اوزين حسم الصراع مع لشكر: غانمشيو للتصويت على رئاسة لجنة العدل والتشريع    ميراوي التزم بحل الإشكالات التي يمكن إثارتها بعد عودة طلبة الطب للدراسة (بيان)    تقرير رسمي: 82 % من الأسر المغربية تدهورت مستوى معيشتها    تتمة لمسرحية التصعيد بينهما: إسرائيل تشن هجوماً على إيران.. ولا خسائر تُذكَر    تعرض الدولي المغربي نايف أكرد للإصابة    اليونسكو ضيف شرف الدورة 29 للمعرض الدولي للنشر والكتاب بالرباط    وفاة قنصل مغربي في هولندا والسلطات المغربية تسارع اجراءات نقل جثمانه    ارتفاع كبير في أسعار النفط والذهب عقب الهجوم على إيران    "لارام" و"سافران" تعززان شراكتهما في مجال صيانة محركات الطائرات    بورصة الدار البيضاء تفتتح التداولات بارتفاع    قرار جديد لوزارة الصحة يرفع سعر دواء للسرطان بنحو 973 درهم    مجلس النواب يعقد جلسة لاستكمال هياكله    طوق أمني حول قنصلية إيران في باريس    سيول: راغبون في مشاركة المغرب بالقمة الكورية الإفريقية الأولى    الجزائر تبرر طرد صحافي بمواقف جون أفريك    "إعلان الرباط" يدعو إلى تحسين إدارة تدفقات الهجرة بإفريقيا    فريق بركان يرفض إخفاء خريطة المملكة    موعد الجولة ال27 من البطولة ومؤجل الكأس    بعد النشرة الإنذارية.. تحذيرات لمستعملي الطرق بتوخي الحيطة والحذر    السجن المحلي الجديدة 2 ترد على ادعاءات سجين سابق تقول ب "تجويع السجناء"    الأمن يضبط شحنة كوكايين بمدينة طنجة    النيابة العامة تلتمس متابعة الطبيب التازي ومن معه بجناية الاتجار بالبشر    إطلاق الرصاص على كلب لإنقاذ قاصر مختطفة    خريجو علم النفس الاجتماعي يستنكرون إقصاءهم من مباراة السجون    حماية المعطيات الشخصية تذكر بشروط تثبيت كاميرات المراقبة في أماكن العمل    وفاة الفنان المصري صلاح السعدني عن 81 عاما    المكتب التنفيذي ل"الكاف" يجدد دعمه لملف ترشيح المغرب وإسبانيا والبرتغال لتنظيم مونديال 2030    سفيرة المغرب بإسبانيا تتحدث عن سبب تأخر فتح الجمارك بباب سبتة    بسبب فيتو أمريكي: مجلس الأمن يفشل في إقرار العضوية الكاملة لفلسطين في الأمم المتحدة    شنقريحة وتبون ما كيعرفو لا رياضة لا جورة: سعرو ملي شافو خريطة المغرب على صدر بركان وحجزو على تونيات الفريق والكاف كيتفرج    قبل مونديال 2030.. الشركات البرتغالية تتطلع إلى تعزيز حضورها في السوق المغربية    "ميتا" طلقات مساعد الذكاء الاصطناعي المجاني فمنصاتها للتواصل الاجتماعي    توقعات أحوال الطقس ليوم غد السبت    في تقليد إعلامي جميل مدير «الثقافية» يوجه رسالة شكر وعرفان إلى العاملين في القناة    الطريق نحو المؤتمر ال18..الاستقلال يفتح باب الترشح لعضوية اللجنة التنفيذية    صورة تجمع بين "ديزي دروس" وطوطو"..هل هي بداية تعاون فني بينهما    منظمة الصحة تعتمد لقاحا فمويا جديدا ضد الكوليرا    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الجمعة    السودان..تسجيل 391 حالة وفاة بسبب الاصابة بمرضي الكوليرا وحمى الضنك    باستثناء الزيادة.. نقابي يستبعد توصل رجال ونساء التعليم بمستحقاتهم نهاية أبريل    التراث المغربي بين النص القانوني والواقع    المدير العام لمنظمة "FAO" يشيد بتجربة المغرب في قطاعات الفلاحة والصيد البحري والغابات    أخْطر المُسَيَّرات من البشر !    ورشة في تقنيات الكتابة القصصية بثانوية الشريف الرضي الإعدادية بجماعة عرباوة    مهرجان خريبكة الدولي يسائل الجمالية في السينما الإفريقية    ضربات تستهدف إيران وإسرائيل تلتزم الصمت    "الكاف" يحسم في موعد كأس إفريقيا 2025 بالمغرب    بيضا: أرشيف المغرب يتقدم ببطء شديد .. والتطوير يحتاج إرادة سياسية    نصف نهائي "الفوتسال" بشبابيك مغلقة    الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم يطالب بفرض عقوبات على الأندية الإسرائيلية    "قط مسعور" يثير الرعب بأحد أحياء أيت ملول (فيديو)    الانتقاد يطال "نستله" بسبب إضافة السكر إلى أغذية الأطفال    قبائل غمارة في مواجهة التدخل الإستعماري الأجنبي (6)    الأمثال العامية بتطوان... (575)    وزارة الصحة تخلد اليوم العالمي للهيموفيليا    هاشم البسطاوي يعلق على انهيار "ولد الشينوية" خلال أداء العمرة (فيديوهات)    الأمثال العامية بتطوان... (574)    خطيب ايت ملول خطب باسم امير المؤمنين لتنتقد امير المؤمنين بحالو بحال ابو مسلم الخرساني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قراءة مغربية… لرواية "المغاربة"

حفزني وبصفة ملحة، أن أنجز قراءة لرواية « المغاربة «، عاملان: الأول، ظل ببالي، ولا يزال، ويتعلق بسؤال، هوية الأجناس الأدبية في العالم العربي، كثيرا ما نقول رواية مغربية، أو رواية تونسية، أو رواية مصرية…أو الأدب المغربي، السوري، المصري، الكويتي… على أي أساس نسم هذه الرواية أو الجنس الأدبي ونجنِّسه؟ هل يكفي أن نعتمد جنسية الكاتب كمقوم أساس ووحيد، لتصنيف الأجناس الأدبية العربية؟ وماذا سنفعل، مثلا، مع كاتب كبير لكنه بدون جنسية، مثل عبد الرحمان منيف؟ أو مع كاتب كبير آخر خارج التصنيف، مثل الروائي الليبي، الطوارقي، ابراهيم الكوني؟ ثم هل نسلم بكون التقسيم الاستعماري لنا، إلى دول وأقطار، كان مبنيا على أساس علمي، أنتروبولوجي مقبول؟ ثم هل نحن حقا أمة واحدة، يشد بعضها بعضا كالبنيان المرصوص؟ أم أن هناك خصوصيات وتوابل أخرى، هي المسؤولة الأساس في منح كل جنس أدبي وبشري، روحه ومزاجه ونكهته الأصلية ؟ سنحاول ما أمكن أن نستغل قراءتنا لهذه الرواية ذات النكهة والتيمة المغربية، والمتعلقة بالمغاربة، لنلامس بعض ملامح روايتنا المغربية.
العامل الثاني، وهو الأقوى، ويتعلق بالعنوان الذي اختاره الكاتب لروايته «المغاربة» هل يقصد المغاربة، باللغة العربية الفصحى؟ أم لمْغاربة، باللغة المغربية؟ وخاصة أني قارئ مغربي، ولست مصريا ولا كويتيا، و لنعتبر هذا الدافع كافيا لرد الاعتبار وتنبيه النقد الأدبي عندنا، إلى ضرورة الاهتمام بالنصوص الموازية للنص الإبداعي، أي للعنوان والإهداء ولوحة الغلاف وهندسة بنية النص، وكلِّ ما تسميه الشعرية السردية بعتبات النص.
1 العتبات أو الثغرات
أول ما يطالعنا في العمل الأدبي هو النصوص الموازية للمتن، وتتمثل في: العنوان، العنوان الفرعي، العناوين الداخلية، الإهداء، الحواشي، الهوامش، لوحة الغلاف، وأنواع أخرى من الإشارات والملاحق. يسميها جيرار جينيت بالعتبات، التي لا بد أن نعبرها للدخول إلى النص. وبغض النظر عن الوظائف الجمالية والتداولية التي يخلقها النص الموازي لنفسه، فهي استعارات وتعابير مجازية Métaphores بالضرورة، تحيل دلالاتها المتعددة، على المعنى المركزي المحتمل والمؤطِر للرواية ولعالمها التخييلي.
إذن، ما قصة هذا العنوان « المغاربة»؟ هل يريد المؤلف أن يعلن انتماء هذا العمل إلى صنف الأعمال الروائية التي كتبت حول الأمة أو الشعب أو الحي أو المدينة أو العرق أو الشرذمة …؟ مثل رواية الأوروبيون لهنري جيمس ومائة عام من العزلة لغارسيا ماركيز وقصة مدينتين لديكنِز والحرافيش لنجيب محفوظ وغيرها. قد يكون هذا، هو السؤال الجوهري الذي تحاول هذه القراءة أن تجد له جوابا، وسواء اعتبرنا عنوانَ «المغاربة» سؤالا، بمعنى، من هم المغاربة؟ على أساس أن نص الرواية سيكون جوابا عليه، أو اعتبرناه جوابا لسؤال مضمر أو مدفون في قاع النص، أو في جَوْفِ فصيلة القراء، المغاربة بالخصوص؟
للعنوان وظائفٌ كثيرة، نذكر منها وظيفتَه في تحديد معالم ثيمات الخطاب السردي، وإمكانيةَ اعتباره مدخلا نظريا إلى العالم الذي يسميه. كما قد تكون علاقتُه بالنص خفيةً أو غير مباشرة. قد يكون لعبة فنية وحوارية بين التعيين واللاتعيين، بين مرجعية محددة و دلالات متعددة، وذلك في حركة دائبة بين نصين متفاعلين، نص العنوان والنص الروائي، داخل زمن القراءة. و للتوضيح نضرب أمثلة بعناوين معروفة، مثل: اللص و الكلاب ورفقة السلاح و القمر… بالنسبة «للص و الكلاب»، لا بد للقارئ من مسافة زمنية مهمة قبل أن يدرك أن «اللص» صفةٌ أطلقها المجتمع على بطل الرواية و أن «الكلاب» صفة أطلقها البطل على المجتمع، وأن الكاتب نسج من الصفتين عنوانا لروايته. كما لا بد أن يستغرب القارئ من كاتب رواية «رفقة السلاح و القمر» لوسم روايته، ذات المنحى التاريخي و البريق القومي، بهذا العنوان الرومانسي، الذي قد لا يدل على رواية، تتعلق بحدث تاريخي، قريب، سقطت فيه أرواح المئات من التجريدة المغربية في الجولان، مجانا. وإذا كان مرسلُ العنوان ومصممُه و المسؤولُ الأول على تحديده هو الكاتب، فإن المرسل إليه، عموما، هو كثلة الجمهور التي قد يكون من بينها، قراء إسرائيليون، قرأوا هم أيضا في روايات و تآريخ أخرى، أن اسرائيل هي المنتصرة في حرب الجولان و ليس العرب، والدليل هو وضعية منطقة الجولان. وطبعا يظل مفهوم الجمهور أوسعَ من مفهوم القراء.
أيضا من العلامات أو النصوص الموازية المساهمة في بلورة دلالة الرواية، بشكل عام، والمعبرة عمدا ومجازا عن مقصدية الكاتب، نذكر عنصر «لوحة الغلاف»، وهي هنا للرسام الإسباني «فرانسيسكو غويا» ( 1746 1828 )، عنوانها «قتال بالهراوات»، و هي من جملة لوحاته المعروفة لدى النقاد بالمرحلة السوداء، المعبرة على الهيستيريا و الهلع اللذين أصيب بهما في آخر حياته. على الجهة الثانية من الغلاف يقدم المؤلف قراءته لهذه اللوحة: ( رجلان في عراك دام، يوشك أحدهما أن يجْهَزَ على الآخر بضربة هراوة. أحدهما سيقتَل في النهاية، يظهر ذلك من شراستهما… هناك جلال مّا في هذا العراك الخرافي. بعد حين سيُسْفَح دم وسيخِرّ جسدٌ إلى الأرض، لكن ماذا سيفعل المنتصر بنصره؟… في خلفية لوحة غويا : «عراك بالهراوات» تتجمع نذور عاصفة، ستقتلع كل شيء من جذوره، وتطُوِّح به بعيدا. ما أغبى الإنسان !)، وهي قراءة اقتبسها الكاتب من أحد رواة روايته، ص. 59.
وهناك أيضا علامةٌ موازية أخرى، وتتعلق بإهداء العمل من طرف الكاتب إلى صديقه محمد الأشعري، الذي هو أحدُ أقطاب حزب الاتحاد الاشتراكي المغربي ووزير الثقافة السابق بحكومة التناوب، بالإضافة إلى كونه روائيا و شاعرا ورئيسا سابقا لاتحاد كتاب المغرب… هذه العلامة تمنحنا نحن المغاربة بعض الإمكانية اليسارية لفهم أحد سياقات النص الدلالية، ولكنها قد لا تعني شيئا مهما، بالنسبة لقارئ أجنبي أو لا ينتمي للهنا و الآن، أو مغربيٍ غير مهتم بالسياسة و مشاكل الثقافة المغربية الحديثة.
ونعود مرة ثانية إلى العنوان، باعتباره قنديلا لعتمة النص وبوصلة لمتاهته أو نصا موازيا له.
كل العناوين هي استعارات، هي قصص وحكايات. وسواء كان العنوان قريبا أو مضلِلا، فهو كما يقول «غريماس»: قصة متقدمة تمهد الطريق للنص القصصي الذي تحمل اسمه و تعطينا فكرة عنه.
ف «المغاربة» لفظة يمكن قراءتها كما قلنا بلغتين موازيتين، باللغة العربية الفصحى وباللغة المغربية، وطبعا ستتغير دلالتها مع كل لغة. ويمكن أن يكون الكاتب قد تعمد أن يسوقها معرفةً لتشمل كل المغاربة، أو بالأحرى معرَّفةً لكونها ستنفتح على نص روائي يتضمن حقيقة المغاربة، مشفوعةً بأبرز الخصائص والخصال التي شكّلت وتشكِّل هُويتَهم، أي ما يشتركون فيه جميعا، سواء سميناه بالذهنية أو العقلية أو الجوهر أو الوجدان أو التصور أو ثقافة ساكنة هذا الحيز الجغرافي المعروف بالمغرب الأقصى.
فالمغاربة عندما يتحدثون عن لَمغاربة، يتداولون كثيرا من الصفات، يلصقونها بصورتهم أو يعرضونها لتمييزهم عن غيرهم، بشكل عفوي و بدون تمحيص، في كثير من الأحيان، لدلالات تلك الصفات ولموقعها ضمن نسق قيَمهم، لأن أغلبَها يتحدد اجتماعيا أي من خارج ذواتهم…. شْكُوناهما لمغاربة؟؟ مثلا، وباللغة المغربية:
لمغارْبة شعب من الممثلين، بارع في التشخيص، بارع في رصد المشاكل والاختلالات، بارع في التحليل المجاني، وله قدرة هائلة على تفسير كل شيء، و أيِّ شيء. شعب يمكنه أن يحلل قضايا وإشكالات الرياضة و الفن و السياسة الاقتصاد و الدين وحتى العلوم. شعب يتقن الكلام ويتقن السّباب و يتقن التنصل من المسؤولية. شعب بارع في جَلد الذات.
المغاربة شعب يقدم لك الجواب عن كل سؤال، ولا يهمه إن كان الجواب صحيحا أم خطأ، المهم أنه قادر على الجواب ويملك لكل سؤال جواب وإن اعترضت عن الجواب الذي قدمه لك فهو يمتلك ردا على اعتراضك واعتراضا على اعتراضك واعتراضا على اعتراض اعتراضك، ومستعد للبقاء في مواجهة اعتراضاتك حتى آخر رمق ..
لمغاربة شعب يجلس في المقاهي لساعات، يناقش التفاهات، ويغتاب ويلعن الحكومة والوزراء والمدراء والرؤساء، ويريد دولة مثل السويد أو الدانمارك ..
لمغاربة شعب يشاهد مباريات البارصا والريال، ويحفظ تفاصيل لاعبيهم وأجورَهم وملابسَهم وماركاتِ سياراتهم، بل وحتى صديقاتهم وخليلاتهم، ويتخاصم ويتشاجر لأجلهم. شعب يغضب لخسارة فريق من دولة أخرى، ولا يغضب لخساراته اليومية ولا لفشله في كل مباراة الحياة ..
لمغاربة شعب يلعن البلدية التي لا تجمع النفايات، التي يرميها هو من نافذة منزله، أو سيارته، ويلعن البلدية، التي لا تنظف الساحات التي يتبول فيها، و يلعن البلدية التي لم تغير زجاج حافلة النقل التي كسرها رميا بالحجارة ولم تغير مصباح إنارة الشارع الذي كسره طفلُه. يلعن غلاء أسعار المواد الغذائية ويتسابق ويتنافس في شرائها وتكديسها، المغاربة من أكثر الشعوب رميا للنفايات المنزلية ..يلعن مهرجان موازين، ويحضر بالآلاف لأنشطته وملء ساحاته، ويرقص و يصرخ بجنون في السهرات التي يعتبرها حراما و تبذيرا..
لمغاربة شعب التسيب الوظيفي، شعب يعشق السليت، فمعدل اشتغال موظفينا هو ساعة أو ساعة و نصف في اليوم، في حين متوسط اشتغال موظفي الدول الأجنبية هو 7 ساعات. شعب يخرج موظفوه بكثافة لأداء صلاة الجمعة، المصلين وغير المصلين ، دون أن يعود أحد منهم لعمله بعد الصلاة.
لمغاربة شعب يريد الزيادة في الأجور ولا يريد الزيادة في الإنتاجية والمردودية ، يريد المزيد من الحقوق ويحتال حتى لا يؤدي القليل من الواجبات..
لمغاربة شعب تجد فيه من لا يملك أي شهادة، لا علمية ولا تقنية و لا تجربة و لا خبرة له، ومع ذلك يريد عملا مريحا بأجر كبير، وحتى إذا هاجر خارج بلده اشتغل في أي شيء، في البناء و الحفر و جمع الأزبال والنفايات، ويبيت في العراء أو داخل السيارات و في غرف ضيقة، وإذا عاد إلى وطنه تباهى بسيارته الأجنبية وملابسه الغربية التي اشتراها بعد تعب رهيب ومحنة قاسية ..
لمغاربة شعب يلعن الرشوة والفساد لكنه لا يقضي حاجة من حاجاته الإدارية ، كبيرة أو صغيرة إلا مقابل رشوة ، شعب يرشي نفسه بنفسه.
كان هذا جزءا ضئيلا من قصة العنوان، التي من المفروض أننا قرأناها قبل الدخول إلى قصة النص. قسم الكاتب روايته إلى 34 مقطعا أو فصلا، كما يحب أن يسميه الراوي الأول، رغم أن طول بعضها لا يتجاوز أربع صفحات. يتناوب على سردها راويان: محمد والعسكري. أول ملاحظة أود أن أوجهها للقارئ المغربي، المقبل على قراءة «المغاربة»، هي أن يحتاط بشكل جيد من الدوخان، نظرا، أولا، لكون هذه الرواية تتعلق به وتتشبث بهويته، وتلامس بشكل كبير عقدة المغاربة التي سبق لعبد لله العروي أن أشار إليها.
وثانيا لأن بنية الرواية أو بالأحرى، بنية الخطاب السردي، مكسّرة، تفرض على القارئ أن يتلمَّسَ طريقه بحذر، نتيجة تضمينها لحكايتين مختلفتين، مستقلتين ومتداخلتين، ترويهما شخصيتان من شخصيات الرواية، و هما الأخوان الغافقي، محمد وعبد الهادي العسكري، الفرق بينهما هو أن حكاية محمد هي الحكاية الرئيسة وحكاية العسكري حكاية رديفة. ويزداد الوضع ارتباكا بإدراج الراوي الأول «محمد» مجموعة من القصص، المستقلة شكلا عن السياق العام، لكنها، كما سنرى، كالروافد المغذِّية للنهر، وإدراج العسكري مجموعة من النصوص التي كتبها على شكل شذرات و اقتباسات وتعليقات… قد تبدو خارج السياق الحكائي، بينما هي التحبيك التاريخي الذي تقوم عليه رواية المغاربة. ولكل ذلك جاءت فصول الرواية متداخلة بتداخل الحكايتين. 34 فصلا، لكل فصل عنوان خاص من وضع الراويين: ( 28 من وضع الراوي محمد و 6 من وضع عبد الهادي. بغض النظر عن الصفحات الأربع التي اقتطعها المؤلف من آخر الفصل الأخير 34 ليفتتح بها النص الروائي ). يتضح من نصوص عناوين فصول الرواية، أن الكاتب قد تنازل عن دوره في تسميتها وتسمية روافدها، تاركا الأمر لراويَيْه، المدركين والواعيين بمضامين ما يسردان من أحداث و حقائق تهم وتؤسس لحكاية ثالثة مشتركة بينهما، هي حكاية « المغاربة «.
2 القراءة الأولى
«المغاربة» ليست رواية كلاسيكية وليست تاريخية أو سيرة ذاتية و ليست رواية أطروحة… ولكنها كل ذلك، رواية مفتوحة على الذات والسلالة والتاريخ والهوية والتراث والحب والغدر والأخوة وعلى القهر والاستبداد، وعلى كل ما يتعلق ب «لمْغاربة» كما ننطقها بالدارجة أو بالمغَاربة، كما يفصّحها كلامُ المثقفين والأساتذة المحللين ومقدمي الأخبار والبرامج المتلفزة. هي رواية مغربية تتخذ من الهوية المغربية التاريخية والثقافية الشبيهة ب «الزربية» المغربية، المليئة بالرموز الأمازيغية والعربية واليهودية والرومانية وغيرها، موضوعا لها، بشكل عفوي تعكسه طريقة نسج فصول هذه الرواية. لقد عمل المؤلف على توريط الكتابة، من خلال توريط الجنس الأدبي ( مزج السيرة بالذاكرة بالتاريخ بالرواية )، وتوريط شخصي الراويين في مواجهة الزمان والذات والنحن، وتوريط التاريخ المغربي المحلي والوطني، و توريط القارئ نفسه، حيث تتحول الرواية بين يديه إلى مرآة تعكس صورته الفعلية والافتراضية، وتدفع به إلى اتخاذ موقف صريح من نفسه ومن تاريخه و هويته.
من طرائف الخطاب السردي لرواية المغاربة، أن الذي سيقود خطانا، عبر الغابة كما يسميها «إيكو»، راويان اثنان، الأول أعمى، يروي من خلف زجاج الذاكرة، و الثاني معطوب حرب، أعرج، يحكي من صلب تجربته المريرة، كما يقول : « بلا أمل ولا رجاء ولا انتظار..».
أ المحكي الرئيس أو حكاية
محمد الأعمى
محمد، شاب ذو 22 سنة، توقف مساره الدراسي بالسنة الثانية بعد الباكلوريا شعبة الأدب العربي، بسبب فقدانه التام لبصره، بعد معاناة طويلة مع المرض. قد لا نملك دليلا مقنعا على كيفية نمو معارف محمد واتساع ثقافته الأدبية و الفنية و العلمية، باستثناء عامل تماهيه، أحيانا، مع صورة المؤلف المجرد. يلعب محمد دور الشخصية الرئيسة، بالإضافة لكونه هو بؤرة السرد والراوي الأول، المهيمن على الخطاب السردي.
يبني محمد حكايته أو بالأحرى سيرته الذاتية على أنقاض سيرة طه حسين، وبرؤيا مناقضة وناقدة لصورة طه حسين، كما سوقها لنفسه، في كتاب ضخم، من جزأين، وضع له عنوانا فجّا، «الأيام»، يخفي مأساة أي كائن أعمى. سيرة أقل ما يمكن أن يقال عنها، إنها كاذبة لشخص هو: « قاهر الظلام على ما يقولون، عميد الأدب العربي الذي رفع منديل التحدي عاليا جدا، في وجه العميان البسطاء، الذين لم يدرسوا في السوربون، ولم يلتقوا بامرأة فرنسية، تكاد تكون رسالة سماوية، ولم يعيّنوا عمداء كلية، ومن بعدها وزراء للثقافة، ولم يكتبوا ما لا يحصى من كتب النقد الأدبي والتاريخ و السيرة والرواية، ولم يخوضوا عشرات المعارك الأدبية والسياسية، وحازوا شهرة تكاد تكون عالمية «. والخلاصة يقول محمد: « ليس هناك أكثر فجاجة من حياة تُقدم على أنها ناجحة وممتلئة « بل « إن كل صفحات كتاب الأيام لا تتسع لكثافة التقاط دقيق وعميق للحظة واحدة من حياة أعمى، قلق وضائع ومرتبك».
ومع ذلك يقدم الراوي لسيرته الشخصية بصور طفولته و معاناته مع المرض الذي أصاب عينيه وتشبته المميت بأمل الشفاء على يد جده وبيئة الخرافة والأولياء والأعشاب والوصفات الغامضة والأدعية و حنان الأم والأب والإخوة… بالإضافة إلى شقيقه وصديقه وعشيره، عبد الهادي، الراوي الثاني داخل الرواية، الذي يلقبه بالعسكري، والذي يمكن اعتباره هو الدفة التي تقود محمد وتؤنسه. فرغم بذرة التصوف، الممزوجة بالخوف والأمل في بركات الأولياء التي زرعها جده في نفسه، والتي ظلت مشتعلة وهاجة، فإن أخاه العسكري سيظل القنديلَ المنير الوحيد في ليل محمد الحالك الطويل، باعتباره كاتبا متميزا، وقارئا مثاليا للأدب والتاريخ المغربي والعالمي.
من أبرز أحداث سيرة محمد و التي سيكون لها تأثير كبير في حياته، نذكر:
أولا: اختيار محمد من طرف الباشا الصغير، طه، حفيد الباشا الداهية البوزكري، وكان هو أيضا كفيفا، ليكون مؤْنسا له، رفقة ثلة من المؤنسين العميان، المختلفي التخصصات و الهوايات، مقابل توظيفه ببلدية المدينة. كان الباشا طه رغم عاهته قد عايش أجواء المجالس الأدبية في مصر صحبة أبيه عبد السلام، في كنف الملك فاروق، قبل نفيه سنة 1952م، فعمد بإخراج و سيناريو حاجبه ورفيق دربه، الحاج فرح، أن يستعيد تلك الليالي، هنا بقصره ببني ملال.
ثانيا: قصة حب و هيام محمد بصفية، خادمة جيران أسرته، من خلال صوتها، وهما معا فوق سطوح منزليهما، وافتضاح أمره بين أفراد عائلته. لكنه ظل يسأل عنها وعن اسمها، بعد أن طُردت من بيت مشغلها، إلى أن اهتدى إلى منزل أهلها بدوار بعيد عن المدينة ، من عائلة أمازيغية من واد آيت بوكماز .
و أخيرا، سيجد محمد من بين رفاقه العميان، المؤنسين للباشا الصغير، من يثقن الأمازيغية و يعرف بشكل جيد دوار واد آيت بوكماز، وهو حسن أوشن، والذي سيذهب و إياه من أجل أن يخطب صفية، لكن الأمور ستجري عكس ما خطط لها محمد، إذ ستفرض عليه الأم الأرملة، أن يتم الزواج في الحين بقراءة الفاتحة على صفية من طرف أهل الدوار، بعد العودة سيستغل حسن أوشن اضطراب محمد ليخطف زوجته منه.
لم يبق أمام محمد المصدوم من سبيل لرد الاعتبار لكرامته، سوى الانتقام من خصمه، وليكن الانتقام بخطة و فلسفة محرر الهند «غاندي»، من خلال الاعتصام عند بيت الخصم حسن أوشن، فكانت النتيجة انتحار هذا الأخير برمي نفسه من سطح بيته، وبهذا الحدث تنتهي الرواية.
أدرج محمد ضمن سيرته مجموعة متباينة من القصص التي تخدم بالدرجة الأولى استراتيجية حكيه، وهي:
n قصة طه حسين:
شَغَلت «الأيام» لطه حسين، مسافة كبيرة، من تأملات محمد و نفسيته، قبل أن يرميها بعيدا عنه، باعتبارها تلفيقا لحقيقة لا وجود لها، فلكي تكون أعمى، يجب «تكون ماكرا وعدوانيا أحيانا، ومتحفّزا، في كل الأحوال، للدفاع عن النفس، و الأهم هو أن تتلفع بكبرياءِ جسورٍ، وأن تكون لك تلك الوقاحةُ النبيلة: وقاحة ُتحدِّي الكاملين… على الأعمى أن يكون حالما كبيرا». وبالتالي، كتاب الأيام مجردُ استعراض إنشائي، لشخصية صارت مرموقة، وإفراغ لحياة الأعمى من حسِّها التجريدي، بل يرى محمد أنه « ليس هناك أكثرَ فجاجة من حياة تُقدم على أنها ناجحة وممتلئة». قصة طه حسين هذا، قصة رجل محتاج دوما إلى يد تهديه سواءَ السبيل، أراد أو اعتقد أو توهم، أن يأخذ بيد أمة بأسرها نحو نور العصر ( نحو الأنوار )، وفي لحظة مراجعة أو نقد ذاتي، صرح لزوجته الفرنسية سوزان، وهو يحتضر: «أية حماقة؟ هل يمكن أن نجعل من الأعمى قائد سفينة؟». وهي نفس العبارة التي ستتكرر على لسان شخصية أعمى آخر، صوفي، حكيم، زاهد، هو «سيدي الصاحب»الذي عرفه الراوي كبوصلة لأولياء لله في البلاد، تبعه خلق غفير، قبل أن يهرُب منهم ويتنسك بين الأموات، داخل مقبرة: « كيف لمن لا يعرف بماذا ستر عورته، أن يهديكم «.
n قصة المعطي والد الراويين محمد والعسكري:
قصة نموذجية للمواطن المغربي البسيط، الذي يتخذه المخزن أضحوكة، موهما إياه بإرسال برقيات احتجاج شخصية باسمه كأمين بائعي الزرابي، ونيابة عنهم، إلى كل من رئيس الهند لاعترافه الظالم بالجمهورية الصحراوية، أدى المعطي مبتهجا، مائة وخمسين درهما ثمنا لإرسالها ، وبرقية أخرى لفرانسوا ميتيران بسبب كتاب عنوانه «صديقنا الملك» لا يعرف من كتبه ولماذا؟ وبما أنه لم يكن يملك ثمن إرسال البرقية مما اضطره للاستدانة، فقد قرر أن يخزن لدى زوجته مبلغ خمس مائة درهم، كاحتياط خاص بمراسلاته الدولية، «فربما يحدث شيءٌ مع ملكة ابريطانيا أو رئيس روسيا أو امبراطور اليابان، من يعرف؟»
n قصة الباشا بوزكري وسلالتُه:
تعتبر هذه القصة، حسب المصادر و الوثائق المتوفرة، جزء من تاريخ القهر و التسلط الذي عانى منه أهل بني ملال، قبل الاستقلال وبعده بقليل، وربما لذلك استحوذت على تسعةِ فصول من الرواية لتخييل تاريخي جديد لمسار الباشا بوزكري وولده عبد السلام و حفيده طه الأعمى، باعتبارهم نموذجا لباشوات المغرب، قبل الاستقلال، وما تركوه من جروح وندوب في نفوس و حيوات المغاربة طوال فترات صولتهم .
n قصة اكتشاف مقبرة ضخمة لجماجم بشرية بدون جثث، وإيفاد لجنة خاصة تتكون من خبير أعمى ومساعد تقني شبه أبله، للتحقيق في حقيقة الجماجم، واللذين ستجمعهما بمحمد و العسكري عِشرة وصداقة متينة، طوال المدة التي استغرقها عملُهما الشكلي التافه .
n قصة توفيق الصغير:
اسمه حسن أوشن، يعمل هو الآخر مؤنسا للباشا الصغير، باسم مستعار»توفيق الصغير» كباقي مؤنسي الباشا، وهو الذي ساعد محمد للعثور على مقر سكنى حبيبته صفية، باعتباره يتقن اللغة الأمازيغية ويعرف مقر سكنى عائلة صفية، و حضر مراسيم الزواج، قبل أن يستغفله و يخطفها منه.
ب المحكي الرديف أو حكاية العسكري
العسكري هو الأخ الشقيق لمحمد، يعيشان معا في غرفة مشتركة بمنزل الوالدين، شارك في حرب الصحراء الدامية (بين المغرب والبوليزاريو. دامت 16 سنة وتوقفت سنة 1991. تركت خلفها المئات من الضحايا). خرج منها معطوبا، أعرجَ، مخرّبَ الروح والجسد، ساخطا على كل شيء. علمته هذه التجربة أن كل شيء في هذه البلاد، مقلوب على رأسه، مغشوش، حتى الحرب ليست حربا، فقد فيها روحه ورجله. يقول: ( من حين إلى آخر، كان مقدِّم الأخبار الأبدي يتحدث عن مواجهات، ويذكر أرقاما لشهداء وقتلى، ويظهر صورا وغنائمَ، ويطوي كل شيء، وبعد النشرة، سهرات الأقاليم الفرحة ببؤسها… هل هذا شعب خاض حربا؟؟… لم تتلقّ عاهاتي التي أحملها نظرات إعجاب أو فخر من طرف كلِّ من عرفوا بأن سببها حربٌ، من المفروض أنني خضتها من أجلهم ونيابة عنهم. عدا نظرات شفقة، يُعَبَّر عنها دوما بشكل بليد أو نظرات لامبالاة رديئة، كأنني أصبت في حادثة سير بجَمْعَة رياح أو زحيليكة… هل هذا شعب خاض حربا؟؟».
لم يجد العسكري تعبيرا مناسبا عن هذه الحرب، سوى أن يستعير من المؤلف اللوحة الفنية التي اختارها لغلاف روايته، وأن يشرحها ويعلق عليها، وهي من اللوحات المعروفة باللوحات السوداء للرسام البرتغالي «فرانسيسكو غويا». ص.59 .
في هذه الحرب، فقد أيضا، واحدا من أعز وأنبل أصدقائه إثر غارة غاشمة. عسّو البوكمازي، الشجاع، الشهم، الذي ترك لهم في الصحراء بقعة يانعة خضراء لم يقوَ أحد بعده على سقيها ورعايتها. سيكتشف العسكري فيما بعد، و بالصدفة، أن ابنة صديقه اشتغلت خادمة عند أحد جيرانه، قبل أن تصبح زوجة لأخيه محمد.
العسكري، أيضا، كاتب عصامي وباحث مولع بالتنقيب في التاريخ وكتب التراث، وبصفة خاصة، بالبحث عن جذور سُلالة غريبة، اسمها «المغاربة».
تنتهي حكاية العسكري بدخوله السجن إثر هجومه على حسن أوشن، الشخص الذي خطف زوجة أخيه أو بالأحرى خطف ابنة صديقه الحميم، عسو.
كتابات العسكري أو التحبيك التاريخي
خصص العسكري ثلث حكيه، كما رأينا، لتجربته في حرب الصحراء و لعلاقته بأخيه الضرير، بينما ترك باقي الحكي لحوار مكتوب وموثق، مع المروي له الخاص برواية المغاربة:
ظل هذا المروي له حاضرا في ذهن الراويين و خاصة محمد الذي لم يضع عناوين محددة لفصول حكيه، بل عنون عددا منها بطريقة خاصة موجهة مباشرة للمروي له:
ص.11 يمكنك أن تسمي هذا الفصل: باب الابتلاء أو درب الفاجعة
ص. 21 يمكنك أن تسمي هذا الفصل: موت الجد أو نَذْر الجحيم
ص. 31 يمكنك أن تسمي هذا الفصل: عسكرة العمى أو عمى الحياة….
يقول: ص. 14 : « يريني كيف تدس البذرة في باطن الأرض محمد يحكي عن جده لتَهِبَ، بعد أسابيع باذنجانا وطماطما وقرعا سلاويا، يحكي لي عن ذي يزن والسلطان الأكحل، والبرتقيز بناة العجائب، ورحلات الصّيد، والجنيات وبغلات القبور، وأولياء صالحين يمشون فوق الماء…» تلاحظون الطريقة التي يبني بها الراوي شخصية المروي له، فهو مغربي قبل كل شيء. كذلك تسعى كتابات العسكري إلى أن ترسم له صورة (تخييلية) تتماهى كثيرا، مع الصورة المجردة لقارئ الرواية المجرد (أي الصورة التي ظل المؤلف يتصورها في ذهنه لقارئه الخاص، أثناء عملية الكتابة)، و التي أرى أنها صورة تتماهى كثيرا مع صورة الشخص الذي أهدى إليه المؤلف عمله هذا، وهو الشاعر و الروائي ورئيس اتحاد كتاب المغرب سابقا، ووزير الثقافة في حكومتين مغربيتين سابقتين، وهو الكاتب محمد الأشعري، المعاصر، طبعا، للمؤلف.
أسند المؤلف لراويه العسكري مهمة إضافية، غير مهمة السرد التقليدية، و هي محاولة تحبيك تاريخ المغاربة ( La mise en intrigue )، منذ لحظة من لحظات ولادتهم الغامضة إلى اليوم. تارة يضع لهذا التحبيك عنوان: شذرات، وتارة هذيانات، مخترقا كتب تاريخ المغرب القديم، بحثا عن جذوره إن كانت له جذور.
يسود اعتقاد راسخ لدى عدد من نقاد التاريخ و كتابه، بأن التاريخَ يكتبه المنتصرون، يكتبه لهم موظفون خاصون، لكن من أية ثغرة تاريخية، تأتي، بل تستمر قصص الضحايا والمظلومين طافية على السطح؟ قد يقول قائل إنها من تلك الثغرات التي يجترِحها الأدب، الشعر والقصة والرواية، على جِلْد الثقافة، الأدباء هم من يكتب تاريخ المهزومين، الذين طبعا لا يملكون مؤرخين ولا كتابا خاصين. هذه المقولة رغم براءتها غير سليمة نسبيا، فالكتابة التاريخية، والتي بالمناسبة، أصبحت تعرف اليوم بالتخييل التاريخي، سواء انحازت جهة المنتصر أو كانت محايدة، بيضاء، ناصعة نصاعة مقدمةَ ابنَ خلدون، تتضمن بالضرورة حقيقة صارخة، وهي أن التاريخ ليس تاريخا ( قصصا ) عن الملوك و الأبطال والعظماء، كما تعلمنا المدارس والثقافات التي يدبرها المعلمون، أقصد أولئك، الذين وكّلنا إليهم تعليم أولادنا وتسمية شوارعنا ودكاكيننا ومرافق فضاءاتنا العمومية… رغم ضآلة مستواهم الفلسفي والتاريخي. التاريخ أيضا هو قصة الضعف والانتهاك كما يذكر ريكور هو تاريخ الموتى و المغتالين و المقهورين، الذين لا ينفكون يصرخون، مطالبين بحقهم في السرد. منطق الأشياء يفرض أن يقابل كلَّ منتصرٍ منهزمٌ، وكل ذِكْر لل «أنا « هو بالضرورة الصرفية و النحوية، استحضار لل «أنت» أو ال «هو»، إن معنى الوجود الإنساني هو معنى سردي أصلا. يقول ص. 79: ( في سن الخامسة و العشرين سيصل القائد بوزكري إلى قصبة تادلا، وسيتلقاه جنودها الخمسُمِائة، الذين تهيَؤوا أياما لاستقباله بدهشة ممتعِضة… مر أمامهم وأمه خلفه، بوجه جامد، و لكن بقلب تفتك به خيبة قاتلة. عليه و قبل تمثيل المخزن هنا، وقبل.. و قبل… أن يثبت لهم بأن «الأسوَد الصغير» كما تهامسوا بذلك، جدير بمنصبه… والأمر لن يحتاج إلا لفظاعة يقوم بها أمامهم. جيء بقاطع طريق مسكين، وبعد استنطاق بسيط حمل سيفه وشطره نصفين، وبعدها بال في فم جندي حراسة وجده نائما بفم مفتوح، ثم هشّم وجهه، وكسر يدَ آخر، لم تحيِّه، وكاد أن يفقأ بأصبعه عين فارس اشتبه في أنه نظر إليه بوقاحة، وبعد ذلك صار بإمكانه أن ينام طيلة النهار، فالرعب الذي زرعه في قصبته سيتكفل بالباقي).
ما يهمني من إدراج هذا المقطع، هو أن المؤرخ بمحاولته إبراز قوة السلطة و طرقها المتعمدة لاكتساب خضوع الآخرين، ينسى أنه قد أدخل الآخرين، مثل قاطع الطريق والجندي النائم و الآخر… أدخلهم التاريخ.
تؤكد الروائية بثينة العيسَى هذا الطرح: ( يقال بأنه يمكن للإنسان أن يصدّق أيّ شيءٍ إذا وضع في قالب قصّةٍ جيدة. في الأفلام الأمريكية التي تدور في قاعات المحاكم، تتكرّر هذه القولة مرارًا: المحامي الذي يفوز بإعجاب القضاة هو الذي يأتي بالقصّة الأفضل.) بل إننا جميعا نستطيع أن نصدق ماركيز أو كافكا أو بوزفور أو غيرهم، عندما يجعلون شخوصهم تطير أو تمسخ أو تتحول إلى حشرات، بينما نكذب بسهولة مقولة نيوتن عن قوانين الجاذبية … فالقصة تأتي في مرتبة أكثرَ حقيقيةً من الحقيقة ذاتها، لأنّ القصة كائن إسفنجي، يمتصّ العالم والإنسان وأسئلته ورعبه، ورغم أنها مليئة بالأكاذيب إلا أنها تكشفُ جوهرنا الإنساني أكثر من أي شكل فني أو علمي آخر. في كتب الفلسفة والفكر نحنُ نقرأ عن الفكرة. بينما في القصص والروايات، نحن الفكرة. من كل ذلك يكتسب العسكري مشروعية تحبيك تاريخ المغاربة، الذي هو، في نفس الوقت، تحبيك للهوية المغربية، لهوية أمة، لا تتمثل وجودَها التاريخي الخاص، بسبب غياب أو تغييب سردها الخاص، لتاريخها الثقافي، وهو ما سماه ريكور «ب الهوية السردية» أو الهوية القومية كما يسميها إدوارد السعيد، وهذا ما يجعل وجود الهوية مرهونا بوجود تحبيكها، أي سردها الثقافي.
يقسم العسكري تحبيكه التاريخي إلى ثلاثة محاور:
1 المغاربة 2 السلاطين 3 الأولياء و الصالحين
باب المغاربة أو خصال سُلالة:
يقدم العسكري المغاربة من خلال كتاب شبه مجهول ونادر، عنوانه:» منامات الوهراني و مقاماته و رسائله» للكاتب الشيخ ركن الدين محمد الوهراني ( توفي سنة 1575 م )، يقول الوهراني عن المغاربة: ( قال، من أيِّ البلاد خرجتَ، وعن أيِّها درجت ؟ فقلت له، من المغرب الأقصى والأمَدِ الذي لا يحصى، من البلد الذي لا تصل إليه الشمسُ حتى تكلَّ أفلاكُها، وتضُجَّ أملاكُها، ولا القمرُ حتى يتمزَّق سرجُه، ويتداعى بُرجه، ولا الرياحُ حتى يُحجِمَ إِقدامها وتحْفى أقدامها…) و سُمِي المغاربةُ مغاربةً، «حين أوقف بحرُ الظلمات تطَلُعَ القادمين الأوائل إلى الأفق البعيد، وشهدوا المنظر المرعب للشمس وهي تذوب في الماء كفصِّ مِلح… مغاربة لأن النورَ يموت تحت أرجلهم، ولأنهم يدفِنون بداخلهم يوتوبيا المكان الآخر، المحلوم به، ويدفِنون معها الحياة بوصفها إمكانات مفتوحة..» ص. 121. والمغاربةُ مغاربةٌ «لأن المغرب كان بعيدا جدا، في طرف سحيق من الإمبراطوريات، حيث تخفّ قبضة الدولة والدين والتاريخ، فقد كان دوما مُلكا مشاعا للمدّعين والحالمين بالسلطة والكذابين الكبار… ص.122.
باب السلاطين أو تاريخ السلطة
يقول الراوي محمد ص. 141 « فشدّ العسكري على يدي وقال لي: التاريخ طاولة نرد كبيرة… للأسف لا يحتفظ تاريخنا إلا بالمجانين الذين نجحوا في التحول إلى زعماء، أما الذين نطحوا رؤوسهم بصخر الواقع، فتهشّمت، فلا ذِكْرَ لهم.».
أصل الداء، يرى العسكري، يوجد في التاريخ، في الأصل، كأن بعض المغاربة لفقرهم و جوعهم و ضحالتهم، يبحثون عن أي طريق لرد الاعتبار لكرامتهم، لذلك تراهم يؤسسون صروح الأوهام، و يتبنون الخرافات و الإشاعات القاتلة… يضرب العسكري مثالا صارخا لهذه العقلية، أو هذا الداء، بشخص اسمه ادريس بن عبد الله جاء هاربا من المشرق، قيل من معركة فخ، بين الأمويين و العباسيين، فصادف في طريقه قبيلة ساذجة أو طماعة أو لا كرامة لها… فبايعته أميرا عليها، قالت، فقالوا، فقلنا: « هو سيدنا ونحن عبيده «، وصنعوا له نسبا وشرفا واعتبروه مؤسس أول دولة مغربية، ولقبوه بالمولى ادريس الأول، ثم بايعوا ابنه ادريس، الذي بالمناسبة ازداد بعد موت أبيه بأحد عشرة شهرا… « أذْهل الطفلُ على ما قال البكري الخاصة و العامة بعقله ونباهته و فصاحته، لأنهم، وببساطة، كانوا يفتقدون كلَّ تلك الصفات. ومنذُئِذٍ، صارت تجري في عروق كثيرة هنا، في هذا البلد المسكين دماءٌ وضيعة، تافهة ومغمورة، وتجري في عروق قلة دماء نادرة ونبيلة ومصطفاة. قال الطفل ادريس للشيوخ: ( فلا تمدوا الأعناقَ إلى غيرنا، فإن ما تطلبونه من إقامة الحق، إنما تجدونه عندنا )، فتسارع الناس إلى بيعته، وازدحموا عليه، يقبِّلون يده ببلاهة عجيبة… قرونا بعد ذلك، ومنذ فرق الطفل الذي أصبح المولى ادريس الثاني، المغربَ بين أولاده، والعائلات الحاكمة تتناحر فيما بينها وتمزّق البلد وراء أهوائها… نفس الحكاية ستظل تتناسخ وتستنْسِخُ نفسها كلّ مرة.
باب الأولياء و الصالحين أو معضلة القيَم و المعتقدات:
هذه بعض النصوص الدالة على القيم السارية بين المغاربة، والتي أوكلوا أمر خلقها ورعايتها للزوايا والأولياء، يتعمد العسكري أن يضع لها عناوين خاصة، تليق بمستوى ادراك المروي له والقارئ المجرد، مع الإشارة للمرجع:
تحت عنوان انتهازية:
كان سيدي عبد الرحمان، يعتبر مالَ مريده سيدي محمد، مالَه، فلا يحتشِم فيه، حَضَرا ولا سَفرا. فكان إذا احتاج إلى آنية أو غيرها، ذكرها له، لا لغيره، فيأتيه بها، وإذا كانوا في زيارة لم يستصحب سيدي عبد الرحمان زادا… وكان يقول: مال سيدي محمد بن عبد الله حلال لأنه لا وارث لوالديه غيرُه.
عن، الروض العاطرِ الأنفاس، بأخبار الصالحين من أهل فاس، بن عيشون الشراط.
تحت عنوان لُحمانهم وألبانهم حرام، وفروج نسائهم حلال:
عبد الله بن ياسين ( توفي سنة 1059، داعية و مجاهد، من زعماء الإصلاح الإسلامي، واضع الأسس الأولى لدولة المرابطين )، يقول صاحب الأنيس المطرب: « كان شديد الورع في المطعم والمشرب، فكان طول إقامته فيهم لا يأكل شيئا من لُحمانهم، ولا يشرب من ألبانهم، فإن أموالهم كانت غيرَ طيبة لشدّة جهلهم، فكان يتصيّد ويتعيَّشُ من لحوم الصيد، وكان مع ذلك كثير النكاح، يتزوَّج كل شهر عددا من نسائهم ويطلقهن، ولا يسمع بامرأة جميلة إلاّ خطبها.» الأنيس المطرب، لابن أبي زرع.
3 المحكي الاستعاري أو حكاية المغاربة
الحكاية الثالثة هي محكي استعاري، يمكن أن نسميه بحكاية المغاربة، وهي الإجابة الضمنية للسؤال الذي يحبل به عنوان الرواية، وهي أيضا الحكاية الإطار، الضّامة و المتضمنة لحكاية محمد ولحكاية عبد الهادي العسكري و نصوصه الشذرية. وكأني أشعر بالكاتب الفعلي لهذه الرواية عبد كريم جويطي، يسعى إلى إرضاء «بول ريكور» بالاستجابة الشعورية أو اللاشعورية، لمقولته المُعبّر عنها في كتابه ( الزمان و السرد )، من خلال جمعه في روايته هذه بين وجهتي نظر راويين ، الأول حكّاء والثاني سارد تأريخي، يقفان معا، على أساس جذر مشترك واحد، هو فعل الاسترجاع أو الاسترداد. وهو ما نعتبره تحبيكا تاريخيا لسلالة و ثقافة وماضي و حاضر المغاربة.
لأول مرة فكر المغاربة في المغاربة كان في الثلاثينيات من القرن الماضي، مقرونا بإجماع سياسي جديد سيعرفونه لأول مرة، طبعا بفضل الاستعمار، وهو الحركة الوطنية، مقرونا بمفاهيم جديدة، كمفهوم الوطن والقومية، أول عيد وطني مغربي ظهر سنة 1934 م باسم عيد العرش. و لأسباب غير واضحة أو مسكوت عنها ظل مفهوم الهوية الذاتية، الجماعية، بغض النظر عن العروبة و الدين، مهمشا، في اللغة والنقاش العمومي، وهو مفهوم «تامغرابيت «، أي كل ما له علاقة ثقافيا بالهوية المغربية، إذ انحصرت تامغرابيت في الطربوش الوطني و القفطان والكسكس والزربية المغربية.
إن تقديم العسكري لمجموعة دالة من النصوص التاريخية، طبعا، بتحريض من المؤلف، وخصوصيتها ونوعيتها، وطريقة ترتيبها والتركيز على بعضها دون بعضها، و إخراجها من سياقاتها، ومن متونها الأصلية، و طريقة إقحامها داخل تحبيك جديد لحكاية المغاربة/ الحكاية الإطار، يُعطي للمغاربة كأمة، دلالة جديدة، لم تكن واردة أصلا، بالنسبة للمتلقين المعاصرين للمؤرخين والكتب، المشارِ إليها، داخل الرواية، كالوهراني ومناماته، والاستبصار في عجائب الأمصار، والاستقصا للناصري، والجيش العرمرم، والكلاوي آخر سادة الأطلس، والمعجِب في تلخيص أخبار المغرب، وأخبار المهدي بن تومرت، ومناهل الصفا، و المحاضرات لليوسي، وغيرها.
في ص. 88
ذكر الباشا عبد السلام لأبيه الباشا بوزكري، مرة، قولة لجان جاك روسو « لكي تعرف الناس يجب أن تنظر إليهم وهم يعملون. « ضحك الباشا كثيرا وقال: « أهذا ما علموك؟ إيوا أسيدي لتعرف الناس يجب أن تنظر إليهم وهم خائفون، أو طامعون، الضعف هو ما يريك الإنسان على حقيقته».
في ص. 124 125
«لو كان لجدودنا خيال ذكي وخلاق، لما جعلوا العمال يعثرون، وهم يضعون لبنات مدينة فاس، على فأس، إرضاءً لجناس لغوي تافه. كان عليهم أن يفكروا في كتاب أو سراج أو دواة.كيف لمدينة تريد أن تكون عاصمة علمية و دينية للبلد، أن يرقد في أسطورتها التأسيسية فأس، لا يرمز إلا للهدم و الحفر و الخراب.»
«لم يعرف هذا البلد وحتى عند أبرز أوليائه وفقهائه وعلمائه، وكتابه ومفكريه، عملا عميقا على الذات و حفرا بداخلها. قساةٌ مع الآخرين ليِّنون مع أنفسهم، هكذا هم. لا ينتشلهم من خِذرهم إلا ما يهددهم.»
والخلاصة، ألاّ وجود لتاريخ غير مدرج داخل خطاب نصي، أي لا وجود لتاريخ، لا يكشف عن نفسه، في شكل نص سردي، يمتلك حكايته كما يمتلك متكلّمه ومخاطبَه، كما تفعل الرواية تماما، و بالتالي يشير ريكور إلى أنه بمرور الزمن، وانقراض المؤرخ وقارئه المباشر، تصبح النصوص التاريخية فارغة لا معنى لها. لكنها عندما توظف في تحبيك تاريخي أو روائي، تكتسب معان جديدة. وبالتالي، فكل الشواهد التاريخية التي يستعيرها مؤلف المغاربة من الكتب، و التي سمح لرواته بأن يتصرفوا فيها، بالعنونة والتفسير و الانتقاء… هي نصوص جديدة تسمح لنا نحن المتلقين، بقراءة التاريخ و إعادة قراءته، وإعادة تحبيكه، بل يمنحنا الجرأة الكافية على اقترافه، أو على الأقل اقتراف مساءلته، ليتناسب مع اهتماماتنا ومقاصدنا وسياقاتنا الثقافية.
المغاربة رواية مغربية فعلا، غير قابلة للتلخيص، حاولت هذه القراءة، التقنية أصلا، أن تحدد ملامح مسودة صورتنا، نيجاتيف، والتي لا ينقصها إلا القليل من التحميض لتتضح وتبرز ملامحها الأصيلة، الواضحة، النقية، قديما و حديثا.
وهي مغربية لأنها تتوفر، بجدارة و استحقاق على خصائص و خصال « تامغرابيت «، المميزة لقلة قليلة من نصوص الأدب المغربي الحقيقي. والمتجلية في الثيمة المعبر عنها وفي اللغة المغربية و الفضاءات والأزمنة والشخوص والنصوص والأمزجة والخلفيات، التي هي ملح وسكر ونكهة الأدب المغربي الحق.
المغاربة مرة ثانية نص روائي نقدي، يسعى إلى تحرير الوعي من ارتهانه للمقولات المسبقة والنهائية والمغلقة، وإلى محاولة فهم العقدة المغربية، المتضمنة للمعنى والواقع والمجتمع والتاريخ و الهوية. مما يمكن أن يسمح ب» اختلاق وإبداع الحاضر» عبر إعادة تحبيك التاريخ و الهوية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.