لم تُبق التكنولوجيا المعرفةَ الإنسانية خارج مداهماتها، بل أصبحت مقامَ تلك المعرفة؛ لأنها الحاملُ لعدة الإنسان والناطقُ باسم صلاحيات تهذيبه وتثقيفه. أضافت التكنولوجيا للعالم الخارجي عالماً ثانياً مليئاً بالآلات والتقنيات، على نحو تحولت معه الحياةُ إلى كائن اصطناعي. ففي ظل هذه التحولات، يشقُّ الجيلُ الجديد، بوصفه جيلاً عايش الإبدال الرقمي، طريقاً جديداً يتماشى مع الانفجار المعلوماتي وتأثيره على ما نعيشه. ولعل هذا الأمر يجعلنا في أمسِّ الحاجة إلى نقاش جديد يتماشى وطبيعةَ التقدم التراكمي للثورة التكنولوجية الجديدة، على نحو يستجيب لطموحات الجيل الجديد واحتياجاته. فالجيل الجديد لم يكن بمنأى عن هذه التحولات، بل أضحى يُقَدِّم جانباً وجهياً أو بروفيلاً (Profil) عما يحدث بانخراطه في اجتراح تجربة مخصوصة، وتجريبه أراضٍ جديدة ليحطَّ بحمله عليها ويبنيَ كثافته الخاصة. فإذا كانت الأجيال السابقة قد عملت على خلق كل التطورات التكنولوجية اللاحقة، وعلى إقامة متاريس جديدة لمسلسل تدجين الإنسان وتهذيبه، بناء على شرعية تقنية تؤصل خطاباً معرفياً يجمع بين التكنولوجيا الرقمية، وشبكات الاتصال، والذكاء الاصطناعي، وعلوم الأعصاب... فإن تلك الأجيال لم تتمكن من استيعاب التجليات المتداعية لهذه المساحة المعرفية على الجيل الجديد المسمى بجيل Z. يعيش هذا الأخير ويتواصل بفضل ارتباطه الدائم عبر شبكة الإنترنت، والهواتف الذكية، ووسائل التواصل الاجتماعي... على نحو جعله يدمج ميكانيزمات تكنولوجية تساهم في اتخاذه الفضاءات الافتراضية مستقراً ومسكناً له. على هذا الأساس، يشكل الرحم التقني بؤرة منظور جيل Z ومجمل مشهديته، ليعصف بالحدود الأخلاقية الموروثة للأجيال السابقة، ولينسف كل الثنائيات والتعارضات الكلاسيكية التي وقرت لا شعورياً في أذهان تلك الأجيال. وبذلك حطم الجيل الجديد يقينيات سابقيه ليظهر ارتيابه من الأجوبة الصدئة مخافة الوقوع في مطب قول المقول وتحصيل الحاصل. أضحى هذا الجيل، وفق هذا التصور، سيد نفسه يقوم برسم مساره، وبتجريب اهتماماته، وإظهار احتياجاته بعيداً عن أي ثقافة تسلطية خارجية عن ميولاته. هنا، يطفو تلقائياً سؤال الأسئلة المتمثل في: ما السبيل الكفيل بالفتح الإجرائي لمجال المشاركة التجايلية (بين الأجيال)، والانتقال من التمركز التبريري إلى الاعتراف بحق الجيل الجديد في شق مساره الخاص؟ إن الاعتراف بحق الجيل الجديد المشاركةَ في التجديد هو فعل تأسيس أرضية توافقية تنفي منطق الاستقواء والغلبة القائمين على ادعاء أن هذا الجيل مدلل، وأناني، ومدمن ألعاب فيديو، واتكالي يعتمد على آبائه... إن تجاوز هذا المنطق يقتضي الحاجة إلى رجة سيكولوجية في حق الوقائع التي أثبتت أن جيل Z قد حظي باهتمام مضاعف من المحيطين به، مما دفع أفراده نحو البحث المستميت عن جلب المزيد من الاهتمام به في العالم الافتراضي والواقعي. وهذا الأمر لا يعني نعته بالنرجسية، بقدر ما يوحي برغبته في قيادة التغيير؛ لما يتمتع به غالبية أفراده من تكوين أكاديمي يؤهلهم إلى لعب دور التنويري دون الالتفات أو الاعتراف بوجود نموذج أصلي ثابت. وقد لا نُجانب الصواب، من وجهة نظر من يعتبر هذا الجيل وحضوره المشاغب نسخة مشوهة ومحرفة مقابل الصورة الأيقونة الأصل التي رسمها السلف كمرجع ثابت يحج إليه الخلف ليحاكم موقعه. لكن هذا الجيل وصل لحظة فريدة في تاريخ البشرية تتقاطع عندها العديد من القضايا البيئية والسياسية والاجتماعية وفق منظور عالمي جديد، ونهج مستحدث، وموضوعات طارئة لم يعد من الممكن التفكير معها وبواسطتها إلا عبر خلفية كونية تستحضر الخصوصية. أخيراً لا آخراً، فتح الجيل الجديد فكراً ينبش القضايا المحنطة ويزحزحها عن أمكنتها السابقة. لذلك ستكون أسئلته عامة ومخصوصة تكشف حقيقة ظلت عنها أعين سابقيه غافلة، لأن هذا الجيل وريث تاريخ إشكالي يمتد إلى مضارب السلف. ولعل وعينا بهذا الامتداد سينبهنا جميعاً إلى ضرورة التريث في إصدار أحكام متسرعة والتوجه عوض ذلك إلى اقتفاء وثيرة الحضور المتصف بسلسلة من الشكوك في أفق تحريره من ضيق الأدلجة.