توقيف "مولينكس" ونقله إلى طنجة للتحقيق في ملف مرتبط بمحتوى رقمي مثير للجدل    القافلة الجهوية تقديم آليات جديدة متاحة لرواد الأعمال وأصحاب المشاريع في الجهة    إصدار جديد من سلسلة تراث فجيج    حوالي 756 ألف مستفيد من دعم مربي الماشية توصلوا بأزيد من 3 ملايير درهم    تفكيك شبكة لترويج المخدرات بطنجة وتوقيف ستة من أفرادها    الحاجب يستقبل محطة جديدة لمعالجة المياه العادمة بجماعة أيت نعمان    إطلاق المنصة الوطنية لرصد وفيات الأمهات والمواليد الجدد لتعزيز الجودة والحكامة في المنظومة الصحية    متابعة الرابور "بوز فلو" في حالة اعتقال وإيداعه السجن المحلي لصفرو    ( الحب المر)... فيلم يكشف الوجه الخفي للنرجسية داخل الأسرة المغربية    بوريطة يتباحث بالرباط مع نظيره الغاني    جدل داخل البرلمان حول مقترح حلّ الأحزاب التي لا تشارك في الانتخابات    "الأحرار" يصادق على تصوره للحكم الذاتي تمهيداً لرفعه إلى الملك    تتويج أشرف حكيمي بجائزة أفضل لاعب إفريقي.. إشادة واسعة من قبل وسائل الإعلام الفرنسية    بوريطة يستقبل رئيس الجمعية الوطنية لجمهورية تنزانيا المتحدة    نبيل باها: "اللاعبون مستعدون لمواجهة البرازيل والفوز بالمباراة"    ملف إسكوبار الصحراء .. النيابة العامة تكشف اختلالات خطيرة في العقود الموثقة    بورصة الدار البيضاء تنهي تداولاتها بأداء سلبي    تنسيقية الأطباء تحذّر مجلس المنافسة من سعي "أكديطال" لاحتكار القطاع الصحي عبر الاستحواذ على Rochaktalim    في مداخلة له خلال الدرس الافتتاحي للجامعة الشعبية بمكناس .. وسيط المملكة: الإنصاف أعلى من القانون حين يُظلم المواطن    الكاف يتجاهل المدرب محمد وهبي    المغرب يترأس المجلس الدولي للزيتون    تحقيق إسباني يكشف استعمال النفوذ للحصول على صفقات في المغرب وخلفيات ذكر اسمي اعمارة ورباح    أجهزة قياس السكر المستمر بين الحياة والألم: نداء أسر الأطفال السكريين لإدماجها في التغطية الصحية    الحكومة تقر "تنظيم مهنة العدول"    المغرب يحل ثالثا وفق مؤشر الأداء في مجال التغير المناخي (CCPI)            جمعية "السرطان... كلنا معنيون" بتطوان تشارك في مؤتمر عالمي للتحالف الدولي للرعاية الشخصية للسرطان PCCA    الفنان المغربي إِلياه والنجم المصري محمد رمضان يجتمعان في أغنية جديدة    السكتيوي يعلن الجمعة لائحة الرديف    في الحاجة إلى فلسفة "لا"    منظمة الصحة العالمية تحذر من الزيادة السريعة في استخدام الذكاء الاصطناعي في مجال الرعاية الصحية    ناسا تكشف عن صور جديدة للمذنب 3I/Atlas القادم من خارج النظام الشمسي    وزارة الاقتصاد والمالية تصدر ميزانية المواطن لسنة 2026    الإنصاف أخيرا لأشرف حكيمي..    تدشين غرفة التجارة المغربية بإيطاليا في روما    غوغل تطلق أداة جديدة للبحث العلمي    مناورات مشتركة بين قوات المارينز الأميركية ونظيرتها المغربية تختتم في الحسيمة    منتخبات ‬وفرق ‬وطنية ‬تواصل ‬التألق ‬وتخطيط ‬متواصل ‬يجعل ‬من ‬كرة ‬القدم ‬رافعة ‬تنموية ‬كبيرة    مونديال 2026.. جزيرة كوراساو الضيف المفاجأة    أمريكا تقدم "خطة السلام" في أوكرانيا    الملك يبارك اليوم الوطني لسلطنة عمان    أوكسفام: "ثروات الأثرياء" في ارتفاع    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الخميس    منظمة الصحة تحتاج إلى مليار دولار    كأس ديفيس: المنتخب الايطالي يتأهل لنصف النهاية على حساب نظيره النمساوي    معمار النص... نص المعمار    المهرجان الدولي للفيلم بمراكش يعلن عن تشكيلة لجنة التحكيم    لوحة لغوستاف كليمت تصبح ثاني أغلى عمل فني يباع في مزاد على الإطلاق    "صوت هند رجب" يفتتح مهرجان الدوحة السينمائي2025    مهرجان الناظور للسينما والذاكرة المشتركة يخلد اسم نور الدين الصايل    الأكاديمية الفرنسية تمنح جائزة أفضل سيرة أدبية لعام 2025 إلى الباحث المغربي مهدي أغويركات لكتابه عن ابن خلدون    الوصايا العشر في سورة الأنعام: قراءة فقهيّة تأمليّة في ضوء منهج القرآن التحويلي    ارتفاع معدلات الإصابة بارتفاع ضغط الدم لدى الأطفال والمراهقين بواقع الضعف خلال العقدين الماضيين    أطباء يوصون بتقليل "شد الجلد" بعد الجراحة    الإنعاش الميداني يجمع أطباء عسكريين‬    المسلم والإسلامي..    وفاة زغلول النجار الباحث المصري في الإعجاز العلمي بالقرآن عن عمر 92 عاما    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العرب وفلسطين: تلاحم أم تفارق؟


مقدمة:
يجسد احتفاء «الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية» ب»يوم الأرض»، إلى جانب الشعب الفلسطيني الشقيق، عمق تفاعل المغاربة مع قضية فلسطين، ومتانة التحامهم بالنضال الدؤوب الذي يخوضه الشعب الفلسطيني، على مدى سبعة عقود (1948-2019)، ضد الاحتلال الإسرائيلي المغتصب لأرضه، ومن أجل استعادة حقوقه المنتهكة
في الحرية والاستقلال والسيادة.
1) ولا مراء، فقد احتلت القضية الفلسطينية مكان الصدارة في حس المغاربة القومي، وشكلت على الدوام موضوع إجماع والتحام في موقف التضامن والمناصرة والدعم، وميثاق التزام وانخراط في المعركة التحريرية التي يخوضها الشعب الفلسطيني، بقيادة منظمته العتيدة: «منظمة التحرير الفلسطينية».
ولا غرابة في ذلك، فإن تعلق المغاربة بأرض فلسطين المنكوبة، وبمقدسات القدس الشريف السليبة، لما يمثلانه من رمزية دينية، ومرجعية تاريخية، وموروث ثقافي وحضاري عربي-إسلامي – إن تعلق المغاربة بالقدس وفلسطين، ليضرب أطنابه في أعماق التاريخ.
بل تزداد مفاعيله السياسية والنضالية قوة وعنفواناً في ظل ما تعرض ويتعرض له الشعب الفلسطيني من محن وملمات، منذ الاحتلال البريطاني عام 1918، ومضاعفاته، وحصول «النكبة» عام 1948 ومخلفاتها الإنسانية والترابية، وحدوث «النكسة» عام 1967، وما نجم عنها من استفحال وضع الاحتلال، وتفاقم سياسة الاستيطان، وتفاحش إجراءات القمع والميز العنصري، وصنوف التعسف والاضطهاد.
ويجسد ما يبذله جلالة الملك محمد السادس، رئيس «لجنة القدس» من جهود حثيثة، وما يتخذه من مواقف شجاعة، وما يبديه من عناية موصولة بالشأن الفلسطيني عموماً، وبشؤون القدس المحتلة بصفة خاصة – يجسد ذلك ما يطبع المغاربة من تفاعل وتجاوب وتضامن مع كفاح الشعب الفلسطيني من أجل إنهاء الاحتلال وإقامة دولته الوطنية ذات السيادة وعاصمتها القدس الشرقية.
وقد جاء «النداء» من أجل «حماية والمحافظة على المقدسات الدينية»، الإسلامية والمسيحية واليهودية بالقدس، وهو النداء الذي أطلقه جلالة الملك، بمعية قداسة البابا فرانسوا من الرباط (30 مارس 2019)، حدثاً تاريخياً بالغ الأهمية، عميق الدلالة، من شأنه استنفار مليارين ونصف من المؤمنين بمختلف أرجاء المعمور، دفاعاً عن القدس ومقدساته.
2) وإزاء ما تتعرض له القضية الفلسطينية اليوم من تحديات ومخاطر غير مسبوقة في مسارها النضالي، وكفاحها التحرري، ليستوجب على كافة القوى الديمقراطية-التحررية، العربية والعالمية، الارتقاء بمستوى تضامنها ومساندتها للقضية، بما يتناسب وخطورة الظرف المحلي والإقليمي والدولي، التي باتت تتهددها في ذات شرعيتها، بل في ذات حاضرها ومستقبلها.
وكما يشاهد ويتابع الجميع، عرباً وغير عرب، فإن القضية الفلسطينية تواجه اليوم ظرفية دقيقة، حبلى بكل الاحتمالات، ما هو سيء منها وما هو أسوأ. وتستمد هذه الظرفية حراجتها من معطيات محلية، وإقليمية، ودولية بالغة الدقة والحراجة.
أولاً: في مأزومية الوضع العربي:
1) يمر العالم العربي بمرحلة عصيبة، غير مسبوقة في تاريخه المعاصر، منذ الحرب العالمية الثانية، وتأسيس «جامعة الدول العربية» (1945).
فقد انقلبت سياسات ومساعي بلورة مشروع «الوحدة العربية» المنشودة إلى أجندات نسج «المحاور»، القائمة على أرضية الصراعات الإيديولوجية، والاستقطابات الإقليمية والدولية، تحت عناوين إيديولوجية، قيمية صرفة.
وبديهي، فإن سياسة «المحاور» العربية بمختلف مسمياتها (محور «الاعتدال»/محور «المقاومة»/محور «النأي بالنفس»)، القائمة على اختلافات إيديولوجية سياسية، وأحياناً طائفية، لا تسهم في ترشيد الوضع العربي، بل إنها على العكس تُغذي دينامية الانقسامات العربية، وتوفر فرصاً إضافية للمزيد من تدخل القوى الإقليمية والدولية في الشأن الداخلي العربي.
وقد ساهمت هذه الأجندات التشطيرية، الممزقة للنسيج السياسي، القومي للعالم العربي، إلى تغذية الأزمة البنيوية التي تعصف بمؤسسة «جامعة الدول العربية»، منذ عام 2011 بصفة خاصة.
كما انكفأت جهود الاندماجات الإقليمية العربية، لتحل محلها نزعات الانقسام أو الانفصال على الصعيد الترابي-الوطني، كما جرى ويجري في السودان وليبيا وسوريا، بصفة خاصة، أو جنوحات التقوقع في المربع الوطني، ضداً على رؤية العمل من أجل الارتقاء إلى حالة الاندماج الإقليمي. وتشكل الأزمات التي تعصف ب»اتحاد المغرب العربي»، وب»مجلس التعاون الخليجي» مثالاً حياً على ما يطال تطلعات وجهود الاندماج الإقليمي من نكوص وانكفاء.
وموازاة لذلك، فقد تفاقمت ظاهرة الاستقطابات الإقليمية والدولية للمجموعة العربية، مما بات يشكل تهديداً متطاولاً لِ»الأمن الجماعي» العربي، ويلحق ضرراً بالغاً بمصالحها الحيوية، السياسية والجيو-سياسية.
كما تعرضت، وتتعرض القضية الفلسطينية التي جسدت، على مدى سبعة عقود، رافعة أساسية لوحدة الموقف العربي في مجالات التحرر الوطني، والتضامن القومي، واستقلالية القرار السياسي – تتعرض القضية الفلسطينية، في غمرة هذه المتغيرات السلبية، إلى مخاطر متناهية الدقة والخطورة، عنوانها الأساسي: ترسيخ الاحتلال الإسرائيلي، وتقسيم الشعب الفلسطيني، وتصفية أداته الكفاحية من أجل التحرير وإقامة الدولة الفلسطينية، ذات السيادة، وعاصمتها القدس، وهي «منظمة التحرير الفلسطينية».
تراجع غير مسبوق في مسارات «الانتقال» الديمقراطي، في عدد غير قليل من الأقطار العربية، مصحوباً باختلالات فادحة في مسلسلات التنمية الشاملة، الاجتماعية والاقتصادية والبشرية، مما راكم ويراكم عجوزات اقتصادية واجتماعية، ليس أقلها ارتفاع معدلات البطالة، وبخاصة في صفوف فئات الشباب والمرأة، وترنح في المؤشرات الماكرو-اقتصادية، وتدهور في شروط البيئة وغيرها…
2) وتطرح هذه المعطيات الموضوعية التي تشي بعمق وحدة مأزومية الوضع العربي، سؤالاً مركزياً بات يفرض نفسه بقوة: ما هي أسباب وعلل هذا التدهور في الوضع العربي الراهن؟
ثانياً: في أسباب وعلل
المأزومية العربية:
1/ تعود أسباب مأزومية الوضع العربي إلى تراكم نوعين من العلل:
I/ أولاهما، ذات طابع بنيوي، يعود إلى الفشل التراكمي للأنظمة السياسية العربية، في غالبها الأعم، في مجالات الإصلاح والتحديث، خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين؛ وفي مقدمتها تطوير بنية الدولة، والارتقاء بها إلى مستوى «الدولة الوطنية الحديثة».
فمنذ بداية التسعينات من القرن الماضي، على الخصوص، بدأت تتكشف فشالات الأنظمة السياسية القائمة، «القومية» منها و»الأتوقراطية»، في مجالات «الانتقال» إلى الديمقراطية، وتبنى نموذج تنموي متجدد، قمين بتحقيق نهضة اقتصادية وتنموية وثقافية، تستدمج كافة أفراد المجتمع، وتعزز مقومات انخراطه في ركب التقدم والتطور الذي يخترق فضاءات جغرافية عدة في عالمنا المعاصر..
وقد مهدت حصيلة خيارات وأداءات الأنظمة السياسية العربية، بمتغيراتها اليمينية والليبرالية واليسارية، إلى اختمار وتبلور نوع ثان من العلل، ذي طابع «ثوري»، تجلى في دينامية الانفجارات والاحتجاجات الجماهيرية التي شكلت ما بات يطلق عليه: «الربيع العربي» (2011).
II/ ثانيتها، حدوث الظاهرة «الربيعية» التي شكلت محطة مفصلية في مسلسل المأزومية التي طالت الوضع العربي. كما أنها جسدت محصلة منطقية لهشاشة وتهافتات العديد من الأنظمة العربية التي أبانت عن قصور بنيوي فادح في التجاوب مع مطامح شعوبها، لجهة إرساء الديمقراطية، واجتثاث الفساد، وتحقيق شروط المواطنة، ومتطلبات العدالة.
وإذا كان الجدل لايزال محتدماً ومتجدداً في صفوف النخب السياسية والمجتمعية العربية حول تقييم هذه الحلقة الحرجة في سلسلة نضال الشعوب العربية من أجل الإصلاح والتغيير – فإن تقييم الظاهرة، غالباً ما يصب في اتجاه موقفين متقابلين:
موقف يعتبر أن «الربيع العربي» كان كبوة كارثية، لم يجلب لشعوب المنطقة سوى الفوضى والتقهقر؛
وموقف مقابل، متعارض، يعتبر أن «الربيع العربي»، بالرغم من فشله «الثوري»، شكل ثورة ذهنية، حررت المواطن من طاغوت الخوف والخنوع، وأطلقت ديناميات مجتمعية جديدة، جديرة بتمكين بلدان العالم العربي من غرس قيم الحرية والديمقراطية والعدالة، التي غابت ممارستها على أرض الواقع المعيش.
وحقيقة الأمر – في نظرنا – أن ظاهرة «الربيع العربي» لم تكن «ثورة» بالمفهوم السوسيو-سياسي، والمدلول التاريخي للثورة، كما أنجزتها شعوب وأقطار في أحقاب مختلفة من التاريخ الحديث والمعاصر. كما أنها لم تكن، بذات الوقت، كبوة كارثية، على خلفية ما تولد عنها من فوضى سياسية، واختلالات اجتماعية، واستقطابات مذهبية وطائفية، بل تحتل ظاهرة «الربيع العربي» منزلة بين منزلتي الثورة والكبوة. فقد كان القاسم المشترك للانتفاضات العربية في عدد من الأقطار العربية، في ظل «الربيع العربي»، منصباً على المطالبة الشعبية بتطوير بنيات الدولة التقليدية، بما تتسم به من «طبائع» الاستبداد، وعناصر الفساد، وذلك في اتجاه إرساء دولة وطنية، ديمقراطية، حداثية، بديلة، كفيلة بضمان الحرية والعدالة لمواطنيها، دولة تقوم على المؤسسات والحق والقانون.
2/ بيد أن واقع «اللاثورة» الذي تمخض عن أحداث «الربيع العربي»، بسبب «تفاعل» ديناميات داخلية («الوضع السوسيو-سياسي الداخلي»)، وديناميات خارجية (العوامل الجيو-سياسية) في تأطير مساره وصياغة نتائجه – قد فاقم مأزومية الوضع العربي، ومدد في عمر اختلالاته…
وتمثل الإشكاليات التالية عناوين بارزة لتفاقم مأزومية الوضع العربي:
I/ الإشكالية الأولى: هي إشكالية الإرهاب الإسلاموي الذي انتعش وتناسل في أكثر من منطقة عربية، في شروط الفوضى السياسية التي نجمت عن غياب بديل ديمقراطي، وطني قادر على سد «الفراغ» المؤسساتي الذي تلا انهيار الأنظمة السياسية، الأوتوقراطية.
ولئن وجد النشاط الإرهابي أرضاً خصبة في مناطق الأزمات السياسية بالعالم العربي، فإن دينامية انتشاره، وتغذيته وتمركزه، ظلت مرتبطة ب»ميولات الهيمنة» لدى القوى العالمية الكبرى، التي لم تتورع عن استثماره وتوظيفه للدفاع عن مصالحها الاستراتيجية.
II/ الإشكالية الثانية: تتجسد في الانهيار الاقتصادي الذي طال اقتصاديات الأقطار العربية التي اجتاحتها عاصفة «الربيع العربي». ففي دراسة من إنجاز «المنتدى الاستراتيجي العربي» (الإسكوا)، فإن حجم الضرر في البنية التحتية للأقطار التي عصفت بها أحداث «الربيع العربي»، يناهز خمسمائة مليار دولار أمريكي، وأن مجمل الخسارة المادية تتجاوز ستمائة مليار دولار، وأن حجم الخسائر التي خلفها «الربيع العربي» يعادل، إجمالاً، 6% من الناتج الداخلي الإجمالي للمنطقة العربية ما بين 2011 وسنة 2015.
وفي ظل هذه المعطيات الاقتصادية الرقمية، فإن اقتصاديات أقطار «الربيع العربي» لاتزال تعاني من مضاعفات هذه الإشكالية بأبعادها الاجتماعية والمعيشية، بل إن مضاعفاتها على الصعيد الاجتماعي أضحت مصدراً أساسياً للتوترات الاجتماعية والسياسية الماثلة.
III/ ثالثة الإشكاليات: تتصل بتشظي الهوية الثقافية-الحضارية للمجموعة العربية التي يشكل لحمتها التاريخ واللغة والثقافة ووحدة المصير، من الخليج إلى المحيط. ف»العروبة» التي شكلت، منذ ثلاثينيات القرن الماضي هوية قومية جامعة، في سياق المشروع التحرري، العربي، لمواجهة الاستعمار وإحباط مخططات هيمنة القوى الأجنبية، الإقليمية والدولية، لم تكن متعارضة ولا متناقضة مع الهويات الوطنية، القطرية، بل سعت إلى أن تكون مظلة ثقافية، حضارية، حداثية، وبوتقة للنضال المشترك، تنصهر في حمأتها مختلف الهويات الثقافية والدينية والطائفية المتعايشة في الفضاء العربي-الإسلامي.
ثالثاً: في محنة القضية الفلسطينية:
I/ في ظل هذه التداعيات السوسيو-سياسية التي تجتاح عالمنا العربي، وتنال من تطلعاته إلى الأمن والاستقرار والتقدم، وتحاصر مختلف قضاياه العادلة، قضايا الديمقراطية والعدالة والحرية، تُصاب القضية الفلسطينية، وهي القضية المركزية للأزمة العربية على امتداد مجالها الجغرافي من الخليج إلى المحيط، وللأمة الإسلامية من المحيط إلى المحيط، كما هي قضية اختبار وامتحان لتطلعات ونضالات الإنسانية جمعاء من أجل الحرية والعدالة والكرامة، في كل مكان من الكوكب الأرض – تُصاب القضية الفلسطينية بنكسة جديدة، تكاد تُضاهي في طابعها وعواقبها «نكبة عام 1948»، و»نكسة» سنة 1967.
وتتضافر في إحداث وتغذية هذه «النكسة» الجديدة، التي أضحت تتهدد حاضر القضية الفلسطينية، وترهن مستقبلها، عدة عوامل ومحددات:
أولاها، سطوة اليمين الإسرائيلي المتطرف بقيادة «الليكود»، وزعيمه نتنياهو – ومن التف حولهما – على مراكز القرار في إسرائيل، وسعيه الحثيث، منذ ما يناهز عقدين من الزمن، على نسف وإقبار «حل الدولتين» الذي أقرته الشرعية الدولية، وقبل به الشعب الفلسطيني، عبر ممثله الشرعي، الوحيد، «منظمة التحرير الفلسطينية».
وقد شكلت، وتشكل:
سياسة الالتفاف على أوفاق «أسلو» التي أسست ل»حل الدولتين» الذي تبنته الشرعية الدولية؛
وخطة تكثيف «الاستيطان»، وتوسيع نطاقه الجغرافي، ليبتلع مساحات شاسعة من أراضي «الضفة» والقدس، في إطار خطة ماكرة لتهويد ما تبقى من أراضي فلسطين؛
ومنهجة سياسة القمع والتنكيل والاضطهاد للشعب الفلسطيني داخل الأراضي المحتلة عام 1948، والأراضي المستولى عليها في يونيه عام 1967، مما أسفر عن مئات القتلى في صفوف الشباب الفلسطيني المكافح في «الضفة» تخوم غزة؛
ومحاولة تكريس «ضم القدس» إلى إسرائيل ضداً على قرارات الشرعية الدولية؛
وتبني «الكنيست» الإسرائيلي، لِ»قانون القومية» الذي يكرس السياسة العنصرية لإسرائيل، ضد الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة عام 1948، ويرسي نمطاً جديداً لنظام «الأرباتيد» العنصري؛
وتحدي إسرائيل، بكيفية سافرة ودائمة، لقرارات الأمم المتحدة، ومواقف المجتمع الدولي المناهضة والمدينة لهذه السياسات الاستعمارية والعنصرية والتوسعية لإسرائيل. وفي هذا الصدد فقد بلغت القرارات الأممية، الصادرة عن «مجلس الأمن الدولي» وعن «الجمعية العامة» لمنظمة الأمم المتحدة، ما يناهز: 500 قراراً، لم تلتزم إسرائيل بأي منها؛
إطباق الحصار، ومواصلة العدوان على الشعب الفلسطيني بغزة، في محاولة يائسة لاحتواء المقاومة الشعبية، السلمية، كما تجسدها «مسيرات العودة وكسر الحصار».
وقد أودت الاعتداءات العسكرية المتواصلة على المتظاهرين السلميين بغزة إلى استشهاد العشرات (=195 قتيلاً)، وخلفت آلاف الجرحى.
ثانيتها، مغالاة الإدارة الأمريكية في الانحياز التام إلى مواقف اليمين الإسرائيلي المتطرف، فيما يخص شروط تسوية النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي، وفق قواعد الشرعية الدولية، و»خطة السلام العربية».
وبالرغم من اعتراف الإدارات الأمريكية المتعاقبة، بأن القضية الفلسطينية شكلت وتشكل جوهر النزاع المحتدم بالشرق الأوسط، وأن تثبيت الأمن وإرساء الاستقرار في هذه المنطقة الحيوية من العالم، يظلان شديدي الارتباط بتسوية هذا النزاع الإقليمي، ذي البعد الدولي – فإن سطوة اليمين الأمريكي على مراكز القرار السياسي بالولايات المتحدة، في العقدين الأخيرين على الخصوص، وتجذر ارتباطاته المالية والإيديولوجية والإعلامية بالحركة الصهيونية، كما تجسده منظمة «أيباك» اليهودية-الأمريكية – قد فاقم سياسة انحياز الإدارات الأمريكية لإسرائيل، وجردها من الالتزام بمنطق التوازن والوسطية الذي ينبغي أن تتصرف به دولة عظمى في مقاربة النزاعات الإقليمية والدولية، خاصة عندما يتعلق الأمر بنزاع تاريخي وسياسي وجيوسياسي، أضحى يمارس تأثيراً فاعلاً على إشكالية الأمن والاستقرار بالشرق الأوسط، كالنزاع العربي-الإسرائيلي.
ثالثتها، حالة «الانقسام» التي لحقت بالصف الفلسطيني ما بين «الضفة» و»القطاع»، مما بات يتهدد حركة التحرير الوطني الفلسطيني بأخطار محدقة على مختلف مستويات كفاحها المحلي والإقليمي والدولي.
وعندما تتأمل جذور ومسار هذا «الانقسام»، منذ إرهاصه الأول الذي تجلى في حدث «الانقلاب» المسلح الذي قامت به حركة «حماس» الفلسطينية في غزة في صيف سنة 2007، ضد «السلطة الوطنية» الفلسطينية في الضفة، وضد «منظمة التحرير الفلسطينية» المؤطرة لها – فإننا لا نذهل عن استبطان جملة من المعطيات الموضوعية الدالة التي رافقت هذا «الانقسام» على مدى عقد ونيف من الزمن (2007-2019).
يتبع


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.