؤولية، حفاظا على الوحدة الترابية للمملكة في ظل إصرار أعداء الوطن على تبني عقيدة الدسائس والحقد والكراهية والعداء، وفي هذا الصدد، فما حققته الدبلوماسية المغربية في الآونة الأخيرة من نجاحات ومكاسب متعددة الزوايا، لايمكن أن ينظر إليه إلا بعين القبول والرضى والتثمين والتأييد، استحضارا لأبعاده الترابية والاقتصادية والتنموية والأمنية والاستراتيجية، وهي أبعاد ستدعم الوحدة الترابية للمملكة وسترفع من قيمة ومكانة المغرب كقوة إقليمية إفريقية رائدة، باتت وجهة اقتصادية وتنموية جذابة، لها من الإمكانيات والقدرات، ما يجعلها بوابة لا محيد عنها نحو قارة إفريقية واعدة تعد مستقبل العالم، ومن باب التوقع، نترقب أن تتحول الصحراء المغربية في قادم الأسابيع، إلى وجهة دبلوماسية مغرية في إطار "جاذبية دبلوماسية القنصليات" وذلك عقب الموقف التاريخي الأمريكي، وإلى واجهة اقتصادية متفتحة على العالم وعلى إفريقيا.

هي إذن تجليات "حكمة الدبلوماسية المغربية" التي يقودها الملك محمد السادس بنجاعة وتبصر، والتي تجمع بين ثالوث "السلام" و"التعاون" و"التنمية"، وهذا الثالوث هو مرآة عاكسة للتميز المغربي الذي يجعلنا نتطلع إلى المستقبل بعيون مفعمة بالمحبة والثقة والأمل والازدهار، ولا يمكن أن نترك الفرصة تمر،دون تهنئة جلالة الملك محمد السادس حفظه الله بالعام الجديد، سائلين الله عز وجل أن يمتعه بموفور الصحة والعافية لما فيه خير لهذا الوطن السعيد، وتهنئة المغاربة قاطبة في الداخل والخارج، وتهنئة شعوب العالم بكل انتماءاتهم واختلافاتهم، على أمل أن تكون السنة القادمة، سنة أمن وتسامح وسلام وبشرى وأمل وخلاص من هذا الوباء الفتاك، ودون التضرع إلى الله عز وجل في أن يرفع عنا هذا الوباء المزعج ونعود في أقرب الآجال الممكنة إلى حياتنا الطبيعية، والترحم على كل من انطفأت شمعة حياته إلى الأبد بسبب الفيروس المرعب، متمنيين أن يظل هذا الوطن السعيد واحة أمن وطمأنينة واستقرار وتعايش وتسامح وسلام …وأن يجنبه الله عز وجل شر الحاقدين والكارهين والطامعين والعابثين…

ونختم بتحية "جنود كورونا" الذين فرضت عليهم وظائفهم ومهنهم التموقع في الصفوف الأمامية في الحرب الشرسة ضد "كوفيد-19″، من أطباء وممرضين مدنيين وعسكريين ومسعفين ورجال أمن ودرك ملكي وسلطات ترابية ووقاية مدنية وصحافيين مهنيين، وتحية لا تقل أهمية، لكل الذين حاربوا في الصفوف الخلفية بحس وطني وتضحية ومسؤولية ونكران للذات، إسهاما منهم في حرب شرسة ليست كمثيلاتها … وكلهم "جنود كورونا" .. كلهم "جنود الوطن" …
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.