ما تقوم به بعض الجهات الأمنية في بلادنا من اختطافات وتجاوزات يدعو إلى التوقف والاحتجاج والإدانة. ذلك فالمقاييس الشرعية الدينية والوضعية لا يقبل انتهاك حياة الناس لمجرد الشبهة في أمرهم، واستعمال الأساليب الهمجية في القبض عليهم وإخفاء وجودهم وسجنهم وتعذيبهم، وقد يصل الحال إلى موتهم ودفنهم دون أن يعلم بهم أهلهم وأقرباؤهم. ولا يعرف لحد الآن على وجه الدقة والحقيقة ماذا جنى المختطفون والمغيبون والمطاردون بالليل والنهار، وكل ما هناك مجرد اتهامات لم تثبت. بل حتى بيوت الله والمكتبات المفتوحة على مصراعيها وصلت إليها صكوك الاتهام ولجن التفتيش ومحاكمها، ومنها ما تعرض للإغلاق، ومنها من تنتظر. التهمة الجاهزة الملفقة هي "الترويج للسلفية الوهابية الجهادية". وباسم الحفاظ على الأمن العام تغلق أبوابها ومستودعاتها قبل البت القضائي في أمرها. وتروج بعض الجهات الإعلامية المريضة أن وزارة الأوقاف بصدد إعداد لائحة بقائمة الكتب الممنوعة والمخالفة للمذهب المالكي، وقد يكون ذلك استدراجا للوزارة في حملة حاقدة. الحق يقال إن المغرب ينبغي أن يكون منزها فوق مثل هذه السلوكات السريعة المستجيبة لبعض النزوعات الاستئصالية لكل مظاهر التدين الثقافية والاجتماعية والسياسية والعمرانية أيضا. المغرب بتاريخه العريق، ومؤسساته الدستورية أقوى وأثبت من أن تحركه رياح شرقية أو غربية أو شمالية ضعيفة. والمغاربة عرفوا عبر تاريخهم الطويل النبيل بالاعتصام بالكتاب والسنة والملكية والوحدة المذهبية، وما نراه اليوم في زمن العولمة الكونية مجرد حالة عابرة لا تلبث أن تنتهي إذا وجدت جذورا راسخة وعزيمة من حديد. في المغرب تيارات هي الخطر بعينه تهدد حاضره ومستقبله، هي تيارات الإباحية والانحلال والتغريب والتفسيق والتخمير والتخدير لا يتحرك المسؤولون لمواجهتها ووقاية الأجيال المتلاحقة منها بنفس الحزم والصلابة، وهي التي تجرفهم جماعات جماعات. فالدعارة تضرب أطنابها في جوانب المجتمع، والمخدرات والخمور في كل الأزقة والشوارع، والرشوة والغش عملة رائجة، والكذب والبهتان تجارة إعلامية مستشرية، وحرب الطرق تتصاعد أرقام ضحاياها محطمة كل الأرقام القياسية... ولا تواجه هذه المصائب والكوارث بمثل ما تواجه به بعض الانحرافات الصغيرة والمحصورة هنا وهناك. فلماذا الكيل بأكثر من مكيال؟ وإذا كان لابد من لائحة بالكتب الممنوعة ، فلتبدأ الحكومة بالكتب والمجلات والأشرطة السمعية والبصرية التي تروج للبورنو وشيوعية الجنس، ولتبدأ بالصحف التي ما تركت كلاما للسب والشتم في حق الإسلام والمسلمين والأنبياء والمرسلين إلا ونشرته، وما تركت قصة من قصص الخيال الجنسي إلا ونشرتها بالكلام والصورة. ولاشك أن الحكومة تعلم أن اللائحة طويلة جدا في هذا المجال، ويكفي أن نذكر بكتب "الخبز الحافي" و"الحياة الثلاثية" و"الحياة العاهرة بالدار البيضاء" وغيرها مما لايتسع المجال لذكره. في بريطانيا لم تقدم السلطات على حل "الشين فين" الجناح السياسي للجيش الإيرلندي الموحد (الإيرا) رغم العمليات الإرهابية التي كان يقوم بها، وسعت بكل جهدها لاحتواء الموقف، والمقارنة مع الفارق. وفي إسبانيا لم تقدم السلطات على حظر حزب "باطاسونا" الجناح السياسي لمنظمة (إيطا) الإرهابية إلا بعد التأكد من سكوته وعدم إدانته للعنف الدموي للجناح العسكري، ولم تقم الجهات الأمنية بذلك، ولكن الذي تولى الأمر هي المحكمة الوطنية، وهي أعلى هيئة قضائية بإسبانيا، بناء على تصويت برلماني وصل إلى 90%. ولم توقفه إلا لمدة ثلاث سنوات. الفروق بيننا وبين البلدين المذكورين كثيرة جدا، ولكن الشاهد أن الجهات المعنية تتحمل مسؤولياتها كاملة ولا تقدم على أي قرار حساس إلا بعد تبين كامل. وليس في المغرب أخطار وأعمال إرهابية مثل ما يوجد في غيره من الجيران في الشمال والشرق، ولن تكون لأن طبيعة المغاربة تأبى ذلك، وطبيعة نظامهم السياسي مخالفة تماما للأنظمة الشمولية القاهرة. فلماذا اعتماد الأسلوب الأمني العنيف في معالجة ظواهر تحتاج إلى علاج علمي ثقافي هادئ بعيد عن الهراوات والعصي؟ ولماذا الإعراض عن علاج المخاطر الواقعية الملموسة في المجتمع أم أن تلك المخاطر داخلة في الحسابات السياسية؟