مباحثات مكثفة بين الطالبي العلمي والوفد النيابي المرافق له ومسؤولين فنلنديين لتعزيز التعاون الثنائي    الصيد / مطابقة.. المغرب ينال اعترافا رسميا من الإدارة الوطنية الأمريكية للمحيطات والغلاف الجوي (كتابة الدولة)    كولومبيا.. جمعية الصحافة والإعلام توشح سفيرة المغرب بأرفع أوسمتها    حجز 260 وحدة من الشهب الاصطناعية المحظورة    كأس إفريقيا للأمم (المغرب 2025).. انطلاق بيع تذاكر المباريات يوم 25 شتنبر الجاري    بايرن ميونخ الألماني يزيح الستار عن تمثال الأسطورة فرانز بيكنباور    انتقالات: الهولندي إيميغا سينضم لتشلسي في نهاية الموسم قادما من ستراسبورغ    بطولة انجلترا: الاصابة تبعد ليام ديلاب ثلاثة أشهر عن تشلسي    توقيف مشتبه في قيامها بالنصب عبر الاستيلاء بطرق احتيالية على مبالغ مالية من حسابات بنكية    كيوسك السبت | إحداث لجنة مشتركة لتتبع توفير الكتاب المدرسي في نقاط البيع        ترامب يجتمع مع رئيس وزراء قطر بعد الهجوم الإسرائيلي في الدوحة        أولمبيك مارسيليا يعير حاريث لباشاك شهير التركي        إقبال قياسي على تذاكر مونديال 2026: أكثر من 1.5 مليون طلب خلال 24 ساعة الأولى    عامل الحسيمة يجري زيارة تفقدية للمستشفى الإقليمي محمد السادس    إدانة مسؤولتين في سبتة بسبب إعادة قاصرين مغاربة    نتائج متباينة لممثلي سوس في افتتاح البطولة الاحترافية لكرة القدم    الدرهم يرتفع بنسبة 0,6 في الماي ة مقابل الدولار خلال الفترة من 4 إلى 10 شتنبر (بنك المغرب)    اعتراف أمريكي رسمي .. المصايد المغربية تُطابق معايير حماية الثدييات البحرية    الإدريسي: أخنوش تهرب من تقديم الحصيلة بالبرلمان واستبدلها بحوار منمق يساعده فيه الصحافيون    الأمم المتحدة تصوت بالأغلبية المطلقة على إعلان يدعم حل الدولتين    في ظل الاحتكار وتعطيل المنافسة الأجنبية.. الأبناك تواصل إثقال كاهل المغاربة بالاقتطاعات و"حماية المستهلك" تستنكر    الذهب يحوم قرب أعلى قمة تاريخية    الكرملين يؤكد أن المفاوضات مع كييف "متوقفة"    حموشي يتباحث بالرباط مع المديرة العامة للأمن الداخلي الفرنسي    سابقة... لجنة من برلمان الحلف الأطلسي تزور مليلية وسط مساعٍ إسبانية لضمها تحت المظلة العسكرية    هيئات محلية تدعو للاحتجاج بمراكش تضامنا مع الغلوسي    وزارة الانتقال الرقمي توقع شراكة استراتيجية لتعزيز الذكاء الاصطناعي بالمغرب    اغتيال الناشط السياسي تشارلي كيرك.. ترامب يؤكد إلقاء القبض على مشتبه به    توقعات أحوال الطقس ليوم غد السبت    الدورة الثانية عشرة للملتقى الوطني لفن الكريحة والملحون بتارودانت    دراسة: أصوات "الطقطقة" الصادرة من الركبة ظاهرة طبيعية ما لم تصاحبها أعراض مرضية    ساندية تاج الدين توضح الهدف من مشهد صادم في "التخرشيش"        هيئات مهنية صحفية تطالب أخنوش بسحب مشروع قانون "المجلس الوطني للصحافة"    إدارة السجون توضح بشأن نقل بعيوي إلى المستشفى    إسبانيا تتحرك لاحتواء بؤر إنفلونزا الطيور.. إعدام طيور وإغلاق حدائق        استقبال حافل للفيلم السوداني ملكة القطن بمهرجان فينيسيا السينمائي الدولي    الإمارات تستدعي نائب السفير الإسرائيلي    51 قتيلا على الأقل في تظاهرات النيبال        تدشين المحطة السككية الجديدة بتازة وإطلاق خدمة الربط بالحافلات مع الحسيمة        الحكم على بولسونارو بالسجن 27 عاما.. وترامب يصفه بالرجل الصالح    بيت الشعر بالمغرب يحتفي ب"موسم الخطوبة" في إملشيل بفعاليات ثقافية وشعرية    دراسة: التدخين يزيد خطر الإصابة بالنوع الثاني من داء السكري    فتح باب الترشيح للمشاركة في الدورة الخامسة والعشرين للمهرجان الوطني للمسرح        بوفال يضع حدا لشائعة وفاة والدته: "كفاكم كذبا واحترموا حياتنا الخاصة"    ناصر الزفزافي يرسل رسالة مؤثرة من داخل سجنه بطنجة بشأن جنازة الفقيد والده    دعوة إلى الكنوبس لمراجعة إجراءاته الخاصة بمرضى السرطان    الزاوية الكركرية تحتفي بإصدارات الشيخ محمد فوزي الكركري    أجواء روحانية عبر إفريقيا..مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة تحيي المولد النبوي    أمير المؤمنين يصدر أمره إلى المجلس العلمي الأعلى بإصدار فتوى شاملة توضح للناس أحكام الشرع في موضوع الزكاة    الملك محمد السادس يأمر بإصدار فتوى توضح أحكام الشرع في الزكاة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في نقد النسق الاستهلاكي المعاصر- بقلم سلمان بونعمان
سلمان بونعمان
نشر في التجديد يوم 16 - 09 - 2011

تشترك النزعة الاستهلاكية العالمية مع الإمبريالية في الكثير من سماتها، فالاستهلاكية توسعية تسعى إلى تحويل ذات الإنسان إلى سوق يمكن أن تلقى فيه بالسلع، لكنها تمتاز عن الإمبريالية في كون مجالها الحيوي هو النفس البشرية بوجدانها وشعورها ونماذجها الإدراكية وتطلعاتها، فبدلا من القيام بالغزو العسكري المباشر وإرسال الجيوش لاستعمار الأراضي والأسواق، تقوم أدوات الترويض المتجددة من برامج تلفزيونية وأفلام وموضة وغيرها بغزو الإنسان والهيمنة عليه والسعي لإنتاج سيكولوجية الإنسان المهدور.
ترتكز النزعة الاستهلاكية إلى فلسفتها في فهم طبيعة النفس البشرية على أنها لا تشبع قط في غياب الحدود والقيم، ويمكنها أن تتمدد دون توقف إلى أن تفني ذاتها، فهي تنكر عليها أي ثبات وترى أنها في حالة صيرورة دائمة، لا تفرق بين أبيض وأسود أو أصفر، فكلهم- حسب ما فسره عبد الوهاب المسيري – مجرد مادة نزعت عنها القداسة ومادة خام محايدة صالحة التمدد الدائم والانتشار الثابت.
ويقول في ذلك المسيري:»قررت الإمبريالية الغربية توسيع رقعة السوق لا عن طريق الانتشار الأفقي في الخارج (الذي يتطلب القوة العسكرية) وإنما عن طريق الانتشار الرأسي داخل النفس البشرية (الجوانية) ذاتها، التي تتحول إلى سوق دائم الاتساع، فتحل الذات الجوانية محل الأسواق البرانية، وهكذا يحل البراني محل الجواني، ومن ثم يسهل التحكم فيه.»
كما يحدد النسق الاستهلاكي الاستعماري الهدف من وجود الإنسان في الأرض ليس بالبحث عن الحق والخير والجمال أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإنما إدخال الإنسان في حلقة الإنتاج والاستهلاك المفرغة، فينتج ليستهلك ويستهلك لينتج، بل تتحول الوسائل في سياق الحداثة المنفصلة عن القيمة إلى غايات، وهكذا يتحول الإنتاج إلى غاية في حد ذاته، كما تمثل صورة الإنسان الكامنة في الحداثة المنفصلة عن القيمة إلى ذلك الفرد صاحب السيادة الكاملة المطلقة، فيصبح مرجعية ذاته ومكتفيا بذاته، هدفه تحقيق المصلحة الشخصية وتعظيم المتعة وزيادة اللذة وعبادة الشهوة، فهو بتعبير المسيري إما إنسان اقتصادي يتمركز حول قيم الثروة والربح والمصلحة الاقتصادية، أو إنسان جنسي متمركز حول قيم اللذة وخاضع للحتميات الجنسية، وهو في جميع الأحوال إنسان طبيعي/ مادي لا علاقة له بالخير أو الشر أو بأي قيم خارج نطاق حواسه الخمسة؛ فهو حيوان اقتصادي جسماني لا يبحث إلا عن منفعته (الاقتصادية) ولذته (الجسدية)، وسلوكه لابد أن يصبح نمطيا حتى يمكن أن يستهلك السلع التي تنتجها خطوط التجميع.
تعد الموضة إحدى أهم تجليات الحداثة المنفصلة عن القيمة، إذ ترمز إلى التغيير الدائم والتطلع الحاد نحو الاستهلاك، وهي تجسد رؤية العالم كمادة متحركة، حيث تعيش البشرية مع طاغوت الموضة وآلتها الجهنمية المستندة على سلطة الإشهار وسحر الشاشة ونتوءات الجسد، حالة من الاستصنام إزاء الاستهلاك، تتحول فيه الموضة من وسيلة للإغواء والإغراء بالاستهلاك إلى قيمة مطلقة، تريد تحقيق الربح على حساب الحاجة الحقيقية للإنسان، وعلى حساب إنسانية الإنسان، فصارت إلها يعبد من دون الله.
فالأمر يتعدى كون الموضة طريقة للخداع والتحايل والاستغفال من أجل الإقناع بالزيادة في الاستهلاك لإرضاء الرأسمالية الشرهة، بل تتجلى الخطورة في الانتقال بذلك من الاقتصاد إلى الثقافة، بهدف تغيير نسق السلوكات والقيم، وتكريس عقلية تقوم على بناء منظومة من التبريرات والتفسيرات من أجل الاستهلاك، تكون معه الموضة إعلانا عن إفلاس العقل البشري واستلاب خصوصيات الهوية الحضارية، وسقوط الآدمية وتسليم الإنسانية مفاتيح عقولها لفلاسفة الموضة ومصمميها لصياغتها كما تشاء وتقديم استقالتهم من التفكير النقدي.
وفي هذا السياق يمكن فهم بعض الدلالات السيميائية والرمزية والأبعاد الحضارية، لفلسفة الزي في الإسلام عموما وحركة الستر والعفة التي يضفيها الحجاب على المرأة المسلمة في أنه يمثل ثورة تجديدية جذرية ضد تأليه الموضة كسلطة عليا مقدسة فارغة من المعنى يخضع لها، بل يعتبر الجهاد ضد الموضة معركة مصيرية وحاسمة لتحرير الذات المسلمة، ومقاومة لكل المحاولات المستمرة لعولمة النموذج الاستهلاكي الغربي.
إن الإيقاع العادي للاستهلاك يقوم على الحاجة المبررة والحقيقة، فهو مرتبط بمنطق الفطرة والشرع من جهة، وقائم على الحاجة والقدرة من جهة أخرى، وليس على اختلاق الحاجات وصناعة الأذواق والاختيارات، أو الانتقال بالكماليات إلى الضروريات وبالضروريات إلى ضروريات قصوى.
إن خطورة تحويل الاستهلاك إلى غاية، وتحويل الموضة إلى قيمة مطلقة عليا، مع ما يتضمنه من اختزال لجسد المرأة وعبادة أنوثتها والتركيز على الإغواء الجنسي، يشكل إحدى التهديدات الخفية للعقيدة، فلا يوجد شيء غاية في ذاته وله معنى في ذاته إلا الله سبحانه وتعالى.
يشكل النسق الاستهلاكي المعاصر تعبيرا عن تبلور نموذج إمبريالي توظيفي عنوانه أن تستهلك كل شيء وتوظف كل شيء وتبدد كل شيء (الطاقة - المواد الخام - الأغاني - جسد الأنثى - طبقة الأوزون)، فالثابت الوحيد في هذا النسق هو التغير الفاقد للمعنى الوظيفي أو الرمزي أو الجمالي، ولذا تتغير فيه الأغاني والرقصات والموضات والأذواق والقيم والمواهب وأشكال العلاقات الاجتماعية وأنماط الفنون والموسيقى بسرعة فائقة.
إن الحاجة تبدو ملحة لثورة فكرية وقيمية ونماذجية ضد هذه الموجة الاستهلاكية الاستعمارية الجديدة، وإطلاق دورة جديدة في مسار حركة التجديد والمقاومة ضد هذه السلطة المقدسة الجديدة التي تغتصب العقول والنفوس وتسعى لقتل إنسانية الإنسان وتفكيك القيم وإفقاد المعنى، وتحويله إلى مادة استعمالية ووسيلة قابلة للتوظيف ذات بعد أحادي سائل.
فلا يمكن بناء النهضة المنشودة دون الثورة ضد موجة التطلعات المتزايدة وآثارها الثقافية والقيمية المدمرة وعلى ما خلفته الحداثة الداروينية من صراع وتفكك واستهلاك جنوني، بإطلاق ثورة تبتدئ بتحرير الذات والفكر من هذا الاستعمار النفسي وخوض معركة لتحرير الإنسان وإرادته وتكريمه، بهدف تفعيل رساليته في الوجود واستخلافه في الأرض واسترجاع إنسانيته ذات الأبعاد المتعددة والمركبة، باعتباره صاحب هوية وحاملا لقيم النهضة والتحرر، وتبني الإسلام كرؤية للكون بمرجعية إنسانية منفتحة .
(✺) باحث وكاتب مغربي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.