كثيرةٌ هي المناسبات التي ترتفع فيها أصواتُ الغيورين على وطنهم والمعتزين بانتمائهم للمغرب؛ يُنددون عبرها بتدني مستوى الخطاب السياسي لدى بعض الفاعلين السياسيين، وخاصة الأمناء العامين، ويطالبون بضرورة تخليق الحياة العامة والارتقاء بالممارسة السياسية التي طالما دعا إليها العاهل المغربي محمد السادس؛ لتحفيز الشباب على الانخراط في العمل السياسي، والمشاركة في الاستحقاقات الانتخابية، وتحمل المسؤولية في تدبير الشأن العام. حيث إنه لم يعد مقبولًا الاستمرارُ في هذه الأجواء من الاحتقان وتدهور الخطاب السياسي. فالخطاب السياسي ببلادنا بلغ خلال السنوات الأخيرة مستوىً من الرداءة والإسفاف حدًّا لا يُطاق، ولاسيما منذ أن قادت الظروف – إبان فترة ما سُمّي إعلاميًّا ب"الربيع العربي" – عبدَ الإله ابن كيران، الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، إلى تولي رئاسة الحكومة إثر تصدُّر الانتخابات التشريعية المبكرة حسب الفصل 47 من الدستور. إذ منذ ذلك الوقت، وهو يكاد لا يتوقف عن استفزاز ليس فقط خصومه السياسيين، بل حتى من يختلف معه في الرأي من إعلاميين وغيرهم؛ مستعملًا في ذلك لغةً سوقيةً تَمْتَحُ من قواميس الحيوانات والرداءة الباعثة على التقزُّز والاشمئزاز... ويكفي هنا العودةُ إلى تلك المعارك الكلامية بينه وبين أحزاب المعارضة، وخاصة الأمين العام السابق لحزب الاستقلال، حميد شباط، عندما كان الرجلان يتبادلان الشتائم والتنابزَ بالألقاب؛ عوض الحرص على أن يشكِّلا نموذجين للرصانة والاستقامة، ويُساهما بإيجابية في التأطير الجيد للمواطنين باعتماد الكلمة الطيبة والسلوك الحسن داخل الحزب وخارجه. أليس كلُّ أمين عام هو مشروعُ قائدٍ للحكومة عند تصدُّر حزبه نتائجَ الانتخابات – كما هو وارد في الدستور – مما يتحتم عليه الظهورُ بما يليق به من أخلاقٍ فاضلةٍ، بدل التوقيع على صورةٍ رديئةٍ عن الفاعل السياسي؟ فكيف لرئيس الحكومة الأسبق، والأمين العام لحزبٍ قاد الحكومةَ لولايتين متتاليتين، أن يسيء إلى رؤساء دول أجنبية دون أدنى تحفُّظ؟ حيث إنه – وفي كلمة أمام أعضاء اللجنة المركزية لشبيبة حزبه، وفق ما هو موثَّق في مقطع فيديو منشور على صفحته الشخصية في "الفيسبوك" – قال بخصوص خطة رئيس الولاياتالمتحدةالأمريكية دونالد ترامب الرامية إلى تهجير فلسطينيي قطاع غزة إلى عدة دول أخرى: إنها "خطة تذكِّر بقانون الغاب"، واصفًا إياه ب"الرئيس المغرور وذي الأفكار الإجرامية". كما لم يسلم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من سَلاطة لسانه خلال تجمُّع خطابي بمناسبة عيد العمال في فاتح ماي 2025؛ حيث أبى إلا أن يتهكَّم عليه ويصفه ب"المدلول" لتأخره في الاعتراف بفلسطين. في حين أن المنطق السياسي والدبلوماسي يقتضي منه استحضار المصلحة العليا للوطن؛ خاصة أن ماكرون واجه غضبَ كابرانات الجزائر، وضَحَّى بمصالح بلاده الاقتصادية حين اختار الاصطفافَ بجوار المملكة، والإعلان عن دعم باريس للمبادرة المغربية حول الحكم الذاتي في الأقاليم الجنوبية تحت السيادة المغربية. ألا يعلم "الزعيم" أن "المتابعة الجنائية في المغرب تكون في حق أي شخص يهين أو يمس برئيس دولة أجنبية" – كما صرَّح وزير العدل عبد اللطيف وهبي خلال رده على مداخلات أعضاء لجنة العدل والتشريع في مجلس النواب، إبان المناقشة العامة لمشروع قانون المسطرة الجنائية أواخر شهر فبراير 2025؟ وفوق هذا وذاك، لم يكتفِ ابن كيران – الذي اعتاد الهجوم ليس فقط على من يعتبرهم منافسين حقيقيين، بل حتى على من يُخالفونه الرأي في الفكر وعَديد القضايا، ومنها "القضية الفلسطينية" – دون أن يأخذ العبرة مما سبق أن أقدمتْ عليه إحدى الجرائد الإلكترونية من إجراءات قانونية؛ بسبب اتهاماته الباطلة بالارتشاء لرئيس تحريرها، ووصفه ب"المأجور" و"قليل الأدب"، عقب حوار أجراه بمدينة فاس مع رئيس المجلس الوطني لحزب "المصباح" إدريس الأزمي الإدريسي. وما خلَّف ذلك التصريحُ الأرعنُ من حملة تضامن واسعة من طرف مختلف الهيئات الصحافية الوطنية. وإنما عاد ثانيةً منتشيًا بانتخابه أمينًا عامًّا للحزب لولاية رابعة؛ مستغلًّا احتفالات الشغيلة المغربية بالعيد الأممي للعمال (فاتح ماي 2025)، ونحن على بعد بضعة أشهر من موعد الاستحقاقات الانتخابية؛ لإفراغ غِلِّه على فئة من المغاربة، ناعتًا إياهم ب"الميكروبات" و"الحمير"، لا لشيء سوى أنهم يرفعون أحيانًا شعار "تازة قبل غزة". علما أن هذا الشعار لا يعني تخلِّيَهم عن مناصرة القضية الفلسطينية – التي ليست حكرًا على الفلسطينيين وحدهم في حماس وغيرها من الحركات، أو جهةٍ ما أو حزبٍ دون آخر – بقدر ما هي قضية كل العرب والمسلمين وجميع أحرار العالم. ناسيًا أنه بهكذا أسلوب أهوجَ يُساهم في تهييج مشاعر المواطنين وإثارة الفتنة بينهم، كما تشهد بذلك مواقع التواصل الاجتماعي حاليًّا، ونخشى أن تمتد شرارتُها إلى الفضاء العام في الشوارع وغيرها... مرة أخرى – ولن تكون الأخيرة ما لم يُوضَع حدٌّ لِغُرور ابن كيران وكبح جماح رعونته في مخاطبة المواطنين واستفزازهم – بعدما انفضَّ من حوله بعضُ الحكماء من قياديي الحزب، ولم يبقَ له من يُسنده عدا "الذباب الإلكتروني" المستعد للقيام بأي شيء خارج القانون. لذلك ارتأى بعضُ الغيورين اللجوءَ للقضاء قصدَ إنصافهم؛ حيث تقدموا بشكاية رسمية لدى وكيل الملك بالمحكمة الابتدائية بالرباط حول تصريحاته التي تمس بشريحة من المواطنين. فهل يجهل رئيسُ الحكومة الأسبق أن الفصول 442/443/444 من القانون الجنائي تُجرِّم توجيه السب العلني للأشخاص والهيئات، وتشتد العقوبة إذا تم ذلك في تجمُّع عام؟