تغير مفاجئ.. هكذا نشرت قناة "فرنسا 3" خريطة المغرب    فلقاء الخطاط مع وزير الدفاع البريطاني السابق.. قدم ليه شروحات على التنمية وفرص الاستثمار بالأقاليم الجنوبية والحكم الذاتي    مجلس المنافسة كيحقق فوجود اتفاق حول تحديد الأسعار بين عدد من الفاعلين الاقتصاديين فسوق توريد السردين    برنامج "فرصة".. عمور: 50 ألف حامل مشروع استفادوا من التكوينات وهاد البرنامج مكن بزاف ديال الشباب من تحويل الفكرة لمشروع    الغالبية الساحقة من المقاولات راضية عن استقرارها بجهة طنجة-تطوان-الحسيمة    أول تعليق من الاتحاد الجزائري على رفض "الطاس" طعن اتحاد العاصمة    جنايات الحسيمة تدين "مشرمل" قاصر بخمس سنوات سجنا نافذا    خلال أسبوع.. 17 قتيلا و2894 جريحا حصيلة حوادث السير بالمناطق الحضرية    نشرة إنذارية.. أمطار قوية أحيانا رعدية مرتقبة بتطوان    طابع تذكاري يحتفي بستينية السكك الحديدية    مقتل فتى يبلغ 14 عاماً في هجوم بسيف في لندن    الأمثال العامية بتطوان... (586)    المهمة الجديدة للمدرب رمزي مع هولندا تحبس أنفاس لقجع والركراكي!    نقابي: الزيادة في الأجور لن تحسن القدرة الشرائية للطبقة العاملة والمستضعفة في ظل ارتفاع الأسعار بشكل مخيف    الدوحة.. المنتدى العربي مع دول آسيا الوسطى وأذربيجان يؤكد على ضرورة الالتزام باحترام سيادة الدول واستقلالها وضمان وحدتها    محطات الوقود تخفض سعر الكازوال ب40 سنتيما وتبقي على ثمن البنزين مستقرا    لأول مرة.. "أسترازينيكا" تعترف بآثار جانبية مميتة للقاح كورونا    هجرة/تغير مناخي.. رئيس الجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا يشيد بمستوى التعاون مع البرلمان المغربي    من يراقب محلات بيع المأكولات بالجديدة حتى لا تتكرر فاجعة مراكش    في عز التوتر.. المنتخب المغربي والجزائري وجها لوجه في تصفيات المونديال    ليفاندوفسكي: "مسألة الرحيل عن برشلونة غير واردة"    بلينكن يؤكد أن الاتفاقات الأمنية مع السعودية لتطبيع علاقاتها مع إسرائيل شبه مكتملة    مساء اليوم في البرنامج الأدبي "مدارات" : المفكر المغربي طه عبد الرحمان.. بين روح الدين وفلسفة الاخلاق    ستة قتلى في هجوم على مسجد في هرات بأفغانستان    وزارة الاقتصاد: عدد المشتركين في الهاتف يناهز 56 مليون سنة 2023    توقيف نائب رئيس جماعة تطوان بمطار الرباط في ملف "المال مقابل التوظيف"    دل بوسكي يشرف على الاتحاد الإسباني    مساعد الذكاء الاصطناعي (كوبيلوت) يدعم 16 لغة جديدة منها العربية    تعبئة متواصلة وشراكة فاعلة لتعزيز تلقيح الأطفال بعمالة طنجة أصيلة    الدورة ال17 من المهرجان الدولي مسرح وثقافات تحتفي بالكوميديا الموسيقية من 15 إلى 25 ماي بالدار البيضاء    مقاييس الأمطار بالمملكة خلال ال 24 ساعة الماضية    استهداف المنتوج المغربي يدفع مصدرين إلى التهديد بمقاطعة الاتحاد الأوروبي    توقيت واحد فماتشات البطولة هو لحل ديال العصبة لضمان تكافؤ الفرص فالدورات الأخيرة من البطولة    تم إنقاذهم فظروف مناخية خايبة بزاف.. البحرية الملكية قدمات المساعدة لأزيد من 80 حراك كانوا باغيين يمشيو لجزر الكناري    "الظاهرة" رونالدو باع الفريق ديالو الأم كروزيرو    الريال يخشى "الوحش الأسود" بايرن في ال"كلاسيكو الأوروبي"    "أفاذار".. قراءة في مسلسل أمازيغي    أفلام بنسعيدي تتلقى الإشادة في تطوان    الملك محمد السادس يهنئ عاهل السويد    ثمن الإنتاج يزيد في الصناعة التحويلية    صور تلسكوب "جيمس ويب" تقدم تفاصيل سديم رأس الحصان    دراسة علمية: الوجبات المتوازنة تحافظ على الأدمغة البشرية    ارتفاع حصيلة العدوان الإسرائيلي على غزة إلى 34 ألفا و535 شهيدا منذ بدء الحرب    التنسيق الوطني بقطاع الصحة يشل حركة المستشفيات ويتوعد الحكومة بانزال قوي بالرباط    فرنسا تعزز أمن مباني العبادة المسيحية    العثور على رفاة شخص بين أنقاض سوق المتلاشيات المحترق بإنزكان    عرض فيلم "الصيف الجميل" للمخرجة الإيطالية لورا لوتشيتي بمهرجان تطوان لسينما البحر الأبيض المتوسط    فيلم من "عبدول إلى ليلى" للمخرجة ليلى البياتي بمهرجان تطوان لسينما البحر الأبيض المتوسط    "النهج" ينتقد نتائج الحوار الاجتماعي ويعتبر أن الزيادات الهزيلة في الأجور ستتبخر مع ارتفاع الأسعار    مدينة طنجة توقد شعلة الاحتفال باليوم العالمي لموسيقى "الجاز"    تكريم الممثل التركي "ميرت أرتميسك" الشهير بكمال بمهرجان سينما المتوسط بتطوان    توقعات طقس اليوم الثلاثاء في المغرب    حمى الضنك بالبرازيل خلال 2024 ..الإصابات تتجاوز 4 ملايين حالة والوفيات تفوق 1900 شخص    المفاوضات بشأن اتفاق الاستعداد للجوائح بمنظمة الصحة العالمية تدخل مرحلتها الأخيرة    هيئة كبار العلماء السعودية: لا يجوز الذهاب إلى الحج دون تصريح    السعودية: لا يجوز الحج في هذه الحالة.. ويأثم فاعله!    قبائل غمارة في مواجهة التدخل الإستعماري الأجنبي (8)    الأمثال العامية بتطوان... (584)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ثورة الياسمين في رحاب رسالة الغفران
نشر في طنجة الأدبية يوم 25 - 01 - 2011

بينما كنت غافلا عن ذكر الله، منغمسا في شبهات الدنيا وملذاتها، ومستسلما كعبد عربي لطغاتها ومفاتنها، إذا بملاك "البرقيات السماوية اللاسلكية" يقف بعجلة لا معهودة على رأسي قائلا:
- استعد للسفر البُراقي يا أبا اليزيد !
ولم أحر جوابا لأول وهلة، لأني كنت متوهما نفسي غارقا في حلم عميق. وإذا بالملاك يجذبني جذبة شديدة، خلت فيها بأن روحي، على وشك أن تزهق من جسدي، وهو يردد قائلا:
- تهيأ قلت لك للسفر الرباني ! لأننا في بضعة ثواني سنكون هنالك.
وما هي إلا لمحة عين، وإذا بي في عالم عجيب، لا عهد لي ولا لخيالي به من قبل. انتبهت لنفسي وقد حط بي الملاك المجنح، على مدخل بوابة جوهرية، علقت على واجهة مدخلها لوحة فضية، نقشت عليها بأحرف من ذهب، عبارة " جنة الرحمة". وإذا بشيخ وقور تحيط به هالة ضوئية، وتعلو قسماته مسحة إشعاع رباني، والنور يسعى بين يديه، وكأنه موقد من شجرة لا شرقية ولا غربية، واقف في انتظاري. حينها، استدار فيّ الملاك البراقي قائلا:
- هو ذا شيخ المعرة في انتظارك عند مدخل جنة الرحمة ! واختفى متبخرا في رمشة عين، مخلفا بعد اختفائه شرارات ونجوم برقية هنا وهناك.
وبقيت في حيرة من أمري، حين خرج الشيخ الوقور فجأة من حالته التأملية، وتقدم باتجاهي ماشيا، ثم سلم علي قائلا:
- أنا من بعث في استحضارك عندنا.
- شيخ المعرة ! قلت مستغربا، وأنا غير مصدق.
- نعم شيخ المعرة نفسه، أبو العلاء المعري، ذاك الذي كان دميم الخلقة، قصير القامة، نحيف الجسم، ضعيفه، ومشوه الوجه بآثار الجدري والعمى. هو ذا نفسه، الذي يقف أمامك الآن مبصرا. والذي بعث في طلبك، ليطلعك على تتمة "رسالة الغفران"، وليكشف لك عن أسرار مدهشة، كان يجهلها بنفسه، في دار الفناء. وهذه الهيأة التي ترى الشيخ عليها، ليست سوى محض تصور ذهني. لأننا نحن مخلوقات الجنة الأبدية، لسنا محكومين بأجسادنا ومتطلباتها، لأن الأجساد عندنا، ليست سوى محض خدعة بصرية. إننا في الواقع نعيش بحقيقة جوهر أرواحنا الخالدة. والمخلوق منا نحن سكان الدار الباقية، إذا ما تصور ذهنيا أي شيء، أصبح حقيقة بصرية ومادية ملموسة لديه. فأنا على سبيل المثال، إذا خطر بتصوري الذهني، أن أظهر في حالة شاب في مقتبل العمر، حصل لي ذاك التصور مباشرة. وقس هذا التصور الذهني على كل ما بإمكانه أن يخطر بالبال.
"سبحان الذي لا يموت ! " قلت في نفسي، وأنا كلي حيرة من هذه الرحلة الإعجازية، ومن هذه القدرة التصورية الذهنية الخارقة، ومن هذا الاختيار الذي وقع علي، أنا بالذات بخلاف سائر البشر. والسبب الخفي من وراء هذه الدعوة الفردوسية. وكمن يقرأ في نفسي ككتاب مفتوح، ابتسم الشيخ الوقور وقال لي مستدركا:
- ألإختيار يا أبا اليزيد، قد كان من باب الصدفة المحضة لا غير. لقد طلبنا، وأقصد أنا وشقيقي المتنبي وزمرة من شعراء الحماسة، من ملاك "خزينة التراث"، أن يأتينا بآخر مخلوق دنيوي، قرأ "رسالة الغفران"، فكنت أنت.
قاطعته وأنا ممتلئ بالاندهاش والحيرة:
- بالفعل، لقد كنت بصدد قراءة آخر صفحة من رسالتك للشيخ ابن القارح، حين فاجأني "الملاك البرقي" ومضى بي بسرعة تسبق سرعة الضوء، على متن آلته البراقية العجيبة، مسافرا بي إلى هنا.
ولكن الشيخ بوقاره المعهود، لم يقاطعني كما قاطعته، بل تركني لغاية ما أتممت كلامي، ثم دعاني بعدئذ، بأدب لا يليق إلا بسكان جنة الرحمة، إلى الدخول معه لروضة السكينة. واتخذ كل منا مقعده أمام الآخر، ثم نزلت الطلبات الشهوانية المتصورة في نفوسنا، من حليب، وعصير كوثر، ونبيذ، وحلوى مختلفة المذاق، والألوان، من تلقاء نفسها أمامنا، وأنا لا أزداد إلا دهشة، لولا أن استدركني الشيخ الوقور:
- كما علمت يا زائري الكريم، لقد كان الاختيار، مجرد مصادفة دنيوية، أما فيما يتعلق بالرسالة السرية المتعلقة بهذا الاستدعاء الفجائي، فإنها ذات أهمية قصوى بالنسبة لنا سكان "جنة الرحمة". وكل هذا قد ابتدأ بقدوم المغفور له، محمد البوعزيزي عندنا في الأسبوع المنصرم، وب"ثورة الياسمين" التي وصلتنا بعده ...
وتغرغرت عيون الشيخ بالدموع، وقد سرح بعيونه في أطراف الكون اللاّ متناهية، والسكينة المطلقة قد خيمت علينا برحمة إلهية لا مثيل لها، فاغتنمت الفرصة مواسيا له:
- أو تبكي يا شيخي الجليل؟
- كلا إنه مجرد تصور ذهني، إنها دموع الفرح، بل دموع الرحمة. تصور بأني فارقت الدار الفانية، وأنا في شدة اليأس والعزلة والقنوط من رحمة الله، من بني جنسي. أو ما سمعت قولي؟:
تَعَبٌ كُلّها الحَياةُ فما أَعْجَ
بُ إلاّ مِنْ راغِبٍ في ازْدِيادِ
وقولي أيضا متضجرا من البشر:
قد فاضَت الدُّنْيا بأدناسِها
على بَراياها وأجْناسِها
وكلُّ حَيٍّ بها ظالِمٌ
وما بها أظْلَمُ من ناسِها
وبالرغم من كل ذاك التشاؤم الدنيوي الذي كان يطغى علي، فأنا كنت من الموحدين، وهذا قولي يشهد علي:
أَثْبَتُّ لي خالِقا حكيما
ولَسْتُ من مَعْشَرِ نُفاةِ
قلت وبفضل هذه الخصلة التوحيدية، شفع فيّ نبينا وأدخلني المولى إلى هذه الجنة الفريدة، التي اختصها برحمته، لكل من فارق الدار الفانية يائسا، وفي قلبه ذرة من التوحيد.
- و الشهيد محمد البوعزيزي كيف دخل على جنتكم هذه؟
وعدل الشيخ الوقور من جلسته، وقد كان قد بدأ بالانزلاق في يومياته الدنيوية المنصرمة، ورجع عائدا من شروده، وهو كله اطمئنانا بحياته الفردوسية الخالدة، واستدرك قائلا:
- قلت لك يا أبا اليزيد، بأني قد خرجت من الدار الفانية، وأنا كلي تذمر من العروبة، ولم يحصل لي معاصرة تلك الثورة العربية، التي كنا ننتظرها في زمننا ونترقب حصولها، مثلنا مثل أولائك الذين كانوا يحلمون بها من قبلنا. تصور يا أبا اليزيد حظكم بها ومنها، بعد أكثر من ألف سنة من الانتظار. نعم إنها أول ثورة في وجه الطغاة، شعبها شعب عربي مسلم، ثورة تكتب بدم إرادة شعب بأكمله. تكتب يا عزيزي، ليس للعرب وحدهم، بل للإنسانية جمعاء.
واستغربت بهذا الاهتمام، الذي ما زال يوليه الشيخ الجليل لهذه الإنسانية، التي كان متضايقا منها لما كان، وقد أصبح ولا خوف عليه من سكان الدار الخالدة، ومع ذلك ما زال اهتمامه التصوري الذهني، عالقا بأخبارها. فسألته مستوضحا عن هذا الحبور بحدث دنيوي عابر:
- وما شأنكم أنتم يا شيخي الجليل بهذا الحدث؟
فأجابني ودموع الفرح، ما تزال تقاطر على لحيته الغراء مثل حبات جواهر:
- لقد نلتم حظكم منها كما نلنا نحن حظنا أيضا.
- وكيف ذاك؟
- بمعاصرتكم الدنيوية لها من جهة، وبدخول الشهيد محمد البوعزيزي إلى جنتنا الرحيمة من جهة أخرى.
- أولم يحرق البوعزيزي نفسه، فيحق عليه غضب الله الذي حرم علينا هذا؟
واستوى الشيخ الجليل في جلسته، وعدل من هيأته ومن بردته اليمانية السوداء، المسبوكة بخيوط ذهبية، ثم توجه إلي بالكلام من جديد:
- ولله في خلقه شؤون، أو لم تطلع على رسالتي، أو لم تر كم من بئيس وجاهلي دخل الجنة بسبب فضلة خير أو ذرة إيمان أو كلمة حق؟
- بلى أجبته.
- فكذلك حال البوعزيزي، قال لي. فهذا الشاب البريء بسبب فساد مؤسسات الدولة، واستبداد الطغاة، قام بسبب حالة يأس نفسي بما ينهى عنه الشرع، وهو لا يدري بأنه يقدم لشعبه رسالة الحرية، لتحريره من نير العبودية والاسترقاق. ولقد تلقى الشعب التونسي البطل، مضمون الرسالة، وفهم معناها المجازي، ومن لحظتها اعتبر كل مواطن تونسي نفسه، مسئولا عن مأساة البوعزيزي الذي أصبح بهذه المناسبة، شهيدا للحرية الجماهيرية الآنية، والقادمة وعودها في جميع الأقطار المستبدة، بدون استثناء، إن شاء الله. وأصبح بالمناسبة ممن تحولت تضحيتهم، رمزا لثورة المستضعفين والمعذبين في الأرض.
فأجبته وقد اطمأنت نفسي:
- الآن أدركت لغز "ثورة الياسمين"، التي فجرها البطل الشهيد البوعزيزي.
وفي هذه اللحظة اخترقت آفاق "جنة الرحمة" تكبيرة آذان فريدة من نوعها، أثارت انتباهي أنا بالخصوص، أنا الزائر الغريب لهذه الديار الفردوسية، فسألت الشيخ الجليل عنها:
- ما هذا الآذان يا سيدي الشيخ؟
فأجابني وابتسامة الفخر العربية قد ارتسمت بريقا في عينيه:
- إنها تكبيرة النصر للثورة التونسية. فكلما سقط طاغية في بلد ما من دار الفناء، كبر عندنا ملاك الكرامة والحرية، على مئذنة السلام. وتصور، بأن ما يخص شعوبنا العربية، فهذه أول تكبيرة منذ زمن سحيق.
وهب الشيخ الجليل من مقعده واستدعاني لزيارة قصر الحماسة، حيث تنتظرنا بعض الشخصيات الأدبية، للاحتفاء بهذه الثورة العربية الجليلة.
ومشينا بين صفوف أشجار كرز مزهرة، وحدائق من شتى أنواع الورود الناضرة، التي لم أر من قبل قط، مثيلا لها، أو شبها، في دنيا بني آدم. وحين وصلنا إلى ضفة نهر قزح، خطر ببالي المشي على ماء النهر، وإذا بي وشيخ المعرة الجليل، نتمشى كلانا بمرح وخيلاء على الماء، لغاية ما عبرنا للضفة المقابلة. ثم دخلنا في ممر تشع تربته من بريق الجوهر الخالص، في اتجاه قصر الحماسة. وفي هذه اللحظة، طلعت علينا من الاتجاه المقابل، كوكبة من حور العين، يرفلن في قفاطينهن الحريرية والمخملية المجوهرة، كشموس مجرية تسبح نورا في آفاق اللانهاية. وعبرن على مقربة منا، وهن يزغردن تارة، وطورا ينشدن بإيقاع غنائي جماعي، مطلع قصيدة أبو القاسم الشابي:
إذا الشَّعْبُ يَوْمًا أَرادَ الحَياة
فَلا بُدّ أنْ يَسْتَجيبَ القَدَر
ولا بُدّ لِلّيلِ أَن يَنْجَلي
ولا بُدّ لِلْقَيْدِ أنْ يَنْكَسِر
فالتفت إلى الشيخ الجليل، وبي رغبة ملحة في استطلاعه عن هذا الموكب الحوري، وقبل أن أسأله بادرني مجيبا:
- أتصور بأنك تتحرق شوقا لمعرفة مغزى هذا الاحتفال؟ نعم إنهن يحتفلن بعرس الثورة التونسية، هذا الذي سيصبح عندنا، وأقصد في تصورنا الذهني، عيدا سنويا من أعياد جنتنا الخالدة. وهن، بالمناسبة، يفخرن بشقيقاتهن من النساء والبنات التونسيات، اللائي أصبحن رمزا ومفخرة للمرأة الحرة.
إلى هنا لم أعد قادرا على حبس نفسي عن الكلام، فبادرته قائلا:
- والله إن هذا المظهر الفردوسي، لا يزيدني إلا افتخارا واعتزازا، فيما حققناه في دارنا الفانية من عطاء للإنسانية، بثورتنا العربية التونسية الخالدة.
- وأجابني الشيخ الجليل:
- بل حتى نحن سكان هذه الدار الباقية، نعيش بتصورنا الذهني، هذا الحدث الدنيوي التاريخي، كعرس لم يعرفه العرب من قبل قط، إلا بحدث عبقرية الإسلام. والآن تقدم لأقدمك لضيوفنا.
ودخلنا إلى قصر بديع، تكاد تكون هندسته ونقوشه المعمارية والفنية صورة طبقا لأصل الصنعة الإسلامية الأندلسية، واعتقدت بأن هذه المشاهدة هي من وحي تصوري الذهني الخالص، الذي ما زال عالقا بذكرياتي المتعلقة بالدار الفانية. وحين عبرنا نحو الفناء المؤدي مباشرة إلى أسطوانة المضافة، فوجئت وأنا أتطلع بنظري نحو السماء، حيث كان ثمة تسبيحا توحيديا ملائكيا، بأن السقف كان سماوي الصنع، تناثر فيه الملايين من النجوم المتلألئة، على شاكلة قناديل عربية ألف ليلية. وبعد تحية السلام المعهودة عند جميع قطان الجنات الإلهية، قادني الشيخ الجليل نحو السرر الموضونة، والبسط المزدانة بالوسائد والطنافيس النفيسة. واتخذنا مقعدنا، "متكئين عليها متقابلين"، في شكل حلقة دائرية، من بين الضيوف المؤلف جمعهم، من حور عين، ورجال يتلونون في ثيابهم الفاخرة، كما تلون في أثوابها الغول. وقد راح الولدان المخلدون يطوفون علينا "بأكواب وأباريق وكأس من معين". وحين خيمت السكينة الرحمانية على الحضور، قام من بين الضيوف رجل طويل القامة، عريض المنكبين، ذا لحية شديدة السواد، وقد تعمم بقلنسوة خضراء، وهو يرفل في تلك البردة، التي كان قد وهبها نبينا محمد صلوات الله عليه، للشاعر كعب بن الزهير، وتقدم نحو وسط الدائرة، وتوجه إلينا قائلا:
- أنا الشاعر أبو الغول الطَّهَوي، من قبيلة بني طَهِيّة، وقد أخبر عني ابن النديم في كتابه "المختلف المؤتلف"، بأنه لا يعرف عن أصلي كثيرا، ولا يعرف لأي عصر أنتمي. فأنا إذن قد خرجت من الدار الفانية مجهول الهوية. على كل حال إنني هنا من خواليد "جنة العرفان". وهي كما تعرفون، جنة أنعم بها المولى برحمته، التي لا تفوقها رحمة، على كل الذين قدموا إلى هنا بلا هوية. وبسبب شعري الحماسي، بعثني سكان جنتي لأحتفي معكم هذه الليلة، بثورتنا التونسية العزيزة، بهذه الأبيات:
فَدَتْ نَفْسي وما مَلَكَتْ يَميني
فَوارِسَ صَدَّقْتُ فيهِم ظُنوني
فَوارِسُ لا يَمَلّونَ المَنايا
إذا دارَتْ رحى الحَرْبِ الزّبونِ
ولا تَبْلى بَسالَتُهُم وإنْ هُمُ
صَلوا بِالحَرْبِ حينًا بَعدَ حينِ
وحين انتهى من الإنشاد عاد إلى مجلسه، وقد لحقت بوسط الحلقة حورية ترفل في هالة من الجمال. وتقدمت قائلة:
أنا الشاعرة الكنانية، جمعة بنت الخُسّ، وكان عرب الجاهلية يلقبونني بالحكيمة، وبهذا الفضل تداركني المولى برحمته، وأدخلني إلى جنة الحكماء، ومنها أتيت محملة بهذه الأبيات، التي سألقيها بين أيديكم، تحية من إخواننا المنعمين بالدوام، للشعب التونسي الخالد:
أَشَدُّ وُجوهِ القَوْلِ عند ذوي الحِجى
مقالةُ ذي لُبٍّ يقول ُ فَيوجِزُ
وأفْضلُ غُنُم يُستفاد ويُبتغى
ذَخيرةُ عقلٍ يَحتويها ويُحْرِزُ
وخيرُ خلالِ المَرْء صِدْقُ لِسانِه
وللصّدقِ فَضْلٌ يَستَبينُ ويَصْدُقُ
وإنجازُكَ المَوْعودَ مِن سَببِ الغِنى
فَكُن موفِيا بِالوَعْدِ تُعطي وتُنجِزُ
ولا خَيْرَ في حُرٍّ يُريكَ بَشاشَةً
ويَطْعَنُ مِن خَلْفٍ عَلَيْكَ ويَلْمِزُ
إذا المَرْءُ لم يَسْطَع سِياسَةَ نَفْسِه
فإنّ بِه عَن غَيْرِها هُو أَعْجَزُ
وانتهت من الإلقاء وعادت لمجلسها في جو من الزغاريد والتهليل الشاعري، وقد هب قادما من عن يمين الدائرة مدعو آخر. وحين صار في نقطة الدائرة، توجه إلينا قائلا:
- أنا جعفر بن عبلة الحارثي، شاعر من المخضرمين، وأقصد الدولتين: الأموية والعباسية. ولقد جئتكم زائرا، من جنة تواجد على مسافة خمس مئة سنة ضوئية، من جنتكم هذه. وجنتنا تدعى ب"جنة الشهداء"، لأن المولى قد خصصها للذين ماتوا شهداء في الدفاع عن أمانة رسالة قيمهم الإسلامية الخالدة. وحضوري بينكم اليوم، هو تضامننا نحن الشهداء، مع ثورة الياسمين. وأنا القائل:
لا يَكْشِفُ الغَمّاءَ إلاّ ابنَ حُرّةٍ
يَرى غَمَراتِ المَوْتِ ثُم يَزورُها
نُقاسِمُهم أسْيافُنا شَرَّ قِسْمَةٍ
فَفينا غَواشيها وفيهمُ صُدورُها
واكتفى بهذا القول وعاد على مجلسه، في حين برزت قادمة من على يمينه حورية زرقاء العيون، تخطر في حلل عربية. والشذى يتضوع منها قارسا على القلوب. وخلتها في بداية الأمر زرقاء اليمامة، حتى نطقت قائلة:
- أنا الأخرى شاعرة جاهلية، واسمي عُفَيرة بنتُ غَفّار الجَديسيّةُ. وأنا قدمت متضامنة مع شهداء الياسمين، من "جنة المستدرك". أي ممثلة لهؤلاء الذين تداركتهم رحمت الله وانتشلتهم من مهاوي الهاوية. وهذه الجنة، قد خصها الرحمان برحمته، لمن مات مغتالا أو مغتصبا، من قبل الحكام المجرمين وكلابهم البوليسية. وأنا القائلة:
أَيَصْلُحُ ما يُؤتى إلى فَتياتِكُم
وأنتُم رجالٌ فيكُمُ عَددُ النّملِ
وتُصْبِحُ تمشي في الدّماءِ عُفَيْرَةٌ
عَشِيّةَ زُفّتْ في الدّماءِ إلى بَعْلِ
فإنْ أنتُم لم تَغْضبوا بعدَ هذِه
فكونوا نِساءً لا تُعابُ منَ الكُحْلِ
ودونَكُم طيبُ العَروسِ فإنّما
خُلِقْتُم لأَثْوابِ العَروسِ ولِلْغَسْلِ
فَلَو أَنّنا كُنّا رِجالاً وأنْتُمُ
نساءً لكنّا لا نُقيم على الذُّلِّ
فبُعداً وسُحْقاً للّذي لَيْسَ دافِعًا
ويَخْتالُ يَمْشي بَيْننا مِشْيَةَ الفَحْلِ
فموتوا كِراماً أو أميتوا عَدُوّكُم
ودُبّوا لِنارٍ الحَرْبِ بالحَطَبِ الجَزْلِ
وما كادت تنهي من إلقائها، حتى طارت حمامات سلام بيضاء، ترفرف مُحوِّمَة على رؤوس الضيوف، وقد خلتها من تصوري الذهني الخالص، أنا الذي ما يزال يحلم بسلام عام وشامل لسكان معمورتنا الفانية. وقدم منشد آخر، وتوسط الحلبة قائلا:
أنا شاعر إسلامي، وقد أدركت العصر الأموي، حيث اعتدي علي من قبل الحجاج وأحرقت داري. ولكني بسبب الإيمان العميق الذي كان يسكنني، كما يسكن الشعب التونسي اليوم، قمت مدافعا عن حقوقي غير هياب ولا متخوف من السلطة الجائرة. وأنا الآخر قد قدمت من جنة الشهداء، وأنا القائل:
سَأغْسِلُ عنّي العارَ جالباً
عليَّ قَضاءَ اللهِ ما كانَ جالِبا
وأذْهَلُ عنْ داري وأجعلُ هَدْمَها
لِعِرْضي من باقي المَذَمّةِ حاجِباً
ويَصْغُرُ في عَيْني تَلادي إذا انْثَنَتْ
يَميني بِإدراكِ الذي كُنْتُ طالباً
فإنْ تَهدِموا بالغَدْرِ داري فإنّها
تُراثُ كريمٍ لا يبالي العَواقِبا
إذا الهمّ لم تُرْتَدَعْ عزيمَة هَمّهِ
ولم يَأتِ ما يَأْتي من الأمْرِ هائباً
وصفق جميع الحضور لهذا الإنشاد الرائع. وعاد شاعرنا إلى مجلسه، وقامت كشمس خارجة من نور مجراها، حورية أخرى، وقد تحجبت على غرار المرأة المسلمة، واتخذت موقعها من وسط الحلقة قائلة:
أنا شاعرة جاهلية، واسمي الفارعَةُ بنتُ شدّاد. ولقد قدمت من "جنة المراثي". ونحن من شفع فينا المولى بسبب حزننا الشديد ورثائنا المؤثر، في تمجيد أبطالنا الذين ماتوا وهم يدافعون عن قضايا عادلة. وبالفعل جئت أنا أيضا، احتفاءً بعرس الياسمين، وأنا القائلة:
يا مَنْ رَأى بارِقاً بِتُّ أَرْمُقٌهُ
جَوْداً على الحَرّةِ السّوداءِ بالوادي
أسْقي به قَبْرَ من أعْني وحُبَّ بِهِ
قَبْراً إليَّ ولو لم يَفْدِهِ فادي
شَهّادُ أندِيَةٍ رَفّاعُ أَبْنِيَةٍ
شَدّادُ أَلْوِيَةٍ فتّاحُ أسْدادِ
نَحّارُ راغِيَةِ قتّالُ طاغِيَةٍ
حَلاّلُ رابِيَةٍ فَكّاكُ أقْيادِ
قوّالُ مُحْكَمَةٍ نَقّاضُ مُبْرَمَةٍ
فراّجُ مُبْهَمَةٍ حبّاسُ أورادِ
حَلاّلُ مُمْرِعَةٍ حمّالُ مُضْلِعَةٍ
قَرّاعُ مُفْظِعَةٍ طَلاّعُ أنْجادِ
وفرغت من إنشادها، وقد بدت علامات الافتخار على محياها، وقابلها الحضور بحفاوة كبيرة وعادت إلى مجلسها الملائكي. وأتى قادما في لباس عسكري إسلامي زائر آخر، تخيلته في بداية الأمر سيف الإسلام، خالد بن الوليد، لما كان يبدو عليه من الوقار والشدة وعزة النفس. وحين اتخذ مكانه من وسط حلقتنا، قدم لنا نفسه قائلا:
أنا شاعر إسلامي، واسمي موسى بن جابر. ولقد عشت حياتي دفاعا عن الحقيقة، لذا فأنا من سكان جنة الحق. وتواجدي معكم اليوم بالنيابة عن بني قومي الخوالد، الذين وكلوني بإنشاد ما قلته في هذا الشأن تضامنا مع حق الشعب التونسي. وأنا القائل:
أَلَمْ تَرَيا أَنّي حَمَيْتُ حَقيقَتي
وباشَرْتُ حَدّ المَوْتِ والمَوْتُ دونَها
وجُدْتُ بِنَفْسٍ لا يُجادُ بِمِثلِها
وقُلْتُ اطْمَئِنّي حينَ ساءَتْ ظُنونُها
وما خَيْرُ مالٍ لا يَقي الذّمَّ رَبَّهُ
بِنَفْسِ امْرِئٍ في حَقِّها لا يُهينُها
وانتهى من إنشاده، وقد سمعنا حفيف طيور الجنة، وهي تسبح امتنانا بهذا الإنشاد الرائع. وبالمناسبة، إن مخلوقات الجنة، لهم قدرة عجيبة بفعل التصور الذهني، في أن يتشكلوا ويبدوا في كل الهيآت المتخيلة تصورا. فإمكان الرجل منهم مثلا أن يتصور نفسه طائرا وإذا به كذلك. أو أن يتصور نفسه غمامة أو فرسا أو طائرا أو نجمة، بل حتى عجوزا في أرذل العمر. ولكن كل هذا ليس إلا من قبل المشاهدة الخارجية الخادعة. أما في جوهر الأمر وحقيقته الداخلية، فإن المخلوق ذكرا كان في الأصل أو أنثى، يشعر بهويته الخالدة بماهية تكوينه الروحي. وهذه الروح العجيبة، هي التي أخبرنا بها تعالى" ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا".
وهكذا مضى صاحبنا وقدمت حورية أخرى زرقاء العيون، وقد اكتحلت بالإثمد العربي الخالص، فتفتحت نجالة عيونها، وتجملت بعيون لا يراها الرائي من بني آدم، إلا وأغمي عليه من السحر الفاتن، وقد قصرت من شعرها على شاكلة غلمان العصر العباسي، وتصدرت مكان الإلقاء قائلة:
- أنا شاعرة جاهلية، واسمي زرقاء اليمامة، ولقد كانت لي هبة النظر البعيد. وكنت قد حذرت أهلي ذات يوم، من خطر أعداء يحدقون بهم، وقد قدموا مختفين بأغصان الشجر. فعجبوا من قولي بأني أرى أشجارا تمشي. فكانت المأساة، وقتل أهلي، وقتلت معهم جورا، بعدما سملت عيوني. ولكن المولى العزيز، مد لي يد الرحمة وألحقني بجنة المستدركين" فحق بذاك العفو عني، ودخلت على الدار الباقية، ولي رغبة في الإنشاد، تضامنا مع العدالة التونسية. وهذا قولي:
خُذوا لَهُم حِذْرَكُمْ يا قومُ يَنْفَعُكُم
فلَيْسَ ما قد أراهُ اليَومَ يُحْتَقَرُ
إنّي أَرى شَجراً من خَلْفِها بَشَرٌ
فَكَيْفَ تَجْتَمِعُ الأَشْجارُ والبَشَرُ
صُفّوا الطَّوائِفَ مِنكُم قَبْلَ داهِيَةٍ
من الأُمورِ التي تُخْشى وتُنْتَظَرُ
فقدْ زَجَرْتُ سَنيحَ القَومِ باكِرَةً
لوْ كانَ يَعْلَمُ ذاكَ القَوْمُ إذْ بَكَروا
إنّي أرى رَجُلاً في كَفِّهِ كَنِفٌ
أوْ يَخْصِفُ النَّعْلَ خَصفاً لَيْسَ يُعْتَذَرُ
ثوروا بأجْمَعِكُم في وَجْهِ أوّلِهِم
فإنَّ ذلِكَ مِنْكُم-فاعْلَموا- ظَفَرُ
وغَوِّروا كُلَّ ماءٍ دونَ مَنْزِلِهِم
فلَيْسَ من دونِهِ نَحْسٌ ولا ضَرَرُ
أو عاجِلوا القَوْمَ عِندَ اللّيْلِ إن رَقَدوا
ولا تَخافوا لها حَرْباً وإن كَثُروا
وانتهت من إنشادها، وعادت إلى مجلسها، مع حور العين اللائي بدون و"كأنهن الياقوت والمرجان"، على إيقاع رجعة ناي، لست أدري من كان من وراء تصورها الذهني. وقدم يدندن بإيقاع الحماسة، رجل تفيض عينيه من دموع البطولة، وحين استوى في مكان الإنشاد توجه نحونا قائلا:
- أنا سنان بن الفحل، أخو بني أم الكهف، من طيء. وأنا كما تعلمون شاعر جاهلي. ولقد نلت مرتبة الجنة، بما عرف عني من كرهي للظلم. وأنا اليوم من خوالد "جنة التعويض". ومقامي بينكم هنا من باب التضامن مع الشعب المظلوم، الذي أقام الدنيا الفاسدة وأقعدها، من أجل استرجاع حقوقه المستلبة منه. ويكاد هذا الظلم الذي مسني، يكون مطابقا لأصل ظلم خالدنا الجديد، الشهيد محمد البوعزيزي. وأنا القائل في موقف مثل هذا:
وقالوا قَدْ جُنِنْتَ فقُلْتُ كَلاّ
ورَبّي ما جُنِنْتُ وما انْثَنَيْتُ
ولَكِنّي ظُلِمْتُ فَكِدْتُ أَبْكي
مِن الظُّلْمِ المُبَيَّنِ أو بَكَيْتُ
وقَبْلَكَ رُبَّ خَصْمٍ قد تَمالوا
عَلَيَّ فما هَلِعْتُ ولا دَعَوْتُ
ولَكنّي نَصَبْتُ لَهم جبيني
وآلَةَ فارِسٍ حتى قَرَيْتُ
وانتهى من إلقائه الحماسي. وبينما هو عائد إلى مجلسه، وإذا بملاك لاسلكي يطلع علينا ببرقية أرضية عاجلة. وصمت الحضور بخشوع في حضرته، وتقدم قائلا:
- إن محطة الجزيرة ألإخبارية، قد أفادتنا بتصريح قوامه، أن شيخ الإسلام يوسف القرضاوي، قد تقدم بالعزاء لعائلة الشهيد محمد البوعزيزي، وبطلب من المولى عز وجل، الرحمة والغفران من المولى.
واختفى الملاك في لمح البصر، وتناول عقبه شيخ المعرة الكلمة قائلا:
- هذا خبر من أخوات كان، فلقد سبقت رحمة ربنا آمال البشر، هيا قوموا بنا لزيارة نافورة الأنوار الإلهية.
وخرجنا من باب الرضوان وقد تجملت السماء اللاّ متناهية بنافورات ماء عجيبة، تفيض عنها أقواس ضوء قزحية، معطرة بشذى سدرة المنتهى. وقد خرجت التصورات الذهنية من عنانها، فكان من عجائب تصورات الصنعة الإلهية، ما يمكن ترجمته بأقوال المتصوفة" فظن خيرا ولا تسأل عن الخبر". فاستدرت متعجبا في الشيخ الجليل، مسائلا إياه عن هذه القدرة التصورية:
- وكيف يحدث كل هذا؟
فأجابني:
- يا أبا اليزيد ! إنكم بنو الفانية، تعيشون أكثر ما تعيشون بفروجكم وبطونكم، أما نحن بنو الخلد، فإننا نعيش بجوهر الروح، ولا نعيش بمعدن صور المادة. وما التصورات الذهنية التي تراها سوى محض خيال، لأنه لا حساب عندنا، ولا عقاب، ولا فضيلة، ولا رذيلة. فاشته ما شئت لك من حور العين والملذات، فلن تغير من مظهرك شيئا. لأن المتعة الحقيقية عندنا، تكمن في صفاء جوهر الروح، التي لا يمكن أن يدرك سر حقيقتها، سوى من فاز بالدار الباقية.
وبينما نحن كذلك وإذا بالملاك البرقي يقف علينا قائلا:
- لقد انتهت مدة إقامتك بيننا يا أبا اليزيد ! وحان وقت إعادتك إلى الدار الفانية.
وتدخل الشيخ الجليل قائلا:
- هذا ما كنت قد تصورت قوله لضيفنا، لولا قدومك يا سيدي الملاك، فامهلني أن أسايره لغاية بوابة الوداع؟
- لك تصورات أمانيك قال الملاك، وغاب عن أبصارنا.
وسرت بصحبة الشيخ في اتجاه بوابة الخروج، وإذا برجل جليل مظهر الهيأة يعترض سبيلنا:
- كيف تترك ضيفنا ينصرف يا شيخنا الجليل قبل مقابلته؟
وأجاب الشيخ الجليل:
- لقد كان ذاك ما تصورت يا أبا الطيب المتنبي.
ولقد كانت فرحتي كبيرة، حين تعرفت في تصوري الذهني له، على هيأته الصورية المعروفة عندنا، في الدنيا واعتذرت له قائلا:
- للأسف الشديد إنني راحل الآن.
فأخذني بالأحضان قائلا:
- أعلم كل هذا، إلا أنني رغبت في لقائك. ولئن كنت قد تناسيتني، أنا الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، وأنا القائل:
وإنَّما النّاسُ بِالمُلوكِ وما
تُفْلِحُ عُرْبٌ مُلوكُها عَجَمُ
وأنا أيضا القائل:
فُؤادٌ ما تَكْسِبُه المُدامُ
وعُمْرٌ مِثلُ ما تَهبُ اللّئامُ
ودَهْرٌ ناسُهُ ناسٌ صِغارٌ
وإنْ كانَتْ لَهُم جُثَثٌ ضِخامُ
وما أَنا باِلعَيْشِ فيهُم
ولَكِن مَعْدِنُ الذّهَبِ الرّغامُ
أَرانِبٌ غَيْرَ أَنّهُم مُلوكٌ
مُفَتّحَةٌ عُيونهُم نِيامُ
نعم لقد رحلت غاضبا عن العروبة وملوكها، وأنا اليوم في يوم عرس بما جاءنا من خبر تاريخي بثورة الياسمين العربية، فهنيئا لكم، وشدوا على ثورتكم بالنجاد. كان الله معكم، ومع الباقي إن شاء الله. أما أنا، بالرغم من كل ما قيل عني، من تجبر وتنبؤ، فأنا قد أدخلني رب العزة مع أخي شيخ المعرة، إلى جنة الرحمة، بشفاعة سيد المرسلين الذي قلت فيه:
لمْ يَخْلقِ الرّحمانُ مِثلِ مُحَمّد
أَحَدًا وظَنّي أَنّهُ لا يَخْلُقُ
والآن وقد أحييت بتصوري الذهني، ثورتكم العربية التونسية، فامض على بركة الله ! فلقد عاد إلي فخري، وعادت إلي روحي العربية.
وودعت فارسنا المتنبي وشيخ المعرة، وعبرت من باب الرجوع، وإذا بي
بالملاك البراقي، قد اختطفني طائرا بي، على متن مركبته الفضائية البراقية. وصدى جملة طائشة لشيخ المعرة تلاحقني مذكرة " أوصيك بحبيبتنا فلسطين، لا تفرطوا فيها، إنها تاج قضيتكم ...لا... أبدا ... أبدا ... أبدا. وإذا بي أفيق من غيبتي، متواجدا بمقهى "إردال"، صحبة صديقي حسين عزوم، ونسخة من رسالة "الغفران " لأبي العلاء المعري، بين يدي. فقلت له متحيرا:
- والله يا أبا الحسن ما هي إلا رحلة بين النوم واليقظة.
فأجابني بابتسامة ساخرة:
- إذا صح تصورك الذهني يا أبا الخيال، فكل شيء ممكن.
-انتهت


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.