قارب عدد من الباحثين المغاربة المشاركين في المؤتمر السنوي الثاني للدراسات التاريخية، المنعقد ببيروت حول موضوع «مائة عام على الحرب العالمية الأولى: مقاربات عربية»، هذا الحدث الكوني وتداعياته ونتائجه على المغرب، وذلك انطلاقا من وجهات نظر تاريخية وبحثية. وفي هذا السياق، اعتبر الباحث جلال زين العابدين، في مداخلة خلال هذا المؤتمر الذي انطلقت أشغاله يوم الجمعة الماضية، أن القراءة الأكاديمية لهذا الحدث من منظور تاريخي « لابد أن تستحضر الآليات والتصورات المعرفية المؤطرة لتطبيع العلاقة بين مستعمِر يدافع عن مستعمراته ومستعمَر كان جزء من سكانه وقودا لحرب» لا مصلحة لهم فيها. كما تستلزم دراسة هذا الحدث، حسب زين العابدين الذي ركز في مداخلته على « فرنسا وتحدي الحفاظ على المغرب خلال الحرب العالمية الأولى» ودور المقيم العام ليوطي وسياسته في هذا الأمر، قراءته «بصيغة متجددة تتعالى على الخلاصات التي قدمتها الكتابات التاريخية السابقة المحكومة بسياقها العام والخاص». وعن «الاستراتيجية العسكرية للحماية الفرنسية بالمغرب خلال فترة الحرب العالمية الأولى: فاس وناحيتها نموذجا ما بين 1914 - 1918 من خلال وثائق الاستخبارات العسكرية الفرنسية «، أشار الباحث إدريس محارتي، من جهته، إلى التوتر الذي سبق اندلاع الحرب على الساحة الأوروبية بين القوى المتصارعة»، وما نتج عن ذلك من «تعريض البرامج الفرنسية» في المغرب آنذاك ل»حالة ارتباك». وبعد أن أبرز أن اندلاع الحرب كان له تأثير في «تغيير الاستراتيجية الأمنية» في المغرب عامة وفي فاس خاصة، أوضح محارتي أن منطقة فاس «اعتبرت ذات أهمية قصوى من الناحية الأمنية في سياق الحرب العالمية الأولى، لما كانت تشكله من أهمية استراتيجية في المخطط الاستعماري، خاصة وأن صدى الحرب كان قد وصل إلى القبائل المحيطة بالمدينة وما نتج عن ذلك من تحرك عدد كبير منها لرد الغزو عن أراضيها». أما الأستاذ عبد اللطيف الحفار، فتحدث عن «توجهات فرنسا الاقتصادية» في المغرب إبان هذه الحرب ، وعن «مسارات التحول التي لحقت بالقطاعات الاقتصادية (الفلاحة والصناعة والتجارة) انطلاقا من الأرشيف الاستعماري، خاصة، كما يقول الباحث، «مع غياب أرشيف مغربي يؤرخ للمرحلة». وقال الحفار إن «ما أحدثته فرنسا في المغرب على المستوى الاقتصادي طوال فترة الحرب وما بعدها على امتداد فترة الحماية، ساهم في نقل المغرب إلى مسار السوق العالمية». وخلص إلى أن تعديل البناء الاقتصادي خلال هذه الفترة لم يبق حبيس تلك الفترة، «بل امتد تأثيره إلى مراحل لاحقة، أو ما أسماه الباحث «الزمن الراهن»، داعيا إلى البحث في حدود هذه المتغيرات واستمرارها في هذا الزمن. و»للحفاظ على المغرب كمستعمرة فرنسية، عملت فرنسا عبر ليوطي، حسب الباحث أنس الصنهاجي، خاصة في ظل «إكراهات ضعف الإمكانات العسكرية المنصرفة في المجهود الحربي والمقاومة المستعرة في مختلف ربوع المغرب»، على اعتماد سياستين تتمثلان في تغطية الفراغ الأمني والعسكري بنهج «السياسة القائدية» وكذا عبر اتباع «الدبلوماسية الطبية» لاستمالة السكان. وأوضح الصنهاجي أن ليوطي استطاع، عبر السياستين، «احتواء الوضع»، مبرزا أن المغرب بفضل هذه الاستراتيجيات الطبية الحديثة تمكن من تقليص العدد الكبير للموتى «الذي كانت تتسبب فيه من وقت لآخر الأوبئة والأمراض». بدوره تناول محمد بكراوي الموضوع من زاوية أخرى، انطلاقا من «الهاجس» الذي كان مسيطرا على ليوطي والمتعلق بكيفية إنقاذ فرنسا التي دخلت الحرب، دون ضياع المغرب، مبرزا أن ليوطي «تخلص من هذا الهاجس بعد ذلك، مستشهدا بقولة للأخير يوضح فيها أنه سيعطي فرنسا «كل ما تطلبه مني، وسأحتفظ هنا بالمغرب المحتل كله ... كخزان يمد فرنسا بكل ما تحتاج إليه». من ناحية أخرى، اهتم جامع بيضا بموضوع الصحافة، التي كانت من وسائل الحماية، مشيرا إلى الوهن الذي أصاب «السلطة الرابعة» بفرنسا بعد دخولها الحرب، إلا أنها في الوقت ذاته قدمت الدعم لصحيفة (السعادة) بالرباط ووفرت لها جميع الوسائل لتصبح البوق الرسمي بلغة الضاد للإدارة الفرنسية لدى المغاربة، لا سيما بعد تجنيد الآلاف منهم في حرب لا مصلحة لهم فيها. وذكر بأن فرنسا لم تكتف بالترويج لدعايتها، بل عملت على «حظر بعض الصحف والمجلات الصادرة خارج منطقة نفوذها». كما اهتمت بالمشهد الصحافي بطنجة ، التي كانت تتمتع بوضع خاص، وعملت على تعزيز أدواتها الدعائية فيها بواسطة تقديم الدعم المالي لبعض الجرائد مثل «لاديبيش» و»ماروكين» و»لا لبرتي». وتتبع إدريس مقبول الطريقة التي «أثرت بها الحرب في وضعية العلاقة بين مقاومة عبد الكريم الخطابي والاستعمار في شمال المغرب والدور الذي كان لهذه الحرب ولهذا الاستعمار في بلورة ذهنية متغيرة ووعي تاريخي عرف تطورا شديدا تجاه الظاهرة الاستعمارية». وفي سياق مرتبط بهذه الحرب، تناول قاسم الحادك «الدعاية الألمانية بالمغرب خلال الحرب العالمية الأولى وردات الفعل المحلية»، مؤكدا أن المغرب أصبح مع اندلاع تلك الحرب «محطة لتنفيذ مخطط ألماني تنظم بموجبه حملة دعائية وتحريضية ضد نظام الحماية الفرنسية، بهدف إثارة الاضطرابات في منطقة شمال إفريقيا، وبالتالي شغل الجيوش الفرنسية في قمع تلك الثورات». وأشار إلى أن الدعاية الألمانية اعتمدت في المغرب على «رصيد سياسي كبير، شمل المواقف الألمانية السابقة التي ساندت المغرب ضد جميع المحاولات الفرنسية السياسية والعسكرية لبسط نفوذها عليه»، مضيفا أن خطورة هذه الدعاية « ازدادت، وأصبحت شبحا يخيف سلطات الحماية الفرنسية بعد انتصار معركة الهري التي تزامنت مع التقدم الكبير الذي حققته القوات الألمانية في الجبهة الأوروبية ، حين كثف الألمان اتصالاتهم بزعماء المقاومة لحثهم على استغلال هذه الظرفية التي كانت تمر بها القوات الفرنسية، وتنسيق جهودهم وتكثيف عملياتهم ضدها». ويبحث عدد من الباحثين العرب ، خلال هذا المؤتمر، الذي ينظمه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات (فرع لبنان) على مدى ثلاثة أيام، الدراسات والأبحاث المنجزة عن الحرب العالمية الأولى و»تداعياتها عربيا في بلدان المغرب العربي الكبير، وفي وادي النيل وبلاد ما بين النهرين وبلاد الشام، والجزيرة العربية». كما سيتطرقون إلى محاور «السياسات الدولية والمشاريع السياسية المحلية خلال الحرب (الدول والإدارات وتطلعات الأعيان والنخب المحلية وبرامجها)» و»آثار الحرب اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا في المجتمعات العربية» و «الثورات العربية في ما بعد الحرب (الرد على الاحتلال)».