وفد حماس يدرس مقترح الهدنة.. والولايات المتحدة وبريطانيا تدعوانها لقبول "العرض السخي"    أمطار ورياح مرتقبة اليوم الثلاثاء في ممناطق مختلفة من البلاد    مواهب كروية .. 200 طفل يظهرون مواهبهم من أجل تحقيق حلمهم    مغربية تشكو النصب من أردني.. والموثقون يقترحون التقييد الاحتياطي للعقار    حريق مهول يلتهم سوق المتلاشيات بإنزكان    فرنسا.. أوامر حكومية بإتلاف مليوني عبوة مياه معدنية لتلوثها ببكتيريا "برازية"    طقس الثلاثاء.. أمطار الخير بهذه المناطق من المملكة    الأمن المغربي والإسباني يفككان خيوط "مافيا الحشيش"    ميارة يستقبل رئيس الجمعية البرلمانية لأوروبا    أسماء المدير تُشارك في تقييم أفلام فئة "نظرة ما" بمهرجان كان    الجيش الملكي يرد على شكاية الرجاء: محاولة للتشويش وإخفاء إخفاقاته التسييرية    مطار الصويرة موكادور: ارتفاع بنسبة 38 في المائة في حركة النقل الجوي خلال الربع الأول من 2024    سكوري : المغرب استطاع بناء نموذج للحوار الاجتماعي حظي بإشادة دولية    وزارة الفلاحة: عدد رؤوس المواشي المعدة للذبح خلال عيد الأضحى المقبل يبلغ 3 ملايين رأس    مشروبات تساعد في تقليل آلام المفاصل والعضلات    خمري ل"الأيام24″: الإستقلال مطالب بإيجاد صيغة جديدة للتنافس الديمقراطي بين تياراته    تحديات تواجه نستله.. لهذا تقرر سحب مياه "البيرييه" من الاسواق    بلينكن: التطبيع الإسرائيلي السعودي قرب يكتمل والرياض ربطاتو بوضع مسار واضح لإقامة دولة فلسطينية    رسميا.. عادل رمزي مدربا جديدا للمنتخب الهولندي لأقل من 18 سنة    مجلس النواب يطلق الدورة الرابعة لجائزة الصحافة البرلمانية    برواية "قناع بلون السماء".. أسير فلسطيني يظفر بجائزة البوكر العربية 2024    عملية جراحية لبرقوق بعد تعرضه لاعتداء خطير قد ينهي مستقبله الكروي    المحكمة تدين صاحب أغنية "شر كبي أتاي" بالسجن لهذه المدة    الشرطة الفرنسية تفض اعتصاما طلابيا مناصرا لفلسطين بجامعة "السوربون"    الملك يهنئ بركة على "ثقة الاستقلاليين"    تحرير ما معدله 12 ألف محضر بشأن الجرائم الغابوية سنويا    "التنسيق الميداني للتعليم" يؤجل احتجاجاته    غامبيا جددات دعمها الكامل للوحدة الترابية للمغرب وأكدات أهمية المبادرة الملكية الأطلسية    هذا هو موعد مباراة المنتخب المغربي ونظيره الجزائري    الرئاسيات الأمريكية.. ترامب يواصل تصدر استطلاعات الرأي في مواجهة بايدن    نيروبي.. وزيرة الاقتصاد والمالية تمثل جلالة الملك في قمة رؤساء دول إفريقيا للمؤسسة الدولية للتنمية    يوسف يتنحى من رئاسة حكومة اسكتلندا    الدورة السادسة من "ربيعيات أصيلة".. مشغل فني بديع لصقل المواهب والاحتكاك بألمع رواد الريشة الثقافة والإعلام    اتفاق بين الحكومة والنقابات.. زيادة في الأجور وتخفيض الضريبة على الدخل والرفع من الحد الأدنى للأجور    مقاييس الأمطار المسجلة بالمملكة خلال ال 24 ساعة الماضية    الفنان الجزائري عبد القادر السيكتور.. لهذا نحن "خاوة" والناظور تغير بشكل جذري    المكتب الوطني للسياحة يضع كرة القدم في قلب إستراتيجيته الترويجية لوجهة المغرب        المغرب التطواني يتعادل مع ضيفه يوسفية برشيد    رسمياً.. رئيس الحكومة الإسبانية يعلن عن قراره بعد توجيه اتهامات بالفساد لزوجته    فيلم أنوال…عمل سينمائي كبير نحو مصير مجهول !    وزارة الفلاحة…الدورة ال 16 للملتقى الدولي للفلاحة بالمغرب تكللت بنجاح كبير    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    أسعار الذهب تتراجع اليوم الإثنين        إليسا متهمة ب"الافتراء والكذب"    غزة تسجل سقوط 34 قتيلا في يوم واحد    رئيس ريال مدريد يهاتف مبابي عقب التتويج بالدوري الفرنسي    المفاوضات بشأن اتفاق الاستعداد للجوائح بمنظمة الصحة العالمية تدخل مرحلتها الأخيرة    المنتخب المغربي يتأهل إلى نهائي البطولة العربية على حساب تونس    حكواتيون من جامع الفنا يروون التاريخ المشترك بين المغرب وبريطانيا    بعد كورونا .. جائحة جديدة تهدد العالم في المستقبل القريب    دراسة: الكرياتين يحفز الدماغ عند الحرمان من النوم    هيئة كبار العلماء السعودية: لا يجوز الذهاب إلى الحج دون تصريح    السعودية: لا يجوز الحج في هذه الحالة.. ويأثم فاعله!    قبائل غمارة في مواجهة التدخل الإستعماري الأجنبي (8)    الأمثال العامية بتطوان... (584)    الأمثال العامية بتطوان... (583)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المجموعة القصصية»الخلفية» للكاتب المغربي العربي بنجلون
نشر في بيان اليوم يوم 13 - 02 - 2015


مفارقة سردية في الشخصيات
إن المفارقة مفهوم فلسفي بالدرجة الأولى، فاستنتاج مفارقة من فرضية هي من الطرق المعتمدة لنفي فرضية خاطئة، وهي أيضا من أبرز وأذكى التقنيات الإبداعية في النص القصصي، موضوعها الأساسي هو التضاد، ووظيفتها الرئيسية هي تحقيق الدهشة لدى المتلقي من خلال تخييب كل توقعاته، والسير به نحو فضاء مليء بالغرابة. و لعل الأديب العربي بن جلون، في بنائه القصصي وفي سعيه وراء تحقيق الدهشة لدى قارئه انطلق من فكرة أن الشيء الجميل هو ذاك الذي لا تثنيه بساطته عن تحقيق المتعة، ولا تمنعه تلقائيته من خلق رؤية معارضة للوضع المروي عنه. فاستعان في بناء مفارقاته بشخصيات لها خصائص معينة، مؤطرة برؤيته، وحدود تجربته، قام برسمها من الداخل في محاولة لتحليلها باطنيا، من خلال تفكيرها وتفاعلها مع الظروف المحيطة بها، ومع أنه أسهب في لحظات معينة في وصفها: طريقة مشيتها، حديثها، ضحكتها، غضبها، توجسها.. لكنه إسهاب جعلنا نقف على بعدها الظاهري، وأنها من نوع الشخصيات الجاهزة التي يُعرِّف بها القاص دفعة واحدة في مثل قوله في قصة الخلفية ص13: كان يدلف إلى مقهى بوجلود متجهما، يلتفت يمينا ويسارا باضطراب وقلق، كأنه يبحث عن شيء ضائع. ثُمَّ يجلس إلى طاولة متآكلة، وكرشه متدلية بين رجليه القصيرتين، يحتسي كؤوس الشاي بصوت المنعنعة بصوت حوشي. ومن حين لآخر، يفتل شاربه القطِّي..، ص13.و قوله في قصة، الفياغرا أو رجوع الشيخ إلى صباه: كان يُحس بالإحباط والفشل والخيبة لشخصيته الجريحة، يبدو أشبه بطائر بحري قتيل يطفو على الماء، أو سنبلة نابتة في مقبرة. كان صورة كاملة للكآبة والقرف والغثيان، يُبحر في سبعة بُحور ..ص21..مما يشكل لدينا إستراتيجية لاستكشاف المفارقات التي تؤسس لها.
كما اختار لشخصياته أيضا وضعيات تجعلها متأرجحة بين الماضي والحاضر. في تركيبتها نوع من المخادعة والاحتيال، كاستحضار شخصيات مرجعية، تعرفها الذاكرة، مسجلة لديها كمعلومة مخزنة يكفي ذكرها أو ذكر ما يدل عليها لتستحضر الذاكرة كل المعلومات المتعلقة بها، مما يوقع القارئ في شرك التواطؤ مع السارد والاستباق إلى توقع الأحداث، والإسهام في العملية الإبداعية.. لكن، لا مانع من هذا التواطؤ مادامت المفارقة حسب تعبير الناقدة نبيلة إبراهيم هي لغة اتصال سري بين الكاتب والقارئ** فن القص في النظرية والتطبيق..ص:179
هناك من يحدد مقاربة الشخصيات في الدور الذي تقوم به حين تتسابق للفوز بمحور العملية السردية، واختفاء الراوي القاص، وحضوره مقَنَّعا أو مشارا إليه بالترميز، في مثل ما جاء في قصة الفيروس: فالشخصية هي *أنا*، وهو الذي تطًيَّرَ من رؤية الغراب في قوله: قلت في نفسي، وأنا أسترق النظر يوما إلى غراب أسود تماما، ذي منقار مُدَبَّب تماما:
- لن يمرَّ هذا اليوم بخير..
التقطتُ حجرا صُمَّا. قذفته بكل جهدي، فحلَّق عاليا، ينْعقُ بصوت بغيض.. ص71، والراوي "أنا" هو الشخص الذي أخبرنا بما يدور في خلده نتيجة رؤية الغراب. وسرْد الشخص الثاني يُمثّل إمكانية أخرى، وتُسْتَغلُّ بشكل نسبي في القص بحيث تُسْهِم في سرد الأحداث المتعلقة بالشخص الثاني في مثل قول السارد في نفس القصة: ووجدتني أفتح عيني، على ملَك عظيم الخلقة، يمتطي فرسا من نور، ويرتدي حلة من نور، لم أَرَ مثله شكلا ولا أصل!.. سألته، وأنا أحملق في حلته النورية: - لم أرك من قبلُ.. هل أنا أهْدي أم أعقلُ؟؟..جاءني منه صوت غير الصوت، أجنبي عني، غريب لم تألفه أُذني:
أنا الذي أهزم اللذات، وأفرق الجماعات، أُخرِّب الدور وأُعمِّر القبور .. أنا مَلَكُ الموت،...ص73. فأصبحتْ "أنا" شخصية ثانية مرويا لها، وهي الموت في شكلها الأوَّلي حين تقْبِل على المعني بالزيارة. فالتسابق للفوز بمحور العملية السردية واضح في بعض القصص، وقد جعل منها القاص مفارقة سردية كانت الشخصيات مركزا لها، حوار بين الموت والحياة في لحظة فارقة، لقاءٌ لحياتين معا واحدة تنتهي والأخرى تعلن بدايتها، وهي ساخرة من الوافد الجديد، يا كومة من اللحم البارد، والشعور الجامد...ص73 وفي موضع آخر يقول: سحبتُ إزاراَ أبيض على رأسي الثقيل، وأغمضت عيني، مستسلما لدوامة من الأفكار السوداء...ص72
ما يضاعف عمق المفارقة السردية في قصة الخلفية أمران: الأول، تكسير زمن السرد عن طريق استرجاع أحداث بعيدة من حيث الزمن، سابقة عن النقطة التي انطلقت منها الحكاية، في قوله: في هذا المساء الحزين، قادتني قدماي إلى بار صغير، ليس أكثر من غرفة شحيحة الضوء...ص16. و هو يَقصِد مساءَ ماضيا أو سالفا في حياة الشخصية الرئيسية، وقوله أيضا: مضى على هذه الحكاية عشرون عاما بالتمام والكمال، من سنة 1972 إلى 1992. كنت خلالها أكتب ذكرياتي الحزينة. ....ص18. والغرض إنارة ماضي الشخصية، وتزويد القارئ بمعلومات تعينه على تتبع مجريات الأمور. أضف إليه ذلك الغموض الذي يلف الشخصية مما يضاعف حيرة المخابرات في تحديد انتمائها، ويدفعها في النهاية إلى توريطها بتهمة الاغتصاب، - يا للشقي، وماذا فعل المسكين؟ قُبض عليه بتهمة اغتصاب امرأة شريفة عفيفة. صبرا صبرا، أتقصد البارميت؟ ضحك مني قائلا: يا لك من أبله وهل يخطر ببالك أن هناك من هو أنقى وأطهر منها؟ ص20. والاغتصاب من الغصب والإكراه، الشيء الذي ستكشف المفارقة عن نقيضه وهو أن المغتصبة من تاجرات الجنس اللواتي يتصيدن ضعاف النفوس مثل صاحبنا كما سماه السارد إلى جانب أسماء أخرى مثل الشخصية، مسكين، الزنديق، فتصنع شخصية البارميت بهذا الحدث المفارقة ما بين الشرف، العفة // والبارميت بكل المواصفات المشهورة عنها كشخصية عامة..،
وأود الإشارة هنا إلى مطابقة تودوروف بين الشخصية في تمثيلها للدور وبين اسم العلم في تمثيله للشخص على اعتبار أن الاسم لا قيمة ذاتية له بل إن قيمته وصفية فقط تميز الشخص عن غيره، تماما كما أن صفات الشخصية هي مؤشرات المقصودِ بها القارئ. تودوروف اللغة والأدب ص50، لأنها موجهة إليه بشكل خاص كمقصد للحكي، أو كمروي له. واسم الشخصية في هذه القصة، الخلفية، غير ذي أهمية عند السارد، تكفيه الصفات كمؤشرات يستعين بها القارئ في تمييز الشخصية الرئيسية، عن ما دونها من الشخصيات، والتعرف عليها بشكل مُقَرَّب، فاستغنى عنه بالصفات الدالة عليها..
ولما كانت السخرية من تمظهرات المفارقة إلى جانب التناص والتغريب والفنتازيا، فقد وجه العربي بنجلون مفارقاته في مجموعته القصصية الخلفية صوب استراتيجية هدفها الرئيس هو صنع السخرية التي تكاد تميز كل نصوصها، والضحك ليس دائما نتاج الأسلوب الساخر، فهي مفارقة تبكي لضحكها، وتضحك من بكائها.
هي سخرية عاكسة لموقف معارض لآخر قائم، أو موقف هزلي من وضع المفروض أنه جدي لكنه ليس إلا اختزالا لهموم الناس في مشكل معين خاص لا يعني إلا صاحبه. والسخرية في المجموعة القصصية الموضوع –الخلفية- هي مركبة السارد للوصول إلى نقد أخلاقي وتهذيبي، يُمرِّر من خلالها مواقفه مثلا، لكنه لا يريد مناقشتها ولا تحليلها، فيعرضها في طابع ساخر للكشف عن صورة من صور الذات المتصارعة بين قناعتها وحقيقة الأشياء، فقصة الخلفية مثلا يقوم بنائها السردي على المفارقة حيث جعل القاص من الشخصية المستهترة والتي لها ميل مبالغ فيه نحو الجنس الآخر في انجذابه اللاواعي لخلفية البارميت شخصية مزدوجة بحياتين، حياة تشغلها أمور متسيسة مثل الشيوعية أو الإرهاب، وكلاهما يدل عليه نفس المؤشر وهو اللحية. فإذا كانت خلفية القصة أو الإطار الذي يأتي خلف مشهدها هو الوضع العام أو السياق الذي يستدعي تتبع المشتبه في تورطهم في إحداث الفوضى أو التغيير في العالم، فإن اللحية في ظاهر الوجه هي العلامة الفارقة في الشخصية كون اللحية دلالة عامة لا يختص بها رجل دون الآخر، ولا تعني انتماء وحده دون غيره من الانتماءات، وليست بالضرورة عنوان الزهد والعفة في الحياة.. إنها الشكل الأمامي أو العتبة التي يتخذها المخبرون معبرا لشكوكهم، كما جاء في قول السارد: حدِّثنا عن خلفيتك، يا بن الزانية...
أية خلفية تعنون؟ ... أنا مثل القرد الصيني، أتألم ولا أتكلم...
ماركسي، لينيني، لا تُنكر.. وإلا لمَ تُطيل لحيتك السوداء كالقار؟ ص17
وأيضا في قوله: هل قمتَ برحلة إلى السودان، أو باكستان، أو إيران، أو أفغانستان أو الشيشان، أو أذَرْبيجان، أو داغستان..؟ ص18
بالموازاة معها فالقاص يخلق مفارقة سردية بين رمزية تكتُّم وعزلة الشخصية الرئيسية، ورمزية المكاشفة والعرض الرخيص في شخصية البارميت. بين ادعاء الجهل وعدم معرفة ما يجري، وبين التورط في كل المشاكل.
في قصة: -لم يكن إلا حلما- يعرض السارد موقفه من خلال استدعاء شخصيات ذات حمولة مرجعية، مثل شخصية هارون الرشيد التي تتطلع لحياة أطول لمنع التخاذل في الموقف العربي من قضية فلسطين المحتلة، وشخصية صلاح الدين الأيوبي في رمزيتها الدالة على الفروسية والشجاعة، يقول: فأشار إليَّ أحدُهم برأسه ألاَّ أعملَ، وفعلا لم أعملْ، لأن قلبي أعْلَمني أنَّ في كل هذه البهرجة سِرَّا خفيا، وأن ذلك الذي حرَّك لي رأسه يبدو عربيا من لونه، وقسمات وجهه، ولباسه، ينادونه ب –صلاح-.. ص6-7.
إذن، جعل الراوي من عنصر الشخصيات رموزا لإبراز التناقض الذي عرفه الموقف العربي على امتداد التاريخ، فحكم هارون في الزمن الحاضر يبقى حلما، والحقيقة هي ما يحمِله الحلم في خطابه المباشر الذي لم يتضمن تلميحا ولا إشارة ولا تكثيفا، وإنما صرَّح بما هو واقعي زمن الكتابة أو زمن القص، في قوله: سيدي..، ليس لهذا الحلم إلا تفسير واحد، ما دامت نيتك خالصة، وهو أن فلسطين ستُحْتَل، لكن عينك بصيرة ويدك قصيرة..ص8. دلالة الاستسلام للأمر الواقع في هذا الزمن - وهو غير زمن هارون الرشيد ولا زمن صلاح الدين الأيوبي. وهذا التداخل بين الواقعي والتخييلي في عنصر الشخصية، حقيقتها وحلمها، ماضويتها وتحيينها من خلال استحضارها، يحيل على ما يراه رواد نظريات القراءة، من أنها ليست حقيقية بالكامل، وما هي إلا واقعا تخييليا يصنعه السارد ليعرض نفسه منافسا للواقع الحقيقي، وللإشارة فهم يدرسون فيما من الممكن أن تعنيه الشخصية للقارئ.
وهذا الجمع بين شخصية في رمزيتها وواقع إقليمي معين ومُعاش، هو ما يُمظهر فكرة المفارقة المؤرقة لشدة التعارض بين ما كان وما صار، اشتغال جميل في إطار سخرية باذخة.
والشخصيات أنواع: رئيسية تصنع الحدث، وأخرى ثانوية يتم إبعادها إلى الخلفية والمشاركة في السياق أو البيئة، مما يحيلنا مرة ثانية على المفهوم المقصود بعنوان المجموعة الخلفية، وهو تضافر كل العناصر لبناء الحكاية في نمطها السردي، وتشكيل خلفية النص أو المقاصد الخفية منه.
فالسموأل مثلا في القصة نفسها شخصيته تجمع بين دلالتين/ الأولى هي ما يُلمِّح إليها السارد، التحفيز على التطبيع، لكون السموأل شاعر عربي يهودي، والثانية حقيقة علاقته بالشاعر امرئ القيس والذي تم استدعاؤه أيضا من لدن السارد، لإبراز العنصر الثاني للمفارقة، عربي عربي. والحلم بإرجاع الحق لأهله، والأرض لأصحابها.. حلم السارد، والأمر الذي ترمز إليه علاقة الرجلين كما سجلتها الأحداث التاريخية إخلاص السموأل وتقديمه حياة ابنه مقابل الوفاء بالذمة لامرئ القيس وورثته.
المفارقة في شكلها الساخر تؤثث قصص المجموعة، وتركز على مكون الشخصيات لما تحمله من دلالات يمكن توسلها للترميز والإيحاء والاستغناء بذكرها عن سرد التفاصيل أحيانا، شخوص القصة تتضافر لخلق مفارقة ترقى بالعملية السردية، وينجذب إليها القارئ بحثا عن التقابلات الممكنة.
فشخصية أبي الجود مثلا، التي تقرأ توصيفاتها ومساهمتها في فعل الحدث، وأنت بالموازاة تستحضر شخصيات واقعية عدة تعرفها، وهيمنتها على أحداث قصتين اثنتين: قصة الخلفية، حيث مثَّل السلطة غير المتأكدة من صحة معطياتها، والتي تخبط حبط عشواء، وتتمسك بأي مؤشر بحجة كل الطرق قد توصل للاعتقال. وفي قصة: الفياغرا، أبو الجود المستشار، الشخصية الحريصة على إيجاد الحلول المرضية لنزوات سيدها، وهي شخصية مسيطرة في المحلين معا، وشخصية تخلق المفارقة في النصين معا.. هوس البحث عن الفحولة لدى سيده، وسخريته الظاهرة في مسايرته لجنون لن تتحقق أحلامه البائدة، لأن الزمن داسها بعربته التي لا تعود من حيث تمر مرتين. قال السارد: حقا ما قلت، يا سيدي، أطال الله يدك في الخير.. إن القضية أخطر ممَّا كنا نخال ونُقدِّر، إذْ ماذا يبقى للإنسان إذ فتر باهه، وذهب نشاطه وحيويته؟ص 25، هذا وقد انضاف للقصة عنوان آخر: رجوع الشيخ إلى صباه، يؤسس لبعض التقابلات: عجز/ قدرة، خرف/طيش، في سخرية ظاهرة ومبالغ فيها من استهتار بالقضايا العامة.
أما في قصة الخلفية، حاملة عنوان الأضمومة وعنوانا آخر، ابن بطوطة في كف عفريت، فشخصية أبي الجود، تُلخِّص التباعد بين الجود بمعناه الإيجابي والجود في جانبه السلبي، الجود في إسقاط التهم، الجود في الضرب والتعذيب.قال: جرَّني بصلافة، أخرجني دون أن يسمح لي بارتداء البَدلة، وأنا خاسئ الرأس، أتعثر بجلبابي، ساقني. وهكذا.
ومن سخرية السارد أيضا ما نجده في قصة: وقالوا إنه فنان، الإهداء الذي صدَّرها به حيث قال: إلى وطني العربي الجميل، الذي يشجع الفن والفنانين والإبداع والمبدعين، أهدي قصة فنان كبير، ملأ الدنيا وشغل الناس،ص33. والذي يعطي انطباعا أنه جدي لولا سخرية العنوان من خلال عبارة وقالوا: وما يَتبعها خلال سرد الأحداث من عبارات ساخرة واضحة من المشهد الفني المتدني، والذي صار أغلب رواده من شاكلة مسعود الشخصية الرئيسية في القصة، والتي لم تعرف النجاح في حياتها قط، والتي حققت حلمها بفضل غبائها وسذاجتها وتدخل فطومة، الصيد الذي يتَحَيَّن المدير الانقضاض عليه، حسب ما جاء في النص، وهي مدركة، لكنها تتغافل مستغلة الوضع لصالح ابن عمها مسعود.. الذي يشارك بدوره في اللعبة بغباء، قال السارد: أجل سيدي.. هل تريد أن أُسْمعك من مقطوعاتي الغنائية؟
-لا، لا داعيَ إلى ذلك، فلو لم تكن فنانا حقيقيا، لَما أحضرتك فطُّومة.. ولنفرض أن صوتك خشن ومبحوح، فإن الأجهزة الحديثة التي جلبناها من أوربا، تُحوِّلُ النهيق إلى هديل، والهديل إلى نهيق..نطق مسعود بلا شعور: أطال الله عمرك، سيدي.. لو كان أبي معي لَسمع منك هذا التطور العلمي الهائل في تعديل الصوت وتحسينه.ص37
وأخيرا، المفارقة كعنصر ذكي في الكتابات الحديثة، أحيانا تكون مصنوعة بعناية وأحايين أخرى لا يتوسلها المبدع، بقدر ما تتَأتَّى له أثناء البناء القصصي، يستكشفها القارئ، ويتقصَّى أثرها، إنها تسهم في تعميق فهمنا للأمور وإيصالها لنا بطريقة سردية المفروض فيها التلميح والتكثيف.
والأديب العربي بنجلون في هذا العمل، ركز على عنصر الشخصية لتنغمس في التخييل وتفقد كل علاقاتها بالواقع، أحيانا تحس به وكأنه يبغي أن يجعل منها شخصية أسطورية ضاربة في الخيال. أو يعتمدها بأسماء حقيقية رغبة منه في إخراج تجربتها من خانة خصوصيتها الزمانية والمكانية، والاشتغال عليها كرموز حياتية قد نصادفها في كل مكان وفي كل زمان.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.