النيابة العامة توجه دورية لحماية الموظفين المكلفين بإنفاذ القانون والتصدي للاعتداءات ضدهم    ندوة نقابية تسلط الضوء على قانون الإضراب وتدعو إلى مراجعته    مخيمات الصحراويين تحترق    البنين تشيد بالمبادرة المغربية للحكم الذاتي في الصحراء المغربية    الدبلوماسية الجزائرية في واشنطن على المحك: مأدبة بوقادوم الفارغة تكشف عمق العزلة    التكنولوجيا الصينية تفرض حضورها في معرض باريس للطيران: مقاتلات شبح وطائرات مسيّرة متطورة في واجهة المشهد    وزراء خارجية أوروبيون يعقدون لقاء مع إيران في جنيف    استمرار الأجواء الحارة في توقعات طقس الجمعة    تتبع التحضيرات الخاصة ببطولة إفريقيا القارية لكرة الطائرة الشاطئية للكبار    توقعات أحوال الطقس في العديد من مناطق المملكة اليوم الجمعة    افتتاح الدورة ال26 لمهرجان كناوة وموسيقى العالم بالصويرة    سان جرمان يسقط في فخ بوتافوغو    موكب استعراضي يبهر الصويرة في افتتاح مهرجان كناوة    التصادم الإيراني الإسرائيلي إختبار لتفوق التكنلوجيا العسكرية بين الشرق والغرب    تطورات حريق عين لحصن.. النيران تلتهم 20 هكتارًا والرياح تعقّد جهود الإطفاء    مؤسسة بالياريا تقدّم في طنجة مختارات شعرية نسائية مغربية-إسبانية بعنوان "ماتريا"    كوت ديفوار تجدد تأكيد "دعمها الكامل" للمبادرة المغربية للحكم الذاتي    انطلاق فعاليات النسخة الأولى من ملتقى التشغيل وريادة الأعمال بطنجة    ميسي يقود ميامي إلى هزم بورتو    حكومة أخنوش تصادق على إحداث "الوكالة الوطنية لحماية الطفولة" في إطار نفس إصلاحي هيكلي ومؤسساتي    "عائدتها قدرت بالملايير".. توقيف شبكة إجرامية تنشط في الهجرة السرية وتهريب المخدرات    رئيس النيابة العامة يجري مباحثات مع وزيرة العدل بجمهورية الرأس الأخضر    ماركا: ياسين بونو "سيد" التصديات لركلات الجزاء بلا منازع    تغييرات في حكامة "اتصالات المغرب"    بعيوي يكذب تصريحات "إسكوبار الصحراء"    إصدار أول سلسلة استثنائية من عشرة طوابع بريدية مخصصة لحرف تقليدية مغربية مهددة بالاندثار        المغرب والولايات المتحدة يعززان شراكتهما الأمنية عبر اتفاق جديد لتأمين الحاويات بموانئ طنجة المتوسط والدار البيضاء    الأحمر يلازم تداولات بورصة البيضاء    نشرة إنذارية تحذر المواطنين من موجة حر شديدة ليومين متتاليين    "مجموعة العمل" تحشد لمسيرة الرباط تنديدا بتوسيع العدوان الإسرائيلي وتجويع الفلسطينيين    بنكيران يهاجم… الجماهري يرد… ومناضلو الاتحاد الاشتراكي يوضحون    أخبار الساحة    هل يعي عبد الإله بنكيران خطورة ما يتلفظ به؟    مجازر الاحتلال بحق الجوعى وجرائم الحرب الإسرائيلية    بيت الشعر في المغرب يتوّج بجائزة الأكاديمية الدولية للشعر    تعدد الأصوات في رواية «ليلة مع رباب» (سيرة سيف الرواي) لفاتحة مرشيد        الحكومة تصادق على إحداث المعهد الوطني العالي للموسيقى والفن الكوريغرافي    معرض بكين للكتاب: اتفاقية لترجمة مؤلفات حول التراث المغربي اللامادي إلى اللغة الصينية    الدوزي يُطلق العدّ التنازلي ل"ديما لباس"    كتل هوائية صحراوية ترفع الحرارة إلى مستويات غير معتادة في المغرب    طنجاوة يتظاهرون تنديدًا بالعدوان الإسرائيلي على غزة وإيران    إصابة حكم ومشجعين في فوضى بالدوري الليبي    فحص دم جديد يكشف السرطان قبل ظهور الأعراض بسنوات    ست ميداليات منها ذهبيتان حصيلة مشاركة الرياضيين المغاربة في ملتقى تونس للبارا ألعاب القوى    بنك المغرب والمؤسسة المالية الدولية يوقعان شراكة لتعزيز الشمول المالي الفلاحي بالمغرب    بنهاشم بعد مواجهة مانشستر سيتي: لعبنا بشجاعة وخرجنا بدروس ثمينة رغم الخسارة    إيران تستهدف مستشفى بجنوب إسرائيل ونتانياهو يتوعدها بدفع "ثمن باهظ"    خدش بسيط في المغرب ينهي حياة بريطانية بعد إصابتها بداء الكلب    السعودية تدعو إلى ارتداء الكمامة في أداء العمرة    التوفيق : تكلفة الحج تشمل خدمات متعددة .. وسعر صرف الريال عنصر حاسم    ورزازات تحدث تحولا نوعيا في التعامل مع الكلاب الضالة بمقاربة إنسانية رائدة    وزير الأوقاف: خدمات واضحة تحدد تكلفة الحج الرسمي وتنسيق مسبق لضبط سعر الصرف    خبير يعرف بالتأثير الغذائي على الوضع النفسي    وزارة الاوقاف تصدر إعلانا هاما للراغبين في أداء مناسك الحج    وزارة الأوقاف تحدد موعد قرعة الحج        







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تأملات في السياسة. حول سوسيولوجيا الاحتفال والحاجة لتحديد المجال وتجديد آليات الاشتغال...؟
نشر في كود يوم 17 - 09 - 2012

إن تحديد مفهوم المجال السياسي ورصد مكوناته وآليات الاشتغال من داخله، في أفق إعطاء تصور منطقي ومجسد لاستقلاله النسبي عن باقي المجالات القريبة أو المشابهة له، يفرض على الباحث الموضوعي، تحديد المنطلقات الفكرية لاستيعاب كل التفاعلات البنيوية والسلوكية للفاعلين في المجال ذاته. من جهة أخرى، تقتضي المقاربة التحليلية لمختلف المكونات والآليات المرتبطة بالمجال السياسي عموما والحزبي على وجه الخصوص، تجاوز المنطلقات المذكورة نحو إعادة تركيب الصورة من جديد وفقا للسياق الثقافي،الاجتماعي والاقتصادي الذي يؤطر وينتج عن الممارسة الميدانية للسياسة، وينجلي بناء على فهمها من طرف الفاعلين في الحقل السياسي أيضا حسب السياق الزمكاني للممارسة السياسية نفسها.
1. تيمة "الشأن السياسي": التمثلات والممارسات
إن أغلب الكتاب والمفكرين وحتى قادة الرأي والفاعلين السياسيين المعاصرين، ينحون في غالبيتهم إلى تقريب " تيمة الشأن السياسي" من مفهوم السلطة. ويتضح ذلك جليا عند كل من لاسويل وروبرت دال بأمريكا، وكذلك عند موريبس دوفرجيه ورايموند ارون بفرنسا، فهؤلاء يتكاملون في مقارباتهم، بحيث يعتبرون أن السياسة في مضمونها العميق، ما هي إلا تجسيد فعلي لممارسة السلطة.

ولنتأمل احد أهم تعابير هذه الفرضية، من خلال محاورة مقولة الباحث الأمريكي روبرت دال حين يقول: "النظام السياسي هو انعكاس وامتداد منظم ومتصارع داخليا كذلك، بين منظومات من العلاقات الإنسانية والمصالح المتضاربة، التي تتضمن موضوعيا في حساباتها احتضان واحتكار السلطة والهيمنة". يرتكز هذا التحديد، أساسا على تشريح "الظاهرة السياسية" كإفراز لخطابات وممارسات وبرامج وأشكال تنظيمية، بالتالي، كجنوح واع أو غير واع بذاته في تجاه احتكار السلطة على اختلاف تمظهراتها الرمزية، المشخصنة، والمؤسساتية، ناهيك عن باقي "الأشكال الشاذة عن القاعدة أو العتيقة" لتمثل السلطة عبر الانتماء للقبيلة والطائفة العرقية والدينية وغيرها..، لذلك فإن رسم حدود المجال السياسي هو أكبر واعقد من تحديد مواصفات الفاعلين فيه، وتحليل ما يروجونه من أفكار وسلوكيات وممارسات. هكذا إذن، يخلص أصحاب هذا الرأي إلى اعتبار كل فعل، رد فعل أو رأي حول الشأن السياسي، يحيل ويلامس عن قرب أو عن بعد، "ظاهرة السلطة".

من جانب آخر، فإن القائلين بهذا الرأي، يتمثلون السلطة كواقع يومي ملموس، وهي تداعب أو تراقب وعي ولاوعي الناس، عبر سعيهم الدءوب لتدبير نسيج معقد من العلاقات والمصالح المؤطرة لتفاصيل سلوكياتهم ومصالحهم ومواقعهم تجاه من يحكمهم، وتجاه بعضهم البعض. والحديث عن هذا المفهوم من الناحية البرغماتية، يؤكد أن " الإنسان كائن سياسي" ويجسد نزوعه الدئم للتحكم والتسلط لحماية نفسه، للتعبير عن حاجياته ولإخضاع الجماعة لرغباته ومخططاته: إنها إحدى سنن الطبيعة البشرية المؤكدة، كما ان الاشتغال بالسياسية كمجال للتباري ولتصريف المواقف والبرامج سعيا لتحقيق المأرب الخاصة والعامة ولتنظيم الناس وتغذية وعيهم الجمعي بالتمثلات والقيم المشتركة، تفيد بان الحياة السياسية تنبني على قواعد وسلط موزعة في سائر المجالات الذهنية، الثقافية والاقتصادية والاجتماعية الأخرى.
إن السلطة بما هي إحساس وانضباط فردي أو جماعي، أو تموقع اجتماعي واقتصادي في البنيات المنتجة والمؤثرة في حياة الناس ومصالحهم في علاقتهم البينية او الواقعة تحت طائلة قوة الردع القانوني والمؤسساتي، تظهر جلية ومحسوسة بعمق أكثر في لدى الفاعلين فوق حلبة الجدال والتنافس الإيديولوجي لكونه احد الحقول الجلية للصراع الطبقي في المجتمع. وبهذا المعنى، فهي أيضا- السلطة- تكثيف نوعي وكمي لمجموع السلط المادية والرمزية الموزعة بجرعات مختلفة ما بين البيت، المدرسة، الشارع، الجمعية، الحزب،الجريدة، التلفاز، الرياضة والفن وغيرها كثير...من التمظهرات والبنيات والأنساق المركبة.
2. ثنائية السلطة والدولة بين التجريد والتجسيد
إن محاولة استفهام الظاهرة موضوع المقال وفقا لمنهج التفكيك التوليدي "déconstruction générative" اعتمادا على ما يقدمه علم الاجتماع السياسي، خاصة إسهامات الباحث الفرنسي ميشال كروزييه في كتابة الشهير "L'acteur et le système "، نجد أن السلطة ليست رديفا للمنظومة الدولتية بامتداداتها التنظيمية وأجهزتها القمعية المتنوعة المرفقة باليات الضبط والهيمنة القانونية، الثقافية، الإعلامية والفنية وغيرها...بل تتعداها لتنفذ إلى وجدان المواطن وعقله وسلوكه، فهي بهذا المعنى، تتحول إلى ظاهرة نفسية بالمفرد، لكنها تعبر عن نفسها كذهنية جماعية لفئة أو شريحة أو طبقة اجتماعية. من هنا يطرح التساؤل الإشكالي حول الشروط والمحددات الاجتماعية والنفسية المتحكمة في زرع وإخصاب "البذور الجنينية للسلطة" عبر مسلسل التنشئة الاجتماعية والتربوية والتعليمية، قبل انعكاسها بشكل منظم أو عشوائي كقرارات، كتعابير تنظيمية، وكممارسات فكرية وتراتبية لدى مختلف البنيات والمؤسسات المشكلة للنسق الدولتي في كل تجلياته.
تبعا لما سلف، يواجهنا تساؤل منهجي آخر لا يقل أهمية وبلاغة، حول إمكانية الحديث عن "السلطة" كبنية ذهنية؟، كظاهرة تاريخية ملازمة للتطور الاجتماعي؟ أم كتمثل وتمظهر لمحصلة عوامل اجتماعية وبنيات ثقافية راكمها الإنسان عبر تطوره، قبل اكتشافه لأسلوب الخطاب السياسي الذي من خلاله يمكن تصريفها وشرعنتها في حياته اليومية وحياة الجماعة التي ينتمي إليها، وبعدها انتقل إلى مرحلة ارقي : إيجاد الصيغ التنظيمية التي ستقود إلى إفراز خطابه القيمي حول السياسة لاحقا "وتقنين عنف الممارسات وتبرير آليات الضبط والرقابة والإخضاع.

و تأسيسا على الجهاز المفاهيمي الذي يتناول هذه الموضوعة بالدرس والتحليل، يمكننا مقاربة السلطة كظاهرة اجتماعية، في تمايز منهجي عن مضمون الخطاب الذي يبررها من خلال تحديد نوعية الفاعلين، والآليات التي تؤسس لها ميدانيا من داخل المجال السياسي. وهذا المعطى نفسه يقودنا إلى التساؤل من جديد، حول مدى صحة القول السائد بأن كل خطاب حول الشأن السياسي أو الفاعلين فيه، هو "قول سياسي" محدد ومضبوط ؟ كما إن الإقرار كذلك بأن السياسة بمفهومها العام، ما هي إلا انعكاس جامد للصراع حول السلطة واحتكارها من طرف الفاعلين في المجال، يعني بالضرورة، اعتماد الطرح الميكافيلي، الذي يعتبر أن الشهية الجامحة والأساسية لرجل السياسة هي امتلاك السلطة أي أن الغاية تبرر الوسيلة... ؟
إن مقاربة جامدة من هذا النوع، قد تقود - في حالة تبنيها وتعميم منطلقاتها، وتبرير غاياتها بغية إسقاطها نظريا على كل الفاعلين في المجال السياسي بشكل مطلق-، إلى جمود في الفعل، وعقم في إنتاج الفكر والخطاب الذي يثري التجارب ويطور الممارسات ويفتح الآفاق أمام التجمعات البشرية المنتظمة في تشكيلات مؤسسية أو عرفية أو فيهما مجتمعتين، بالتالي فإن السياسة تصبح مجرد مرادف للحرب والتأمر والابتذال.. ولو تعمقنا في المفهوم الحقيقي للسياسة بغض النظر عن طموحات الفاعلين السياسيين سواء تلك المشروعة منها أو غير المشروعة في نظر المواطنين، فإن السياسة، تعني أشياء أخرى غير "السلطة" كبعد أحادي وغاية مختزلة، واهم ما يميز مجالات اشتغالها: التزام الفاعل السياسي بالبحث الدائم وبكل الأدوات المتاحة والمشروعة قانونيا عن أنجع الحلول والبدائل لتلبية حاجيات الناس عند تمثيلهم انتخابيا أو لدى تمثل تطلعاتهم نضاليا، وكذلك القدرة على الاستثمار الأمثل لثقتهم في التزامه وادائة الميداني الجاد والمسؤول بغية توسيع القناعات الفكرية والنفسية في أوساط مختلفة كمهمة تاطيرية وتربوية وتنويرية للمجتمع.

فالصراع من أجل الوصول إلى موقع التسيير والقرار، بالتالي امتلاك ناصية "السلطة"، ما هو إلا جانب ومظهر واحد من الحياة السياسية السوية، لأن السلطة تكون هنا مجرد آلية ووسيلة تؤهل السياسي لممارسة السياسة من موقع الفاعل المبدع، المفكر والمجسد لثقافة سياسية بعينها وبضوابط قانونية معلومة، وذات حمولة قيمية معتبرة، ومن خلال نهج سلوكيات متوازنة ومقبولة نفسيا واجتماعيا من لدن عموم المواطنين، وتتوافق والصورة المفترضة والمأمول توفرها في الفاعل كما تتساوق مع مطالب وتطلعات الناس.

وانطلاقا من هذا التصور، فان الفهم الموضوعي والعملي للفعل السياسي يستوجب التعاطي بوعي وحذر من أي خطاب "سياسي" أو "حول السياسة" يقزم المجال بشكل عشوائي، انتقائي وذاتي لترويج بعض المقولات المغلوطة تبريرا لممارسات مشبعة بالنرجسية والفصام والانتهازية ... مفهوما مشوها للسياسة كهذا، إنما هو اختزال الشأن السياسي في كبسولة المصالح والمنافع والاستغلال والابتذال. ولعل خطابات من هذا القبيل خاصة حين يروجها ويروج لها السياسيين أنفسهم، وهم يعتقدون أنهم أكثر دهاء وذكاء ومكرا من باقي الناس ، فإنهم بذلك يعطون صورة عن السياسي كرجل حرب أو كحيوان مفترس يوظف كل أشكال الخديعة والمكر للإيقاع بالناس واصطياد فريسته. فخطاب من هذا القبيل، يفرغ المؤسسات والبنيات المجسمة للهندسة المجتمعية المنظمة من كل معانيها الإنسانية، ويسقط عنها الوظائف النبيلة التي وجدت من أجلها.
3. ثنائية السلطة والسياسة من منظور علم الاجتماع
لقد سعى علم الاجتماع السياسي الحديث إلى مقاربة الظاهرة السياسية وارتباطها العضوي بالسلطة، عبر منظور تحليلي وميداني يوازي بين الآليات والمكونات والخطاب والأهداف، بحيث أن السياسة والاشتغال بها أو بالياتها المختلفة، أصبحت تيمة تتماهى في جل جوانبها العملية مع آليات الاشتغال الميداني للباحث السوسيولوجي نفسه، مع فرق منهجيي بين الغايات التي يتطلع إليها الفاعل السياسي باعتباره مشاركا ومستفيدا من اللعبة السياسية نفسها، في حين يقف السوسيولوجي على مسافة موضوعية من مواضيع الدراسة والاشتغال لكونه راصدا، محللا لسلوكيات الفاعلين ومشتغلا على الأنساق والبنيات المختلفة في انتظامها وتناقضاتها وتساؤلاتها المطروحة... فالسوسيولوجي يشتغل على قضايا المعرفية والامبريقية للمجال وفقا للصرامة المنهجية والعلمية، بينما يشتغل الفاعل السياسي من داخل اللعبة وفقا لأجندته المذهبية، المصلحية أو اللاشعورية.
وتبعا لذلك نتساءل جميعا، ولو من باب تأكيد الافتراض: ترى من هي الجماعة أو من هو الفرد الذي لا يمارس السياسة (يرنو إلى امتلاك السلطة) بمعنى من المعاني ؟ لكن من حقنا كذلك أن نميز جيدا بين السلطة كواقع ملموس وبين مختلف الممارسين لها، إما رمزيا أو من خلال صراعهم للوصول إلى امتلاكها ؟ هل الجنود ؟ هل الحكومة، هل الأساتذة؟ هل أصحاب الشركات ؟ هل المفكرين ؟.. والحقيقة أن كل هؤلاء يمتلكون جزءا من ناصية السلطة بمعناها الرمزي العام، أو لنقل لكل هؤلاء سلطة ما يصرفون من خلالها تمثلاتهم وتصوراتهم وقناعاتهم الخاصة، وتتحدد من خلالها نظرتهم لذاتهم وللآخرين.

فهل كل هؤلاء يعتبرون فاعلين ضمن المجال السياسي، بالمعنى الذي أشرنا إليه ؟ لكن هل الشهية الوحيدة لكل هؤلاء هي تملك السلطة بالمعنى السياسي للكلمة ؟ إن الخلط السائد اليوم لدى غالبية الفاعلين السياسيين أفرادا كانوا أو تجمعات، حول مفهوم السلطة السياسية في أبعادها المختلفة، ومحاولتهم التستر على جهلهم الجزئي أو التام بقواعد وأهداف اللعبة السياسية، هو مصدر إنتاجهم لخطاب سياسي فج ودوغمائي عقيم، لا يستجيب لطبيعة المجال ولا لحاجيات الناس...بالتالي يمارسون نوعا من التخيل اللاشعوري في سياق تبرير كل شيء وبأي شيء وفي كل الأوقات والسياقات: "إنها لعبة الفهلوة والتذاكي المنظم ....أكثر منهما تمثلا صحيحا لمعنى السياسة واشتغالا واعيا بخصوصيات الحقل والقدرة على خدمة الناس والتفاعل مع انتظاراتهم الحقيقية المشروعة.
4.
نحو بناء منهج لسوسيولوجيا الفعل السياسي
لماذا ملحاحية بلورة تعريف سوسيولوجي للسياسة ؟ هذا التساؤل البديهي، كما يبدو ساذجا في شكله، إنما هو إشكالي وأساسي، لكونه لا يهدف إلى إنتاج خطاب سياسي أو حول السياسة لذاتها. إنه تساؤل منهجي يحاول تفكيك الأسلاك الشائكة، التي دأب الفاعل السياسي بقصد أو بدونه، تسييج نفسه ومجال اشتغاله بها،وضحد الهالة الهلامية التي أضفاها بعض الممتهنين على السياسية (la Politique) كحقل لتدبير شؤون الناس وشؤون المدينة، وكذلك لجهلهم أو لتجاهلهم لكنه الشان السياسي (le Politique) بما هو منظومة القواعد والقيم التي تؤطر المجال واللعبة وشروط والولوج وحدود اللاعبين في احترام تام لحقوق الأفراد والجماعات المكونة لجسم "المدينة" أو "الدولة". إن الحديث في واقع الأمر عن أزمة العمل السياسي، لايستقيم في معناه ومراميه بمعزل عن استحضار السياق السوسيولوجي الذي يتحرق فيه الفاعل السياسي نفسه، بالتالي يتوجب النظر إلى الأنساق والبنيات المؤطرة للفعل وللأخلاقيات في اتساقهما مع منظومة القيم الجمعية وتناغمها مع الضوابط والقواعد القانونية والمؤسساتية للدولة نفسها باعتبارها محصلة البناء والتطور التاريخي والنضج الديمقراطي المطلوب في أية عملية سياسية شرعية، مقبولة من غالبية المواطنين وذات مصداقية في تحقيقها لأمن ورخاء المدينة وقاطنيها. لا شك أن سؤال الأزمة ومطلب إعادة التفكير في مشهد الرقعة السياسية، عبر تحديد وضبط قواعد اللعبة مرورا بتجديد الخطاب والأدوات وصولا إلى تنقيح الشأن السياسي من كل ما اعتراه من ترهل وركود ورتابة مما افقده معناه، وأفقد الممارسة السياسية نفسها نبل غاياتها وحيوية مدلولها الإنساني وجدواها المجتمعي على حد سواء.

فإذا كانت السوسيولوجيا تقدم لنا الإمكانيات النظرية والعملية لتحليل الوقائع السياسية والظواهر الاجتماعية، كمواضيع للدراسة والبحث، بغية فهمها ثم تحديد أسبابها وأبعادها، كي تحاول في النهاية الإسهام باقتراح مقاربات ومسالك منطقية جديدة للتأمل والاجتهاد تكون مادة معتبرة و"ذخيرة حية" يتسلح بها الفاعل السياسي بهدف الاشتغال على ذاته أولا، ثم لتجويد الفعل السياسي والارتقاء باللعبة السياسية بما يطور وينمي ويحسن أوضاع الناس ويؤسس لبناء ديمقراطي واع ومتنور للدولة وللمجتمع. فالسياسة في معناها المتكامل، تستوعب المنهج السوسيولوجي إلى حد كبير لكن الإيمان بالفكرة شيء والعمل بمقتضاها شيء أخر ينبغي تداركه... كلا المجالين يشتغلان على المجتمع وبنياته وقضاياه ويتسعان لمختلف التموجات المعرفية والسلوكية التي تشكل وعي الجماعة موضع الاشتغال. فالسوسيولوجي، يسخر معارفه في مسائلة وتتبع إفرازات الواقع في تفاعلاته وانعكاساته عن الأفراد والجماعات، محاولا بذلك رصد الظواهر من منطلق تفكيك ألغازها وإعادة تركيبها في شكل خلاصات أو استنتاجات منطقية، وتقديمها لأهل القرار على شكل مقترحات وشروحات مدققة لما أسفر عنه البحث والتقصي حول قضية أو ظاهرة اجتماعية تستلزم الفهم والحلول.

أما الفاعل السياسي ، فهو ذلك المتبني الشرعي "المفترض" لخلاصات السوسيولوجي،فهو الذي من شانه أن يرتب الأولويات ويصوغ برنامج عمله المحكم، ويقوم بشرحه وبتعبئة المواطنين واستقطاب عطفهم وقناعاتهم حوله، لدعمه ومنحه ثقتهم كي ينوب عنهم في اتخاذ القرارات والتدابير المطلوبة تلبية لحاجياتهم ولحل مشاكلهم اليومية. من خلال هذه الفرضية، تبدو مهمة السياسي تتويجا وتجسيدا عمليا لأبحاث وخلاصات السوسيولوجي، رغم كون الأول يشتغل باعتماده على قوة التأطير والتعبئة الجماعية حول برنامج محدد، لكن الثاني يشتغل بالأساس اعتمادا على قوة الرصد والتتبع والتحليل والمشاهدة والمساءلة. كذلك فإن السياسي يحتاج إلى احتضان قوة السلطة وامتلاك ناصيتها وجعلها جسرا للعبور نحو إنجاز وعوده وبرامجه، في حين يحتاج السوسيولوجي إلى وجود سياسيين، لهم رؤية والتزام بمشروع مجتمعي واضح المعالم. فالاثنين معا يقتسمان الرهان والسلطة والقضية: فهما معا يمثلان ثنائية صوت الدولة في مقابل صوت المجتمع !
الخلاضات:
الدولة كبنية تكثف مفهوم السلطة والمعرفة !
بناء على التساؤل المركزي للمقال، والذي كان غرضه الأساسي لفت انتباه الفاعل السياسي إلى ضرورة استيعاب مجال اشتغاله وتحديد علاقاته الواعية مع باقي الفاعلين في مجالات مكملة، سنحاول طرح بعض الأفكار التي تبرز مكامن القصور في فهم ظاهرة السلطة نفسها، من خلال مساءلة مفهوم الدولة كتعبير مكثف للسلطة السياسية ومبتغاها الأسمى.

وسنحاول بسط هذه المساءلة، على منوال ما جاء به ماكس فيبر من خلال ما أورده في مقاله الشهير حول مهام "رجل العلم ورجل السياسة"le Savant etle politique » «، لأن طموح هذه المقالة المتواضعة تحاول أعادة تركيب نفس الإشكالية وفق سياق محلي خاص يساءل في العمق رجل العلم السياسي le Savant politique » «، ، و"رجل السياسة العالم"» le Politique savant « وهل بالإمكان التوفيق بينهما أو إيجاد صيغ جديدة لتكامل مجالي اشتغالهما خدمة للمجتمع.

فالدولة تقوم، مثل سائر التجمعات السياسية التي سبقتها، أو تلك الإشكال التنظيمية للحياة العامة ، التي مهدت لها تاريخيا، بناء على علاقة سيادة الإنسان على الإنسان، عبر منطق السلطة المبنية بدورها على مبدأ العنف المشروع (سيادة القانون. وباستحضار الحاجة الملحة للمجتمعات البشرية إلى ضرورة التنظيم والتقنين والتوافق والتداول السلمي للشأن السياسي ولمختلف أشكال تدبير السلطة، يمكننا القول بتعذر الكلام عن شرعية الدولة كمفهوم وكبنية ناظمة للمصالح والأدوار والعلاقات المجتمعية، إلا بتوفر شرط المشروعية السياسية لمتمثلة في خضوع الناس للسلطة . بمعنى أدق يصعب الدفع بشرعية العنف الذي تمارسه الدولة كبنية ضابطة للحقوق والواجبات ، في غياب ثبوت مشروعية البناء الدولتي نفسه عبر الآليات الانتخابية الحرة كشكل تنظيمي تمثيلي ينظم العلاقات بين الحكام والمحكومين في كل مناحي الحياة. فكيف تتم عملية الخضوع الطوعي هذه السلطة ؟ ولماذا ؟ وعلى أي مبررات داخلية ؟ وبأي وسائل خارجية تسند هذه السلطة السياسية، ويدبرها رجال السياسة بانتظام ؟

مبدئيا، تقودنا مسألة السيطرة هذه إلى إثارة فكرة الشرعية، وكيف تستقيم هذه الثنائية نسقيا، رغم كونها متعارضة البناء والمعنى ! هناك ثلاث أسباب تبرر منطق السيطرة التي تمارسه الدولة على المجتمع، وبالتالي فهناك ثلاثة أسس للشرعية المذكورة:
1
. نفوذ "الأمس الأزلي" أي نفوذ ورسوخ تقاليد وأعراف وأنماط ثقافية ومظاهر عيش اجتماعية، تكرست صلاحيتها العتيقة من خلال سيادة ذهنيات وأنماط تفكير أجمع عليها الناس لمدة طويلة وحققت لهم الحد الأدنى من التعايش والاستقرار، ونجد هذه السلطة التقليدية نفسها لا زالت حاضرة في المجتمع الحديث كما مارسها الأب الكبير (البطريك أو الشيخ) في قالب الزعيم والبطل والقائد عند القبيلة، أو "الحزب" و"النقابة" و"الجمعية" وغيرها في عصرنا الحديث.

2
. نفوذ "المزايا الشخصية" المرتبطة بفرد ما، من خلال تفرده بصفات خارقة للعادة، لا توجد لدى باقي الأفراد، من علم وجاه وخلق وتفاني، وصبر وجلد وحنكة...إلخ.مما يجعله إنسانا مميزا ومختارا من طرف الجميع لقيادتهم وتسيير شؤونهم وتولي زمام أمورهم، عن قناعة منهم، و يحظى ثقتهم الكاملة في شخصه وسلوكه وقدرته على حل مشاكلهم وإصلاح أحوالهم العامة. وهذا ما يصطلح علية بالسلطة الكاريزمية التي مارسها سابقا رجال الدين والأنبياء، والآن أصبحت من مزايا رجال السياسة الكبار المرموقين، أو باختصار رجال الدولة الأكفاء.
3
السلطة الشرعية المعيارية، وهي التي تفرض نفسها عبر الاعتقاد في صلاحيات وكفاءة الأفراد، من لدن الجماعات المنتظمة (أحزابا، نقابات، جمعيات...) والمستندة أساسا إلى ضرورة توفر معايير شخصية وذاتية، إضافة إلى معايير قانونية ومسطريه محددة وقواعد الاختيار والنقد والمحاسبة.بتعبير آخر، فهي سلطة تستمد شرعيتها من قواعد مبنية على العقل والمنطق والبرغماتية الجماعية، والقائمة كذلك على الاحترام وامتثال الإجابات مقابل تمثل الحقوق.
ولعل هذه الأخيرة هي أرقى أنواع السلط الشرعية التي أبدعتها التجربة البشرية في سياق تطور وعيها وتشبعها بالمثل الرامية لإرساء تسوده الحياة الكريمة، وتؤطره دولة القانون والمؤسسات في تناغم بين الحاكم والمحكوم وتوازن بين الحقوق والواجبات. مجتمع إنساني بقيمه، وحر الإرادة تواق نحو التطور: مجتمع ديمقراطي ومتجدد يقوده ساسة عارفون، ونساء ورجال دولة متشبعين بمثل الحداثة والعقل والإبداع وهم يمسكون بزمام السلطة ويمارسونها باستحقاق، ولكونهم يمتلكون الشرعية والمشروعية كما أسلفنا، يمتثل الناس لهم عن اقتناع وثقة ومحبة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.