أمن طنجة يوقف سائق عربة لنقل العمال دهس سائق دراجة نارية ولاذ بالفرار    الدوري التركي.. النصيري يتألق بثنائية، وفنربخشة يكتسح غازي عنتاب برباعية نظيفة    الكاميرون: بول بيا يفوز بولاية رئاسية ثامنة في عمر 92 عاما    المنتخب المغربي النسوي لأقل من 17 سنة يواجه كوريا الشمالية في اختبار حاسم بمونديال الناشئات    إعادة انتخاب الحسن وتارا رئيسا لساحل العاج لولاية رابعة بغالبية ساحقة    ولد الرشيد يستقبل سفراء آسيا والمحيط الهادي ويؤكد انخراط المغرب في تعزيز التعاون البرلماني جنوب–جنوب    قافلة طبية جراحية لساكنة حد الغربية بضواحي طنجة    حادث انقلاب سيارة أجرة بطريق رأس الرمل وإصابة السائق بجروح متفاوتة الخطورة    محاولة تهريب 30 ألف و285 قرص طبي مخدر من معبر باب سبتة    مسعد بولس يصفع من جديد النظام الجزائري: تفاؤل أمريكي بحل نهائي لقضية الصحراء المغربية قبل جلسة مجلس الأمن    الانخفاض ينهي تداولات بورصة البيضاء    71 ألف و114 مستفيدا من دعم السكن    بولس يتفاءل بحل نهائي لنزاع الصحراء    سيدات الجيش في مجموعة متوازنة    الجمعية المغربية للباحثين في الرحلة وجمعية نظرة للثقافة والإعلام تنظمان:مصر في مرآة رحلات مغربية معاصرة    البرنامج الجديد للنقل الحضري العمومي.. إستلام 257 حافلة جديدة بميناء الدار البيضاء    الأمين العام الأممي يدين انتهاكات حقوق الإنسان في مخيمات تندوف    العلوم السياسية في الثانوي    زمن النسيان العام    مجلس الحكومة يستعد الخميس المقبل لمنح ثلاث شركات للاتصالات تراخيص الجيل الخامس    محمد البارودي يقود الديربي بين الوداد والرجاء    الكاتب المغربي سعيد بوكرامي مرشحا لنيل جائزة ابن خلدون – سنغور للترجمة 2025    البلاوي: "حماية المال العام تعد من المهام الجسيمة التي تستلزم تعبئة تشريعية وقضائية ومؤسساتية متكاملة"    المانوزي: التمديد للشكر تم في منتصف الليل بشكل غير ديمقراطي وقد ألجأ للطعن إنقاذا للحزب    بركة: سنطلق في غضون أسابيع الربط المائي بين أبي رقراق وأم الربيع لنقل 800 مليون متر مكعب من الماء    تحرّك قانوني مغربي ضد توكل كرمان بعد إساءتها للمغرب    اقتراب منخفض جوي يحمل أمطاراً ورياحاً قوية نحو الريف والواجهة المتوسطية    Trevo تفتح باب التسجيل للمضيفين المغاربة‬    أهداف حاسمة ومساهمات قوية ل "أسود الأطلس" في صدارة المشهد الأوروبي    المدافع باعوف ضمن اللائحة الأولية لأسود الأطلس    تيزنيت: بتنسيق مع "الديستي"… عناصر الشرطة القضائية توقع بشخصين متهمين باضرام النيران بسيارتين بالشارع العام    شبكة لغسل أموال المخدرات عبر "منتجعات صحية" تُطيح بمسؤولين بنكيين    في قلب بنسليمان..مهرجان عيطة الشاوية يرى النور في مدينة المونديال    مواد سامة وخطيرة تهدد سلامة مستعملي السجائر الإلكترونية    تصريحات لامين جمال تُشعل الكلاسيكو    فينيسيوس بعد استبداله في"الكلاسيكو": "سأغادر الفريق.. من الأفضل أن أرحل"    يضم نقوشا صخرية وقبورا جنائزية.. مطالب بحماية موقع أثري بكلميم من التخريب    تعديلات جديدة تحصر القيد في اللوائح الانتخابية وتضبط استطلاعات الرأي    تتويج المغرب في جائزة اللغة العربية    إقبال كبير من المهنيين وعشاق السينما على مهرجان الفيلم بطنجة    فاطمة عاطف.. تكريم بطعم المواويل    عودة الاحتجاج على تعطيل التكرير في مصفاة "سامير" وضياع حقوق الأجراء والمتقاعدين    اكتشاف خطر جديد في السجائر الإلكترونية يهدد صحة الرئة    دراسة حديثة: الاحتباس الحراري يؤثر في توزيع الأمطار والثلوج    ترامب يرغب في لقاء كيم جونغ أون    روسيا تعلن اعتراض 193 مسيرة أوكرانية    النفط يرتفع بعد توصل أمريكا والصين إلى إطار عمل لاتفاق تجاري    هامبورغ تتصدر مجددا قائمة الولايات الأكثر سعادة في ألمانيا    دونالد ترامب يبدأ زيارة رسمية لليابان    الصين: ارتفاع أرباح الشركات الصناعية الكبرى بنسبة 3,2 بالمائة عند متم شتنبر    وضع نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة رهن إشارة العموم    حِينَ تُخْتَبَرُ الْفِكْرَةُ فِي مِحْرَابِ السُّلْطَةِ    أمير المؤمنين يأذن بوضع نص فتوى الزكاة رهن إشارة العموم    وضع نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة رهن إشارة العموم    المجلس العلمي الأعلى يضع نص فتوى الزكاة رهن إشارة العموم    طب العيون ينبه إلى "تشخيص الحول"    علماء يصلون إلى حمض أميني مسبب للاكتئاب    أونسا: استعمال "مضافات الجبن" سليم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الإنسان يصنع قدره
نشر في السند يوم 20 - 09 - 2010

ظهرت فرقة في تاريخ المسلمين عرفت باسم الجبرية، تعتقد بأن الله هو الذي يخلق أفعال العباد وأن الإنسان مسير لا مخير..
هذه الفرقة وإن غاب اسمها في أحشاء التاريخ، إلا أن روحها لا تزال حيةً في قلوب أكثر المسلمين، بل أكثر الناس الذين يزعمون أن الظروف والأحداث هي التي تسيرهم، وأن أمواج الحياة تتقاذفهم لا يستطيعون ردها، وأنهم خيرون طيبون لولا أن الظروف اضطرتهم لئلا يكونوا كذلك..
ما يدفع الإنسان لمثل هذا الاعتقاد أنه يجد راحةً في إعفاء نفسه من تحمل المسئولية، وتعليقها على القضاء والقدر.فالاعتقاد بالجبرية يعني أن ما يواجهنا من مصائب لم يكن من كسب أيدينا، وأنها كما جاءت وفق المشيئة الإلهية على غير إرادتنا، فإن الخلاص منها لن يكون إلا بالمشيئة الإلهية وحدها دون أن نقوم بأي دور تجاهها وأنها ليس لها من دون الله كاشفة.
وبذلك تصير النظرة إلى الأحداث بأنها تقع بشكل عشوائي، كلسان حال الشاعر الذي قال (جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت ..ولقد أبصرتُ قدامي طريقاً فمشيت ..وسأبقى ماشياً إن شئتُ هذا أم أبيت)
وخطورة هذه النظرة أنها تلغي أي أهمية للجهد البشري، بل إنها تلغي إنسانية الإنسان وتحوله من الإنسانية إلى الشيئية يسير على غير إرادة وهدى، وما دامت هذه هي نظرة الإنسان للحياة فلن يكون هناك أي قيمة للسعي وللعمل، لأن الحياة تسير على نحو عبثي دون سنن وقوانين تضبطها، وحين يظن الإنسان أن العبثية هي التي تحكم الوجود فلن يكون هناك داع للعمل والأخذ بالقوانين، فالعبثية تلغي جدوى القانون.
إن هذا الظن هو وصفة للتكاسل والتواكل والسلبية، وللفساد في الأرض، فمن يظن أنه لا دور له فيما يصيبه من أحداث وأن أمواج الحياة تتقاذفه بخبط عشوائي فلن يراجع نفسه ولن يصلح عمله.
لقد ميز الله الإنسان عن غيره من المخلوقات بالقدرة على الاختيار "وهديناه النجدين"، ومبدأ الاختيار هو الأمانة التي عرضها الله على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان، والاختيار في دلالته العميقة يعني أن الإنسان قادر على صناعة قدره بنفسه، فالله قد استخلفه في الأرض ومنحه القدرة على فعل ما يريد على أن يتحمل مسئولية اختياره، لذلك فإن الحساب والعقاب هو الوجه الآخر للحرية، وهذا هو تكريم الإنسان أن يختار ما يريد ويتحمل عاقبة هذا الاختيار: "وأن ليس للإنسان إلا ما سعى".
وحين يتحدث القرآن عما ينتظر الإنسان سواءً في الدنيا والآخرة فإنه يربطها بعمله "جزاءً بما كانوا يعملون"
إن قدرة الإنسان على الاختيار يعني أنه مسئول عن نتيجة كل أفعاله، وأن كل ما يفعله اليوم سيلاقي نتيجته غداً، وإذا كانت أفعال اليوم هي التي تصنع حياة الإنسان في الغد، فإن واقعه اليوم أيضاً ما هو إلا صناعة الأمس، فإذا تساءلنا عن المصائب التي تواجهنا في حاضرنا:أنى هذا؟ فإن علينا أن نبحث عما قدمت يدانا، فهي لم تكن لتصيبنا إلا بما كسبت أيدينا: "قل هو من عند أنفسكم".
لكن أكثر الناس على اختلاف أديانهم وألوانهم بدل أن يلتفتوا إلى داخل أنفسهم فإنهم يبحثون عن أسباب مشكلاتهم خارج ذواتهم، ونقصد الذات هنا في جميع مستوياتها: الفردية، والجماعية، والحضارية، فالفرد يسب المجتمع والظروف لأنه فشل في حياته، والشعوب تحمل حكامها مسئولية الفساد والاستبداد، والعرب يحملون الغرب مسئولية خيبتهم وتأخرهم الحضاري، والغرب بدورهم يحملون العرب مسئولية الإرهاب والظلامية، ولا يفكرون بالأسباب التي قادت إلى هذه النتائج، وهكذا فإن كل حزب بما لديهم فرحون.
إن البشر يتقنون تبرئة النفس وتقديسها والعيش بنفسية الضحية وأنهم مظلومون مضطهدون، وحين تحل المصيبة بأحدنا فإننا نتعاطف معه بالقول إنه لا يستحق ما حدث له، وحين نتحدث عن تاريخنا نستفيض في وصف الجرائم التي قامت بها جيوش التتار تجاه عاصمة الخلافة، من جبال الجماجم وإحراق المكتبات، واسوداد نهر دجلة، وقتل الخليفة، ولكننا لا نبحث بجدية في حياة الخليفة الغارقة في الترف مما كان سبباً في تجرأ التتار على غزو ديارنا .
ونفس المنهج في حديثنا عن تاريخنا المعاصر فنرسم صورةً ورديةً بأننا كنا نعيش بأمن وأمان وادعين مسالمين، وفجأةً نزلت علينا البلايا من السماء، وغزانا الاستعمار، وأقيمت إسرائيل على أنقاضنا..
لكن القرآن قد جاء بفكرة انقلابية تنسف هذه المفاهيم السائدة، فهو لا يقر نفسية الضحية، وعلى العكس من ذلك يرسخ فكرةً غير مألوفة بين البشر وهي فكرة (ظلم النفس)، والبشر يتحدثون عن ظلم كل أحد لهم إلا ظلمهم لأنفسهم وهو الظلم الرئيسي الذي يركز عليه القرآن دائماً "وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم"، "وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون"، "ظلمنا أنفسنا"..
إننا نحن المسئولون عما يواجهنا من مصائب لأن الله قد أعطانا القدرة على الاختيار، ونحن الذين نملك أن نصنع الحياة بالطريقة التي نريدها فحياتنا من صنع أفكارنا، ولا يتغير واقعنا إلا إذا غيرنا الأسباب التي قادت إليه "حتى يغيروا ما بأنفسهم"..
إن القرآن يبرز دائماً المسئولية البشرية في كل ما يصيب البشر، ففي قضية الإيمان والكفر، والهدى والضلالة يبين أنها ليست عشوائيةً فالله لا يضل إنساناً إلا إذا اختار هو الضلالة "في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً"، "قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مداً"، وفي المقابل إذا صدق إنسان في البحث عن الهداية ورغب في اتباع الحق فإن الله سيوفقه في ذلك "والذين اهتدوا زادهم هدى"..
الإنسان هو الذي يبدأ، والله يعطيه ما يريد ، فهو مخير لا مسير.
إن الإسلام يعزز دور الإنسان في اختيار قدره بدعوته على الالتفات إلى داخل نفسه لتغيير واقعه، فهناك في الإسلام مبادئ مثل الاستغفار والدعاء ينبغي ألا نفهمها بالطريقة التعبدية وحسب، بل لها دلالتها الفلسفية العميقة، فالاستغفار يكون لتدارك أخطاء الماضي حتى نتجنب آثارها المستقبلية، فهي محاولة للتأثير في المستقبل، والدعاء كذلك بمعناه الإيجابي أن الإنسان يحاول أن يستجلب شكلاً معيناً للمستقبل وأنه يستطيع أن يرد القدر بالقدر فلا جبرية أو حتمية (لا يرد القضاء إلا الدعاء)..
هل لنا أن نفهم السر الذي يميز قصة قوم يونس في القرآن الكريم عن غيرهم من الأقوام..إنها تمثل برهاناً على أن البشر يستطيعون بأنفسهم أن يصححوا مسار التاريخ، فهلاك الأمم ليس حتميةً تاريخيةً، ولكنه اختيار قابل للتعديل إن هم تابوا ورجعوا إلى الطريق الصحيح، هذه لفتة استفدتها من المفكر السوري جودت سعيد.
إن إرادة الله الغالبة لا تنفي دور الإنسان في صناعة القدر، نحن نعلم أنه لا يكون إلا ما يريد الله ولكننا لسنا مطلعين على علم الله حتى نتحرك بناءً عليه، فنحن حين نعمل فإننا نعمل وفق اختيارنا وليس بناءً على معرفتنا باختيار الله، وما نصنعه في النهاية يكون هو إرادة الله، فنحن نتحرك ضمن قدر الله ولا نلغيه، فنفر من قدر الله إلى قدر الله، إن المرض والهزيمة والفقر أقدار إلهية ولكن العافية والنصر والغنى هي أقدار إلهية أيضاً، والسعي لتغيير الحال من هزيمة إلى نصر، ومن مرض إلى عافية هي أقدار أيضاً..
إن الإسلام يذهب بعيداً في إعلاء قيمة الدور الذي يستطيع الإنسان أن يقوم به في صناعة قدره حتى يشمل ذلك الدور أموراً تفصيلةً نظن أنَّ أحداً من البشر لا يستطيع التأثير عليها، وأنها قدر إلهي محض لا نملك تغييره، مثل الطريقة التي سنموت بها، وهذا ما توضحه قصة الأعرابي الذي ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم أنه اتبعه على أن يصاب بسهم في حلقه فيخرج من نحره فكان الجواب النبوي: إن تصدق الله يصدقك ، وهو ما كان له فمات بالطريقة التي يريدها بالضبط، ونفس المعنى في الحديث أن صدقة السر تقي مصارع السوء أن الإنسان يملك بعمله أن يختار طريقة موته.
إذا كان الإنسان يمكن أن يبلغ درجةً يختار فيها حتى طريقة موته، وإذا كان هناك من عباد الله الأشعث الأغبر الذي لو أقسم على الله لأبره، فهذا يعني أنه لم تعد هناك دائرة للغموض والقلق والعشوائية في هذه الحياة، وأن الإنسان يملك أن يمسك زمام قدره بيديه، وهذه هي قمة التكريم الإلهي للإنسان الذي نفخ فيه من روحه، وكون الإنسان فيه نفخة إلهية فهذا يعني أن فيه أثراً من صفات الله، وكما أن الله يفعل ما يريد، فإنه قد أعطى للإنسان القدرة على أن يفعل ما يريد، طبعاً في حدود بشريته وعبوديته "وما تشاءون إلا أن يشاء الله"..
وكما ذكرنا مثالاً من المستوى الفردي فإننا نذكر مثالاً آخر من المستوى الجماعي وهو قول الله عز وجل:"ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض"، والمعنى أن الإنسان يستطيع أن يؤثر في الظواهر الطبيعية بتغيير رصيده النفسي..وبذلك تصير الطبيعة مسخرةً للإنسان، ويكون مسيطراً عليها بدلاً من أن يكون تائهاً حائراً مصدوماً أمام غضبها كما هو حاله اليوم .
جميل أن خبراء التنمية البشرية أدركوا جانباً من هذا المعنى الإيجابي للقدر فخرجوا لنا بقانون الجذب الذي يقول في خلاصته أننا نحن الذين نختار مستقبلنا إيجاباً أم سلباً، نجاحاً أم فشلاً..
إن هذا الفهم الإيجابي للقدر يؤكد لنا أن الحياة لا تسير على نحو غامض فتشقينا يوماً وتسعدنا آخر، أو أن الحظ يبتسم لنا يوماً فننجح، ويتجهم آخر فنفشل، ولكننا نعيش وفق اختياراتنا، وبذلك نتحرر من أغلال السلبية والتواكل والتكاسل، وتنطلق طاقاتنا باتجاه التغيير لبناء مستقبل أفضلspan /spanspanظهرت فرقة في تاريخ المسلمين عرفت باسم الجبرية، تعتقد بأن الله هو الذي يخلق أفعال العباد وأن الإنسان مسير لا مخير..هذه الفرقة وإن غاب اسمها في أحشاء التاريخ، إلا أن روحها لا تزال حيةً في قلوب أكثر المسلمين، بل أكثر الناس الذين يزعمون أن الظروف والأحداث هي التي تسيرهم، وأن أمواج الحياة تتقاذفهم لا يستطيعون ردها، وأنهم خيرون طيبون لولا أن الظروف اضطرتهم لئلا يكونوا كذلك..ما يدفع الإنسان لمثل هذا الاعتقاد أنه يجد راحةً في إعفاء نفسه من تحمل المسئولية، وتعليقها على القضاء والقدر.فالاعتقاد بالجبرية يعني أن ما يواجهنا من مصائب لم يكن من كسب أيدينا، وأنها كما جاءت وفق المشيئة الإلهية على غير إرادتنا، فإن الخلاص منها لن يكون إلا بالمشيئة الإلهية وحدها دون أن نقوم بأي دور تجاهها وأنها ليس لها من دون الله كاشفة.وبذلك تصير النظرة إلى الأحداث بأنها تقع بشكل عشوائي، كلسان حال الشاعر الذي قال (جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت ..ولقد أبصرتُ قدامي طريقاً فمشيت ..وسأبقى ماشياً إن شئتُ هذا أم أبيت) وخطورة هذه النظرة أنها تلغي أي أهمية للجهد البشري، بل إنها تلغي إنسانية الإنسان وتحوله من الإنسانية إلى الشيئية يسير على غير إرادة وهدى، وما دامت هذه هي نظرة الإنسان للحياة فلن يكون هناك أي قيمة للسعي وللعمل، لأن الحياة تسير على نحو عبثي دون سنن وقوانين تضبطها، وحين يظن الإنسان أن العبثية هي التي تحكم الوجود فلن يكون هناك داع للعمل والأخذ بالقوانين، فالعبثية تلغي جدوى القانون.إن هذا الظن هو وصفة للتكاسل والتواكل والسلبية، وللفساد في الأرض، فمن يظن أنه لا دور له فيما يصيبه من أحداث وأن أمواج الحياة تتقاذفه بخبط عشوائي فلن يراجع نفسه ولن يصلح عمله.لقد ميز الله الإنسان عن غيره من المخلوقات بالقدرة على الاختيار "وهديناه النجدين"، ومبدأ الاختيار هو الأمانة التي عرضها الله على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان، والاختيار في دلالته العميقة يعني أن الإنسان قادر على صناعة قدره بنفسه، فالله قد استخلفه في الأرض ومنحه القدرة على فعل ما يريد على أن يتحمل مسئولية اختياره، لذلك فإن الحساب والعقاب هو الوجه الآخر للحرية، وهذا هو تكريم الإنسان أن يختار ما يريد ويتحمل عاقبة هذا الاختيار: "وأن ليس للإنسان إلا ما سعى".وحين يتحدث القرآن عما ينتظر الإنسان سواءً في الدنيا والآخرة فإنه يربطها بعمله "جزاءً بما كانوا يعملون"إن قدرة الإنسان على الاختيار يعني أنه مسئول عن نتيجة كل أفعاله، وأن كل ما يفعله اليوم سيلاقي نتيجته غداً، وإذا كانت أفعال اليوم هي التي تصنع حياة الإنسان في الغد، فإن واقعه اليوم أيضاً ما هو إلا صناعة الأمس، فإذا تساءلنا عن المصائب التي تواجهنا في حاضرنا:أنى هذا؟ فإن علينا أن نبحث عما قدمت يدانا، فهي لم تكن لتصيبنا إلا بما كسبت أيدينا: "قل هو من عند أنفسكم". لكن أكثر الناس على اختلاف أديانهم وألوانهم بدل أن يلتفتوا إلى داخل أنفسهم فإنهم يبحثون عن أسباب مشكلاتهم خارج ذواتهم، ونقصد الذات هنا في جميع مستوياتها: الفردية، والجماعية، والحضارية، فالفرد يسب المجتمع والظروف لأنه فشل في حياته، والشعوب تحمل حكامها مسئولية الفساد والاستبداد، والعرب يحملون الغرب مسئولية خيبتهم وتأخرهم الحضاري، والغرب بدورهم يحملون العرب مسئولية الإرهاب والظلامية، ولا يفكرون بالأسباب التي قادت إلى هذه النتائج، وهكذا فإن كل حزب بما لديهم فرحون.إن البشر يتقنون تبرئة النفس وتقديسها والعيش بنفسية الضحية وأنهم مظلومون مضطهدون، وحين تحل المصيبة بأحدنا فإننا نتعاطف معه بالقول إنه لا يستحق ما حدث له، وحين نتحدث عن تاريخنا نستفيض في وصف الجرائم التي قامت بها جيوش التتار تجاه عاصمة الخلافة، من جبال الجماجم وإحراق المكتبات، واسوداد نهر دجلة، وقتل الخليفة، ولكننا لا نبحث بجدية في حياة الخليفة الغارقة في الترف مما كان سبباً في تجرأ التتار على غزو ديارنا .ونفس المنهج في حديثنا عن تاريخنا المعاصر فنرسم صورةً ورديةً بأننا كنا نعيش بأمن وأمان وادعين مسالمين، وفجأةً نزلت علينا البلايا من السماء، وغزانا الاستعمار، وأقيمت إسرائيل على أنقاضنا.. لكن القرآن قد جاء بفكرة انقلابية تنسف هذه المفاهيم السائدة، فهو لا يقر نفسية الضحية، وعلى العكس من ذلك يرسخ فكرةً غير مألوفة بين البشر وهي فكرة (ظلم النفس)، والبشر يتحدثون عن ظلم كل أحد لهم إلا ظلمهم لأنفسهم وهو الظلم الرئيسي الذي يركز عليه القرآن دائماً "وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم"، "وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون"، "ظلمنا أنفسنا"..إننا نحن المسئولون عما يواجهنا من مصائب لأن الله قد أعطانا القدرة على الاختيار، ونحن الذين نملك أن نصنع الحياة بالطريقة التي نريدها فحياتنا من صنع أفكارنا، ولا يتغير واقعنا إلا إذا غيرنا الأسباب التي قادت إليه "حتى يغيروا ما بأنفسهم"..إن القرآن يبرز دائماً المسئولية البشرية في كل ما يصيب البشر، ففي قضية الإيمان والكفر، والهدى والضلالة يبين أنها ليست عشوائيةً فالله لا يضل إنساناً إلا إذا اختار هو الضلالة "في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً"، "قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مداً"، وفي المقابل إذا صدق إنسان في البحث عن الهداية ورغب في اتباع الحق فإن الله سيوفقه في ذلك "والذين اهتدوا زادهم هدى"..الإنسان هو الذي يبدأ، والله يعطيه ما يريد ، فهو مخير لا مسير.إن الإسلام يعزز دور الإنسان في اختيار قدره بدعوته على الالتفات إلى داخل نفسه لتغيير واقعه، فهناك في الإسلام مبادئ مثل الاستغفار والدعاء ينبغي ألا نفهمها بالطريقة التعبدية وحسب، بل لها دلالتها الفلسفية العميقة، فالاستغفار يكون لتدارك أخطاء الماضي حتى نتجنب آثارها المستقبلية، فهي محاولة للتأثير في المستقبل، والدعاء كذلك بمعناه الإيجابي أن الإنسان يحاول أن يستجلب شكلاً معيناً للمستقبل وأنه يستطيع أن يرد القدر بالقدر فلا جبرية أو حتمية (لا يرد القضاء إلا الدعاء)..هل لنا أن نفهم السر الذي يميز قصة قوم يونس في القرآن الكريم عن غيرهم من الأقوام..إنها تمثل برهاناً على أن البشر يستطيعون بأنفسهم أن يصححوا مسار التاريخ، فهلاك الأمم ليس حتميةً تاريخيةً، ولكنه اختيار قابل للتعديل إن هم تابوا ورجعوا إلى الطريق الصحيح، هذه لفتة استفدتها من المفكر السوري جودت سعيد.إن إرادة الله الغالبة لا تنفي دور الإنسان في صناعة القدر، نحن نعلم أنه لا يكون إلا ما يريد الله ولكننا لسنا مطلعين على علم الله حتى نتحرك بناءً عليه، فنحن حين نعمل فإننا نعمل وفق اختيارنا وليس بناءً على معرفتنا باختيار الله، وما نصنعه في النهاية يكون هو إرادة الله، فنحن نتحرك ضمن قدر الله ولا نلغيه، فنفر من قدر الله إلى قدر الله، إن المرض والهزيمة والفقر أقدار إلهية ولكن العافية والنصر والغنى هي أقدار إلهية أيضاً، والسعي لتغيير الحال من هزيمة إلى نصر، ومن مرض إلى عافية هي أقدار أيضاً.. إن الإسلام يذهب بعيداً في إعلاء قيمة الدور الذي يستطيع الإنسان أن يقوم به في صناعة قدره حتى يشمل ذلك الدور أموراً تفصيلةً نظن أنَّ أحداً من البشر لا يستطيع التأثير عليها، وأنها قدر إلهي محض لا نملك تغييره، مثل الطريقة التي سنموت بها، وهذا ما توضحه قصة الأعرابي الذي ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم أنه اتبعه على أن يصاب بسهم في حلقه فيخرج من نحره فكان الجواب النبوي: إن تصدق الله يصدقك ، وهو ما كان له فمات بالطريقة التي يريدها بالضبط، ونفس المعنى في الحديث أن صدقة السر تقي مصارع السوء أن الإنسان يملك بعمله أن يختار طريقة موته.إذا كان الإنسان يمكن أن يبلغ درجةً يختار فيها حتى طريقة موته، وإذا كان هناك من عباد الله الأشعث الأغبر الذي لو أقسم على الله لأبره، فهذا يعني أنه لم تعد هناك دائرة للغموض والقلق والعشوائية في هذه الحياة، وأن الإنسان يملك أن يمسك زمام قدره بيديه، وهذه هي قمة التكريم الإلهي للإنسان الذي نفخ فيه من روحه، وكون الإنسان فيه نفخة إلهية فهذا يعني أن فيه أثراً من صفات الله، وكما أن الله يفعل ما يريد، فإنه قد أعطى للإنسان القدرة على أن يفعل ما يريد، طبعاً في حدود بشريته وعبوديته "وما تشاءون إلا أن يشاء الله"..وكما ذكرنا مثالاً من المستوى الفردي فإننا نذكر مثالاً آخر من المستوى الجماعي وهو قول الله عز وجل:"ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض"، والمعنى أن الإنسان يستطيع أن يؤثر في الظواهر الطبيعية بتغيير رصيده النفسي..وبذلك تصير الطبيعة مسخرةً للإنسان، ويكون مسيطراً عليها بدلاً من أن يكون تائهاً حائراً مصدوماً أمام غضبها كما هو حاله اليوم .جميل أن خبراء التنمية البشرية أدركوا جانباً من هذا المعنى الإيجابي للقدر فخرجوا لنا بقانون الجذب الذي يقول في خلاصته أننا نحن الذين نختار مستقبلنا إيجاباً أم سلباً، نجاحاً أم فشلاً..إن هذا الفهم الإيجابي للقدر يؤكد لنا أن الحياة لا تسير على نحو غامض فتشقينا يوماً وتسعدنا آخر، أو أن الحظ يبتسم لنا يوماً فننجح، ويتجهم آخر فنفشل، ولكننا نعيش وفق اختياراتنا، وبذلك نتحرر من أغلال السلبية والتواكل والتكاسل، وتنطلق طاقاتنا باتجاه التغيير لبناء مستقبل أفضل


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.