دفنا الأستاذ سالم يفوت مساء أول أمس السبت بعد صلاة العصر. جرت مراسيم الدفن في تواضع جم: ما حضرها سوى أهل الفقيد وثلة من زملائه وقليل من قدماء تلامذته ممن تمكنوا من الحضور. وما ضر الرجل ذلك، لا ولا ينبغي أن يضره، هو الذي جعل من التواضع سيرة له. هكذا ينطفئ العظماء في صمت وفي تواضع وفي استحياء، ولسان حالهم يردد القول الصوفي: رب إن الغمرة أحب إلي من الشهرة، وحب الانغمار أرحب لبالي من حب الظهور. أذهلني منظر قبره وهو يوارى الثرى: حنت طينة جسده المعذب إلى طينة أرض المقبرة. فما تعرفت على جثمان الفقيد لما وضعوه في رمسه. أهو ذا، يا ترى، الرجل ذو البنية الرياضية الذي كان حضوره الجسماني يكتسح قاعة الدرس وصوته المجلجل يبلغ الداني والقاصي؟ يا للعجب، ما عاد جثمان الرجل سوى رجع ذكرى جسد قوي البنية، وذلك من أثر طول معاناته مع المرض العضال الذي ألم به. وما كان الرجل يتحدث عن مرضه أبدا أو يحدث به، ولا هو كان يشتكي من أي كان لأي كان. فلعله كان يتمثل بنصيحة نيتشه: إذا أضناك المرض فلا تحدث به، وإنما تحدث الحديث عن الصحة، حدث الناس عن صحتك ولا تحدثهم عن مرضك! أو لعله كان دائم التذكر لنصيحة سارتر إلى ألبير كامي لما هو كتب هذا كتابا سوداويا يتبرم فيه بأشد تبرم يكون من العيش: إذا تعبت، يا كامي، خذ لنفسك يا هذا قسطا من الراحة، ولا تسقط تعبك على العالم، فترسم سوادا على سواد! أثار انتباهي رقاده تحت شجرة. قلت في نفسي: كان الرجل شجرة معرفة لا فناء لثمارها، وشجرة كبرياء وأنفة وعزة نفس، حتى أنه رفض أن يتم تعويضه عن سنوات الاعتقال والتعذيب التي طالته، وحتى أنه قليلا ما كان يذكرها، وذلك لكي لا يظهر أنه يمن بها على أبناء وطنه. وها هي الأقدار تريد اليوم أن يموت كما عاش: كان شجرة وارفة الظلال معرفة وعزة نفس، وها هي الآن شجرة تقف شامخة تحمي قبره، فليس يحمي ظهر الشجر سوى الشجر. شموخ النفس، والتفاني في العمل، والتواضع الجم، والمعرفة الوارفة، والعطاء الذي لا ينقطع: تلك هي الدروس التي علمنا إياها أستاذنا سالم يفوت. وهي أمور لم نألفه يتحدث عنها في كتبه، وإنما شهدت عليها حياته برمتها. عاش متفانيا في رسالته، ومات من غير أن يزعج أحدا. هو ذا الموت الهنيء! وأهنأ بها من موتة! حالنا نحن معشر من تتلمذ له أو تتلمذ على تصانيفه كحال الفيلسوف واكنين مع «شيخه» المفكر والشاعر إدموند جابيس: كان التلميذ ما يفتأ يطلب من الأستاذ أن يترك له وصية. وحدث أنه بعد أن توفي جابيس أخبرته الزوجة أنه ترك له وصية في ظرف وسلمته إياها. لكنه لما فتحها وجد فيها ورقة بيضاء لم يرقم عليها حرف. وسرعان ما أدرك الطالب أن الوصية التي أوصى إليه بها أستاذه هي أن لا وصية هناك! لم يكن يفوت يرغب في تكوين مريدين، ولا ادعى في يوم من الأيام المشيخة. هكذا يموت أستاذ الفلسفة!