كبير إيطاليا يدخل بقوة على خط التعاقد مع زياش    "العرندس" يتوج نفسه وينال جائزة الأفضل في رمضان    مديرية الضرائب تطلق إمكانية طلب الرأي المسبق للراغبين في تفويت ممتلكات عقارية أو عينية    زيلينسكي يستعجل استلام أسلحة غربية    جيش إسرائيل يهاجم شرق مدينة رفح    صفقة طراز دقيق من الدرون الأمريكية للجيش المغربي تبلغ مراحلها الأخيرة    خلال 3 أشهر.. تحويلات المغاربة المقيمين بالخارج بلغت 27,44 مليار درهم    هتك عرض تلميذات من طرف مدير ثانوية فمولاي يعقوب.. المشتبه فيه للجدارمية: الكاميرا اللي عندي فالمكتب كتخدم غير فوقت الامتحانات وصافي والبورطابل ديالي ضاع مني    توقعات طقس الثلاثاء..حرارة مرتفعة بهذه المناطق    تخصيص غلاف مالي بقيمة تفوق مليارين و61 مليون درهم لتمويل 4174 مشروعا بالشمال خلال سنوات    بأزيد من 760 مليونا.. إطلاق طلب عروض لتشوير المدينة العتيقة لطنجة    شركة الخطوط الجوية الإيرلندية تطلق خطا جويا بين طنجة وورزازات    آيت الطالب يجدد التأكيد على استمرارية الاستفادة من مجانية الاستشفاء بالنسبة للمصابين بمرض مزمن أو عضال    الدورة الثانية عشر لعملية تأطير الحجاج بإقليم الناظور    الأمم المتحدة: قرار إخلاء رفح للي صدراتو إسرائيل "ماشي إنساني"    نحو 40 في المائة من مجموع قتلى حوادث السير هم مستعملي الدراجات النارية    الملك يعزي العاهل السعودي في وفاة الأمير بدر بن عبد المحسن    قبل مواجهته نادي بركان.. ضربة موجعة للزمالك المصري بسبب 10 لاعبين    "البوليساريو" تهاجم الإمارات بسبب الصحراء    الدكيك يحتفل بتصنيف "فوتسال الفيفا"    القضاء يسجن ضابط شرطة 5 سنوات    مناورات عسكرية موريتانية.. هل هي رسالة للجيش المالي ولفاغنر؟    بعد دخوله قائمة هدافي الفريق.. هكذا احتفل اشبيلية بالنصيري    زيوت التشحيم تجمع "أولى" و"إكسون"    مرصد يثمن مأسسة الحكومة للحوار الاجتماعي    الأمثال العامية بتطوان... (591)    عاجل.. القضاء يعزل رئيس الرجاء محمد بودريقة من رئاسة مقاطعة مرس السلطان    ارتفاع الاستثمار الأجنبي المباشر في المغرب ب56,2% عند متم مارس 2024    وفاة المقدّم التلفزيوني الفرنسي الشهير برنار بيفو    بسبب تصرفات مشينة وعنيفة.. تأجيل محاكمة محمد زيان في قضية اختلاس أموال الحزب الليبرالي    لاعبين الزمالك كاعيين قبل الفينال ضد بركان ومدربهم كيحاول يكالميهم    تطويق أمني بالعاصمة يحول "مسيرة الصمود" لأطباء الغد إلى "وقفة الحشود"    إسرائيل تغلق مكتب الجزيرة وألمانيا تنتقد القرار    بلقصيري: أجواء افتتاح مهرجان سينما المرأة والطفل في دورته الأولى    حصيلة منجزات وكالة بيت مال القدس فاقت 13,8 مليون دولار خلال الخمس سنوات الأخيرة    الضمان الاجتماعي الإسباني يتحاوز عتبة 21 مليون منتسب    وثائقي فريد من وزارة الثقافة والتواصل يبرز 6 ألوان فنية شعبية على ضفاف وادي درعة    اللي كيمشي لطريفة وعزيز عليه الطون والسربيسة والسينما: ها مهرجان وها الافلام المغربية المعروضة فيه    إضراب جديد يشل محاكم المملكة    بسبب الهلال.. لجنة الانضباط تعاقب فريق الاتحاد السعودي وحمد الله    تسجيل بقوة 2.5 درجات على سلم ريشتر بإقليم تاونات    لأول مرة.. تاعرابت يحكي قصة خلافه مع البرازيلي "كاكا"    وفاة مدرب الأرجنتين السابق لويس مينوتي بطل مونديال 1978    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    مهرجان الجونة السينمائي يفتح باب التسجيل للدورة السابعة من "منصة الجونة السينمائية"    بعشرات الصواريخ.. حزب الله يستهدف قاعدة إسرائيلية في الجولان    أسعار النفط العالمية تعود إلى الارتفاع    دراسة: السجائر الإلكترونية قد تسبب ضررا في نمو الدماغ    المشاهد الجنسية في أفلام هوليوود تراجعات بنسبة 40% وها علاش    باحثة: الضحك يقدر يكون وسيلة واعرة لعلاج الناس    رأي حداثي في تيار الحداثة    دراسة حديثة تحذر المراهقين من تأثير السجائر الإلكترونية على أدمغتهم    السفه العقدي بين البواعث النفسية والمؤثرات الشيطانية    جواد مبروكي: الحمل والدور الحاسم للأب    منظمة تدعو لفتح تحقيق في مصرع عامل بمعمل تصبير السمك بآسفي    الأمثال العامية بتطوان... (589)        







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ليونارد كاروڤ: تسع سنوات في خدمة السلطان أو ليلة القبض على بوحمارة (14 )
نشر في بيان اليوم يوم 08 - 08 - 2012

ولد ليونارد كاروڤ سنة 1872, والتحق بالبحرية التجارية، ثم أصبح مساعد قبضان على سفينة تابعة لشركة ڤويمار القوية. واتفق له أن توقف بهامبورغ، في 1899فالتقى هناك بالقبطان ميتسنر، وكان، يومئذ، في مهمة لفائدة الحكومة المغربية، للبحث عن قبطان يتولى قيادة «التركي»، التي كان يزمع تركها إلى «البشير». ورغب كاروڤ في التعرف على المغرب، والاستفادة مما عُرض عليه من الامتيازات المادية. فكان قدومه إلى طنجة في طلب موافقة المفوضية الألمانية، وليبرم اتفاقاً مع النائب السلطاني محمد الطريس، لهذا الغرض. فتولى قيادة سفينة «التركي»، وذلك في دجنبر 1899. وظل كاروڤ يقود تلك السفينة طوال ما يقرب التسع سنوات، حتى ربيع العام 1908. وظل يعمل، في غير كلل، في تمشيط السواحل المغربية، في الجهة الجنوبية أولاً، ثم في الجهة الشمالية الشرقية، في مطاردة الروغي بوحمارة.
كانت معرفة كاروڤ بالوسط المغربي وعلاقاته بالشخصيات المغربية والإسپانية، وكفاءاته البحرية أمراً عظيم الأهمية. وقد كان يتخذ من العرائش قاعدة رئيسية للقيام بعملياته (1916-1915)، إذ كان مرساها من المحطات الإخبارية، والتمويلية، لضباط الغواصات الألمان. وكانت العرائش أكبر مركز للنشاط الألماني في الشمال الغربي (بقدر مليلية في الشمال الشرقي). وقد جاءت اللائحة السوداء للمقاولات الألمانية المنشورة في 7 أكتوبر 1916 بالجريدة الرسمية الفرنسية تشتمل على حوالي ثلثي أسماء المنطقة الشمالية (57 من جملة 88) فكان كاروڤ، وقتها، معدوداً عند المصالح الفرنسية، ك «أهم عميل مخابرات»، فكانت لذلك، تجعله تحت مراقبتها الشديدة.
إن أول فضيلة تُحسب لكتاب كاروڤ هي المتمثلة في الحدود التي انحدَّ بها مؤلفه؛ سواء أكانت من صميم شخصيته أو كانت منه مقصودة. فهذا جعل هذا الكتاب شهادة عفوية؛ كما تلوح من افتقار صاحبها إلى الخيال ويظهر من فقر أسلوبه القائم على التكرار الجاف. فما أشد بُعد الشقة بين أسلوب كاروڤ هذا، والملاحظات الاجتماعية والسياسية النفاذة التي نقع عليها لدى كاتب كأوبان، وتلك االغنائية التي تتسم بها كتابة هاريس، وذلك التحرر والانطلاق في الحكي الذي نجده لدى مونتبار... إن قوة كتاب كاروڤ في اقتصاده. وإن انتصار التفاصيل ودقة الكتابة وضبطها، يعيد، كما في نسيج، رتق الأنسجة المشدودة للقصة، والإيقاع الدقيق الذي تسير عليه الأحداث. فتستعيد الوقائع كامل قيمتها الأصلية والرمزية.
يتألف الكتاب من من 26 فصلاً قصيراً، قد جُعلت في نظام زمني تدرُّجي، فكأنه يومية بحار، قد امتاز بفضائلها واندخل بمثالبها. ومن الواضح أن كاروڤ قد اعتمد في إنشاء كتابه على مذكرات حقيقية. فكان من محاسن ذلك ما نرى من الإشارات الدقيقة في تواريخها، ومن الدقة حتى لا نكاد نجد منها استثناء، إلا من حالة أو اثنتين. فالفائدة المائزة لهذا تعود إلى هذا الفيض من المعلومات والأخبار الملموسة، وإلى الانطباع المعيش الذي تخلقه لدينا تعزز منه غناه من التصاوير لاشتماله على ستين صورة أصلية.
- 14 -
أخذت أحوال الجو في التحسن تدريجياً. وقد كان في نيتنا أن نطيل مكوثنا في مدينة مليلية، لولا أن أُعْلِمْنا بوجود إحدى السفن البخارية بقرب المركز التجاري، وأنه يبدو كأنها تنزل حولتها. وأمكننا بواسطة منظار قوي، أن نرى من على الحصن بكل وضوح، ما كان يجري في كاپ ريستينغا، وأمكننا أن نتفحص الأفق بدقة، لكثرة ما كان الإسپانيون مهتمين بالتجارة في هذه الناحية.
فلما تلقينا هذا الخبر، أخذْنا في تهييء الآلات، وفي 10 صباحاً انطلقنا، باتجاه مار تشيكا، بسرعة 5 أميال بحرية.
ورأينا، من بعيد، تلك السفينةَ البخارية راسية، ثم أخذْنا نتعرف فيها، فيما كنا نقترب منها، على سفينة «زينيث»؛ تلك السفينة البخارية الفرنسية، وقد كانت تسرع بتفريغ حمولتها. فلما اقترب الزوال صرنا على بعد 5000 متر إلى الجنوب من مخيم الجبل.
وعندئذ أعطى بن الطاهر الأمر بالشروع في إطلاق النار على البنايات. وقد كانت «زينيث» في الجهة الشرقية، بعيدة عن خط الرمي، بحيث لم يكن سبيل إلى إصابتها.
مرت القذيفة الأولى مزمجرة، ثم انفجرت في اتجاه المخيم تحديداً، ولقد سدّد المعلم محمد فأجاد التسديد.
ثم قفَّاها بطلقة أخرى، سديدة كالسابقة. وتراءى لنا من الجانب الآخر شعاعٌ، تلاه انفجار، ثم رأينا انفجاراً في الماء على مقربة من سفينتنا.
كان ذلك ردَّهم على قصفنا. لكن لم يكن في مقدورهم إصابتنا، لأن مدى بطاريتهم يقف دون ذلك.
وهو ما لم يمنعهم من إطلاق كرة مدفعية ثانية، ثم ثالثة ورابعة، إلى أن انتبهوا إلى بطلان مجهوداتهم، فتوقفوا عن إطلاق النار. وأما نحن، فعلى العكس واصلنا رميَهم بكرة تلو أخرى، إلى أن رأينا أن سفينة «زينيث»، التي كانت قواربها وصنادلها، قد جُعِلت، منذ البداية، في حمى بين الصخور على البر، قد علاها الدخان، ورفعت مراسيها، وأخذت تتهيأ للمغادرة.
كان ابن الطاهر يظن عن صواب أن السفينة البخارية كانت سفينةَ تهريب، وبالتالي فهي عدوٌّ لنا، ولذلك أعطى أمره إلى جندي المدفعية بإطلاق النار على تلك السفينة. ولو كان في الإمكان إدارة المدفعين على متن سفينتنا، لكان جندي المدفعية نفَّذ أمر بن الطاهر إليه. غير أن المدفعين كانا مثبتين ولا يمكن إدارتهما، إلا أن تغير السفينة اتجاهها. ولقد أشار جندي المدفعية بيده إلى موجِّه السكان بالدوران، فأدرْكت حينئذ ما ينوي فعله، ولذلك أوقفْت السفينة للحظةٍ، لأتحدث إلى بن الطاهر : فلقد أوضحت له أن من المستحيل إطلاق النار على سفينة عدوَّة.
ولم يكن ذلك بالأمر الواضح في نظره، لكنه تخلى، في نهاية الأمر، عن قصف «زينيث»، وكلَّفني بأن أحاول وقف تلك السفينة، التي كانت تبتعد بأقصى سرعة إلى جهة الشرق.
أشرْت إلى السفينة الفارّة : «توقفوا حالاً»! لكن «زينيث»، لم تستجب للأمر، وواصلت سيرها بأقصى سرعة.
وعندئذ أعطيْت الأمر بإطلاق النار، بحيث تسقط القذائف في الماء، على بعد 300 متر خلف السفينة.
وكنت أقوم بنفسي، على التسديد، للحيلولة دون وقوع حادث ليس في الحسبان. لكن عبثاً فعلْت، فلقد ظلت السفينة تبتعد أكثر فأكثر، بسرعة بلغت 10 أميال بحرية، فيما لم يكن في مقدورنا اللحاق بها، إلا بسرعة 5 أميال ونصف الميل.
كانت الفرقاطة «لالاند» حين مغادرتنا، لا تزال راسية قبالة مدينة مليلية، فإذا هي قد صارت تتعقبنا أثناء ملاحقتنا لسفينة «زينيث»، حتى لتكاد أن تصل إلينا. طلب مني بن الطاهر أن أشير إلى سفينة «لالاند» بملاحقة سفينة «زينيث»، بدل ملاحقتنا نحن. غير أن الجهود التي بذلناها لإثارة انتباه الفرنسيين ضاعتْ هباء، ولم يُلقوا بالاً، كذلك، إلى إشارتي إليهم : «سفينة حربية فرنسية»، إذ لم يكن لي عِلْم بإشاراتهم. غير أن الفرقاطة الفرنسية لاحقتْ «زينيث»، وأوقفتْها على مقربة من الجزر الجعفرية، فلما وصلنا في الثالثة بعد الزوال وجدنا هناك السفينتين معاً.
وما كدنا نلقي بمرساتنا حتى جاءنا قاربٌ من سفينة «لالاند» برسالة من قائدها. فلقد طلب ذلك القائد تبليغ «الرجل المغربي الذي يمثل الحكومة المغربية الشريفة على متن سفينة التركي»، أن عليه أن يأتي إلى سفينة «لالاند»، لأن لدى القائد أخباراً مهمة يبلغها له.
وخشي بن الطاهر إن هو ارتقى لوحده ظهر الفرقاطة الفرنسية أن يقع في الأسر.
كما كان يعتقد أن في مقدوري أن أفاوض قائد تلك السفينة، أفضلَ منه، ولذلك رجاني أن أرافقه. لكن لم تكن بي أي رغبة في مرافقته، فقد لاحظت أن الضابط الذي حمل إلينا الرسالة كان شديد الاعتدال، لكنه كان، كذلك، شديد البرود، غير أن «رجل البعثة العجوز» ألح عليَّ في مرافقته، إلى أن أذعنْت له.
ولقد جعل برفقته كذلك خليفتَه، وترجماني بومغيث.
فلما صعدنا إلى سطح السفينة «لالاند»، جاء من يقودنا إلى داخل قُمرية. وحيانا القبطان عند باب القمرية، وقدمْنا له أنفسنا، ثم أدخلَنا.
ولقد مددت إليه يدي محيياً في خجل، فتجاهل تحيتي.
ولزمنا أن نقتعد أربعة كراس مقششة بسيطة، رغم أن الغرفة مؤثثة بأرائك جميلة ومخدات قد أُسندت إلى الفواصل. وحده القبطان كان يقتعد أريكة وتيرة. ولقد عُيِّن كذلك مكانٌ لبومغيث، الذي يقوم بعمل الترجمة مع المغاربة. وعندئذ ابتدأ الاستجواب، الذي ذكَّرني بمحاكم التفتيش الإسپانية القديمة.
-أيها السادة، لقد قصفتْم اليومَ مصنعَ مار تشيكا. ألا تعلمون أن الفرنسين كانوا متوقفين هناك؟».
- «كلا، سيدي، لم أكن أعلم بذلك. كل ما أعلم أن السيد ساي ورجاله كانوا هناك منذ وقت قريب، وأنهم كانوا، قبلئذ، كثيري التردد على ذلك المكان، وأما في الوقت الراهن فليس منهم من ينزل هناك».
وطُرِح السؤال نفسه على الآخرين. ولم يكن لبن الطاهر وخليفته علم بشيء من كل ذلك. وأما بومغيث فمبلغ علمه أن ديلبريل رئيس الأركان العامة للروغي بوحمارة، كان موجوداً، وقتئذ، في ذلك المركز التجاري. فلما سمع القبطان هذا الاسم تبادل مع بن غبريط نظرة ذات دلالة.
- «أيها السادة، لماذا لم تبلغوا مار تشيكا أنكم تنوون قصف ذلك المركز، ليتم إنذار الفرنسيين؟».
- «سيدي، إن الساحل كله يعلم أن سفينة «التركي» توجد هناك لقصف ذلك المركز، فيكون من غير المجدي تحذير من يكون هناك من الناس، عدا أننا، كما قلت من قبل، لم نكن نعلم أنه لا يزال ثمة بعض الفرنسيين».
- «لقد قصفتْم سفينة ترفع العلم الفرنسي».
- «كلا، سيدي، إننا لم نفعل شيئاً من ذلك».
- «ألم تطلقوا النار عليها؟».
- ذلك صحيح، سيدي، لكن لم نكن نبغي إصابتها. بل كنا نسدد إلى 3000 متر خلفها.
- «لماذا؟».
- «لنجبرها على التوقف».
- «ولماذا؟».
- «لأنها كانت تحمل مواد مهربة».
- «وهل كنت تعرف ذلك؟».
- «نعم، لأن كل ما يوجَّه إلى الروغي هو من التهريب».
- «حقاً؟».
- «حقاً!».
وخضع بن الطاهر للاستجواب نفسه. وكان القبطان يعود دائماً لسؤالنا في النقاط نفسها : أننا فتحنا النار في مار تشيكا، على الفرنسيين، وأننا لم نحذِّرهم من ذلك، وأننا قصفنا سفينة فرنسية كانت تبحر رافعة العلم الفرنسي. ولقد بدا لي أنه يتقصد أن يوقعنا في التناقضات، لكنه لم يفلح في شيء من ذلك. وكنا في البداية يتملكنا بعض القلق، لكنني أخذت، شيئاً فشيئاً، في استعادة هدوئي واطمئناني، ثم صرت بعدئذ، أجد صعوبة في أن أحافظ على جديتي. فلقد كان الأسلوب الاستعراضي الذي تتبعه القاضي القبطان في استجوابنا يثير ضحكي وسخريتي. وفي الأخير منع علينا منعاً باتاً أن نقصف مار تشيكا، إلى أن يأتينا منه ترخيص بذلك. ولسوف يتوجه، في صباح الغد، إلى هناك، ليحذر الفرنسيين، أو ينقلهم عن ذلك المكان، وسوف تصلنا منه تعليمات أخرى عندما نبلغ إلى مليلية. وبذلك حصلْنا على «الإذن» بالتوجه إلى مليلية في صباح اليوم الموالي، ثم عاد هذا القبطان، عندئذ، يكرر على مسامعنا الأمر بأن لانقوم بشيء ضد المركز التجاري. ولقد عزَّز تحذيره إلينا بالتهديد بأن تقصف سفينته «لالاند» سفينتَنا «التركي»!
كنت أحسُّني كأني في قاعة من قاعات المحكمة. فقد كان القاضي يوجه إلينا نظرات قاتلة. وفي الأخير أُفرِج عنا. وقد أدركنا ذلك من نهوض القاضي عن كرسيه. ولقد انحنينا، في جدية متصنعة، ثم صعدنا إلى متن قاربنا.
نزلنا إلى البر لزيارة قائد الجزر، الذي وجدنا منه الاستقبال الجميل. روينا له ما عرَض لنا في يومنا من أحداث، فأبدى اهتماماً كبيراً لما قلنا، وأبدى استغراباً كثيراً من موقف القبطان. ثم توجهنا إلى مصلحة البرق؛ حيث أبرق بن الطاهر من هناك إلى الطريس ببرقية طويلة. ولم أتمالك نفسي، أنا الآخر، من إرسال برقية إلى الكونت تاتينباخ في الخزيرات. ولقد أخبرته في تلك البرقية أن سفينة «لالاند» تحاول أن تختلق لنا الصعوبات والعراقيل أثناء ما نقوم به من عمليات ضد بوحمارة، وهو ما كان ، بدون شك، خطأً، فقد كان يتعين علي أن أقنع نفسي بأن تاتينباخ لا يستطيع مساعدتنا. لكن تلك البرقية أعادت لي الشعور بارتياح غامر، من شدة ما كنت عاجزاً عن مواجهة التدخلات الفرنسية.
ولم تكن بالرجل العجوز رغبةٌ في قضاء تلك الليلة في الجزر الجعفرية.
وحيث إنني تلقيت الأمر من القاضي القبطان بعدم مغادرة الجزر قبل صباح الغد، فإنني بعثت ببومغيث إلى ذلك القبطان على متن سفينة، ليلتمس منه الإذن لنا بالتوجه إلى ميلية، مساء ذلك اليوم نفسه. ولقد تحسبنا لاستجواب القبطان لبومغيث فيمَ نريد النزول إلى البر، ولذلك أوصيت الترجمان بأن يذكر للقبطان برقيتي إلى تاتينباخ.
ولقد نفذ ما أمرته به، فلما عاد أخبرنا أن وجه القبطان العبوس قد تكدر أيما تكدر لسماع ذلك الخبر، فلم يعد له، بالتالي، أن يعترض على مغادرتنا للجزر.
وفي اليوم الموالي، 16 فبراير، التقيت في مليلية الماجورَ المدفعي هويلين أرسو، فأطلعْتُه بتفصيل عن الأحداث الأخيرة، ورجوته أن يحرص على إخبار الجنرال بما سمع مني. وفي زوال ذلك اليوم، وصلتْ سفينة «لالاند» إلى قبالة مدينة مليلية، بعد أن توقفت، في وقت مبكر من ذلك اليوم، في مار تشيكا، وأنزلتْ هناك قسماً من الفرنسيين. وفي حوالي الساعة الخامسة من بعد زوال ذلك اليوم، وجَّه إليَّ القبطان الرسالة التالية :
«السيد القائد،
أرجو أن تخبر ممثل السلطان، الموجود على متن سفنيتك، أنه أمكنني أن أتصل، في هذا الصباح، بمار تشيكا، وأنه لم يعد في مقدوري فعل شيء، حتى إشعار آخر. وتقبَّل تحياتي الخاصة، مودي».
ويبدو أن هذه الرسالة، التي حُرِّرت بكل تلك الحكمة والحرص الشديدين، كانت الغاية منها أن تقول لنا إن سفينة «لالاند» لن تتسبب لنا منذ الآن، في أية عراقيل. وتعزيزاً لما جاء في هذه الرسالة، غادرت الفرقاطة المذكورة، في مساء ذلك اليوم، باتجاه الشرق. لكن بن الطاهر لم يشأ أن يباشر إرسال أفواج أخرى من الجنود، إلا بعد أن يتوصل بجواب الطريس على برقيته إليه.
ولقد أحيط لقاؤنا بسفينة «لالاند» بكثير من التعليقات في مدينة مليلية. ولاحظت امتعاض الأهالي من الأسلوب الفرنسي وتعاطفهم معنا!
وفي زوال يوم 17 فبراير توصلنا ببرقية الطريس، بعد طول انتظار. ولقد جاءت تلك البرقية تخبرنا بتوصل الطريس بتقريرنا عن الأحداث التي مرت بنا في الجزر الجعفرية، ويأمرنا بمواصلة أعمال القصف.
دعاني الماجور هويلين لمرافقته، بعد الزوال، في جولة في التراب الخاضع لإسپانيا. ولقد سرنا، في بادئ الأمر، بمحاذاة الشاطئ، حتى الحدود، ومن هناك أمكنني أن أرى المكتب الجمركي الذي أنشأه بوحمارة، لا يكاد يبعد عنا بغير حوالي 200 متر.
ولقد قلَّبت ناظري في أنحاء ذلك المكتب، فما رأيت غير مجموعة من البيوت مشيدة على الطراز المغربي، تتوسطها ساحة مسوَّرة.
ولكم كان بودي أن أقترب أكثر، حتى أتمكَّن من رؤية المجموع، غير أن هويلين حذَّرني من ذلك، ففي اعتقاده أن المغاربة لن يترددوا في رمْيِي بالرصاص، فهم جميعاً يعرفونني، وسيكون من السذاجة منهم أن يقيموا اعتباراً لحيادي. وواصلنا جولتنا، حتى بلغنا إلى أحد الأبراج المحصَّنة، التي شيِّدت من حول المدينة. إنه برج مستدير الشكل، بعلو من 6 أمتار وعرض من 20 متراً، والجدران الخارجية مشيدة من الحجارة، في سُمك من حوالي ثلاثة أمتار. ويحيط بها خندق بعمق من نحو أربعة أمتار. ويتم الولوج إلى ذلك البرج بواسطة جسر متحرِّك يُرفَع كل مساء.
وفي الأرضية، أي على مستوى عمق الخندق، توجد المطابخ وقاعات الذخيرة. ومن فوقها مساكن الرجال، وعلى الأسطح، من خلف فُتحات الرمي، في الحائط السميك، وُضِعت البطاريات، ومدافع «كروپ» من عيار5،7 ستم، وهي ليست بالعصرية، لكنها لازالت في حال جيدة، فضلاً عن بعض المدافع من عيار 5 ستم، سريعة الشحن. وتتولى الحراسةَ فرقةٌ تنتصب فوق كل برج من تلك الأبراج، وتُستبدَل على رأس كل شهر، وتعم هذا المكان نظافة تامة. وثمة أربعة أبراج أخرى شبيهة بهذا، تكوِّن تحصينات مدينة مليلية.
وهي مجهزة بكشافات وبجهاز الهاتف. وفي الأعلى يكمن حارس يراقب القرية. وهذه التحصينات غير مجهزة تجهيزاً عصرياً، لكنها تشكل حماية أكيدة من الهجومات المحتملة من قبائل الريف.
وخلف هذه الخط من التحصينات، يقوم خط ثان، والخطان معاً، يكفيان لضمان الأمن لمدينة مليلية، وهو ما جعل هذه المدينة تكاد لا تكون محصنة، إذا نحن استثنينا القلعة المحصنة المشيدة فوق نتوء صخري.
أمكننا، من موقفنا فوق ذلك البرج، أن نحيط رؤية بمار تشيكا، ولقد بدا لنا شبيهاً ببحيرة داخلية هائلة، يكاد يتعذر الولوج إليها من طريق البحر، ولقد أدركت، ساعتئذ، السبب وراء شغف ساي بهذا المكان! إنها منطقة مناسبة لإنشاء ميناء هائل، سهل الولوج، وجيد الحماية، بالقليل من الوسائل.
مررْنا، في طريق عودتنا، بقرب ساحة التدريب؛ حيث كان بعض الجنود يتدربون. ولقد أخبرني الماجور أن مليلية تضم، وقتئذ، حامية من 6000 رجل، بسبب من الاضطرابات التي كانت واقعة في تلك الأيام.
وتتألف تلك الحامية من 4000 من المشاة، والبقية منهم بين رماة، ورواد، وفرسان، إلخ.
طالعت صحيفة «تلغراف الريف»، ووجدت في تلك الصحيفة الرسيمة تتميماً للأحداث التي مرت بنا في الجزر الجعفرية. وإليكم، في ما يلي، مقتطفاً من ذلك :
«استدعى قبطان سفينة «لالاند» قبطان سفينة «زينيث»، ليستجوبه، ثم أرسله بسفينته إلى وهران، ليكون رهن تصرف السلطات البحرية المحلية.
ومساء الأمس، غادرت سفينة «لالاند» الجزرَ الجعفرية إلى مار تشيكا، للاتصال بالبر، ونقل الفرنسيين، الذين هم هناك، تأميناً لسلامتهم.
ولقد قبِل تلك الدعوةَ خمسةٌ من جملة الفرنسيين العشرة المقيمين في مار تشيكا، وكان بينهم صحفيان، كانا قد غادرا، أمس، سفينةَ «زينيث»، لالتقاط الأخبار، ثم أُجبِروا على البقاء هناك.
ولقد أعلم القبطان الفرنسيين الخمسةَ الآخرين، قبل مغادرة سفينة «لالاند»، أن فرنسا لن تحرِّك ساكناً في حالة تعرُّضهم لمكروه، وأنهم إن لبِثوا هناك، فالمسؤولية في ذلك إنما تقع عليهم، وعليهم وحدهم تحمل ما يترتب عن ذلك من التبعات، وأنهم لن يكون لهم أي حق في الاحتجاج بجنسيتهم.
وقال ضباط على متن الفرقاطة إن القناة، التي شرع الرجال في حفرها في المركز التجاري، ليست، بعد، سوى حفرة صغيرة، قليلة العمق، وضيقة، وأنه لا سبيل لهم إلى تحقيق مشاريعهم، بدون الاستعانة بالآلات. - ولاشك أن الأحداث التي شهدها مار تشيكا قد خلقت توتراً كبيراً في الخزيرات، فلقد سارع الدوق دالموضوڤار إلى التحدث، في ذلك الشأن، مع الجنرال مارينا في مدينة مليلية، بالاتصال به مباشرة، من مكان إقامته في فندق رينا كريستينا.
وكانت للوزير محادثة مع الحاكم دامت من الساعة 1 إلى الساعة 5 و30 دقيقة، ولقد مُنِع على العموم دخول مصلحة التلغراف طيلة تلك المدة».
ومن جهة أخرى جاءت الصحيفة بتصوير للأحداث مطابق تمام المطابقة لما فعلتُ، ورغم أن سفينة «لالاند» قد عادت إلى مدينة مليلية في الأيام الموالية، فلم يكن في وسعنا أن نتحمل مزيداً من التدخل في حرية حركتنا. ويبدو أن الحكومة أعطت أمرها إلى القبطان بعدم التحرش بنا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.