كنا صغيرات .... وحين نتخاصم وينقطع حبل الود بيننا ، نلجأ إلى بعض الأناشيد التي تعبر عما كنا نود قوله لغريماتنا، بعيدا عن الاشتباكات ومعارك الضرب التي كانت تجمعنا بين الحين والآخر. تعلو حينها أصواتنا مرددات : حامْ حيمو رَحْنا مْفارقينو لَعْديوَة المَصْفرة يعْطيها الطيارة من السْبيطر للميعارة لنكتشف، بعد أن كبرنا، أن الأغنية كانت لغيرنا؛ لأولئك الذين رحلوا فجأة ذات صباح واستقلوا سفينة بميناء الدارالبيضاء في ليلة غائمة أحجمت عن الإمطار. ربما كان صوت السفينة المعلن عن موعد الإقلاع دون انقطاع هو ما أرهب السماء يومها ، وجعل المطر ينحبس، أوهي دقات الخطوات المسرعة في كل الاتجاهات مثيرة نقعا يتطاير ليعلو بعيدا في السماء . أو هو حزن السماء على مدينة نائية ستطوقها من كل الأنحاء جحافل بشر رحلوا دون عودة ...ودون ميعاد... وبلا سبب . سيفتكون سكانها، «ويذبحون أولادها ، ويستحيون نساءها ، وذلكم بلاء من ربكم عظيم «. كنت كلما زرت أبي في دكانه الصغير أراها جالسة شاردة ترتدي، باستمرار، لباسا أسود. تجمع شعرها الأبيض في شكل دائري، ولا تغادر مكانها إلا ليلا عندما تغلق جميع الدكاكين والمقاهي المجاورة ، وتعلن المدينة الصغيرة لساكنتها عن موعد إسدال الستائر على نهار يولج في الليل . كانت أول المستيقظين وكأنها تبحث بين المارة عمن يؤنس وحدتها، أوعمن تبوح له بسر دفين يثقل كاهلها ، أوكأنها كانت تدبر لشيء ما تخفيه . كنت دوما ألحظ حزنها وشرودها، فاعتقدت أنها لا تستطيع العيش خارج تلك الحالات النفسية الكئيبة التي لم أعرف لها سببا . كان اسمها عيشة اليهودية . حين همت بالرحيل باعت كل ممتلكاتها لشخص واحد، ومن بينها دكاكين كانت في حوزة صناع كانوا قد اشتروها منها منذ زمن بعيد. باعت للمالك الجديد الدكاكين ولم تخبر أصحابها بأي شيء. باغتهم الرجل ذات صباح وأمرهم بالإفراغ . بحثوا عن عيشة ولم يجدوها . رحلت ولم تخلف سوى أغنيتها التي لم نكن نفهمها، وصار الصناع يرددونها في صمت بعد غيابها : حام حيمو راحنا مفارقينو لعديوة المصفرة يعطيها الطيارة من السبيطر للميعارة........... إلى أن أغمي عليهم .ثم وجدوا أنفسهم في الشارع بلا عمل وبلا محل للعمل . منوا أنفسهم أن تعود عيشة لتحل مشاكلهم. أشفق عليهم المالك الجديد وهو يراهم مجتمعين يرددون في صمت أغنية عيشة. أمرهم بالتزام بيوتهم في انتظار أن يرمم الدكاكين التي لن يعيدها إليهم أبدا.