قليلون انتبهوا هذه الأيام إلى خبر صاعق يقول إن المغرب فشل في القضاء على مدن الصفيح. وإذا كان هذا الخبر يبدو للبعض عاديا، فإنه في حقيقة الأمر فضيحة... فضيحة كبيرة. تقول الإحصائيات الرسمية إن المغاربة الذين لا يزالون يسكنون «البراريك» هم في حدود نصف مليون شخص، لكن الواقع يؤكد أن الرقم أعلى من ذلك بكثير، وهو رقم مرشح للارتفاع كل يوم. إنه شيء رهيب فعلا ألا تعرف بلاد حصلت على استقلالها منذ قرابة ستين عاما كيف توفر سكنا لائقا لمئات الآلاف من مواطنيها، والأدهى من ذلك هو أن مدن الصفيح خلقت أغنياء كثيرين صاروا يلعبون بالملايير. الحديث عن سياسة القضاء على مدن الصفيح انطلق منذ الأيام الأولى للاستقلال، لكن الذي وقع هو أن العكس هو ما كان يحدث، أي أنه كلما انطلقت حملة لمقاومة مدن البؤس إلا وخُلقت أحزمة بؤس جديدة وبسرعة قياسية على الهوامش، حتى صار الناس لا يعرفون ما إذا كانت تلك الحملات من أجل مقاومة مدن الصفيح أم من أجل سقْيها وإنعاشها. خلال العقود الماضية، عثر كثير من المسؤولين والمنتخبين على كنز كبير اسمه «كنز مدن الصفيح»، وصار كثير من القيّاد والعمال والمقدمين والمنتخبين يجمعون ثروات كبيرة مقابل تواطئهم وتورطهم في توسيع بقع مدن العار؛ وهؤلاء المتورطون بنوا لأنفسهم فيلات واقتنوا أراضي واشتروا شققا وعقارات خارج المغرب وفتحوا حسابات بنكية بأسماء زوجاتهم وأبنائهم وبناتهم، بينما ظلت مدن الصفيح تتوسع مثل بقعة زيت. الغريب أنه في كل حملة رسمية للقضاء على مدن الصفيح كان المسؤولون والمنتخبون الفاسدون يفركون أيديهم فرحا لأنهم مثل المنشار «طالْعين واكْلين.. نازْلين واكْلين»، لأنه في الوقت الذي توزع فيه الدولة أحيانا أراضي بالمجان على سكان مدن الصفيح، فإنه من أجل أن يحصل شخص على شهادة إدارية تثبت أنه يسكن «برّاكة» في مكان ما، يجب أن يدفع ما يقارب الخمسة ملايين سنتيم من أجل ذلك، وهكذا تشكلت مافيات حقيقية للمتاجرة في عمليات إعادة الإسكان، وتحول كثير من الأشخاص إلى أصحاب أملاك وعقارات لأنهم عرفوا كيف يتاجرون في هذا القطاع الذي صار يشبه مغارة علي بابا. الدولة المغربية لا يخفى عليها كل هذا الفساد، وهي تعرف الفاسدين في هذا القطاع واحدا واحدا؛ لكنها رغم ذلك، استمرت في لعب دور النعامة؛ وعوض القضاء النهائي على مدن الصفيح، تحول هذا القطاع إلى اقتصاد قائم الذات. والأكيد أنه لن يختفي لا اليوم ولا غدا ولا في العقد المقبل ولا في القرن الآتي ما لم يتم القضاء بشكل نهائي على فساد المسؤولين. الغريب في كل هذا أنه من أجل القضاء على «بلد البراريك»، منحت الدولة امتيازات هائلة لمنعشين عقاريين، وتم إعفاء مجموعات عقارية كبيرة من الضرائب وتم تسليمها أراضي بأثمان بخسة، أو بالمجان تقريبا، وذلك من أجل المساهمة في محو هذه الصورة القصديرية القاتمة التي ارتبطت بوجه المغرب، لكن الفاجعة هي أن هؤلاء المنعشين العقاريين تحولوا إلى وحوش عقار، وعوض أن يساهموا في تنظيف صورة البلاد ووقف معاناة الناس، أوغلوا في توسيخ صورة البلاد أكثر وافترسوا المواطنين حتى آخر عظم، ثم دخلوا نادي أغنى أغنياء العالم، وصار أحقر واحد فيهم يقيم زفافا لابنه أو ابنته بالملايير، يتم إنفاقها في ليلة واحدة. كل ما فعلته هذه المجموعات العقارية العملاقة هو أنها استعاضت عن مدن الصفيح القصديرية بمدن الصفيح الإسمنتية، أي أنها بنت مدن صفيح على شكل عمارات، وصار المواطن ينفق كل جهده وما يتحصل عليه من مال لاقتناء شقة تافهة يقضي حياته في أداء أقساطها، بينما لا تجد ابنته مكانا تأوي إليه لتغير ملابسها ولا يجد ابنه الشاب مكانا ينعزل فيه، وصارت أخلاق وحميمية الأسر المغربية رهينة في يد وحوش العقار الجشعين. هكذا، عوض أن نقضي على مدن الصفيح، تم خلق طبقة جديدة من الأغنياء فاحشي الثراء، الذين كونوا ثرواتهم بفضل القصدير والبراريك، وهم أغنياء يستحقون عن جدارة أن نطلق عليهم اسم «أغنياء الصفيح» أو «أثرياء القصدير». هنيئا لهم بنا.. فلولا قصديرنا لما تحولوا إلى أغنياء من ذهب.