شكّل الحكم القضائي الصادر حديثا عن الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا في ليبيا، وفق مهتمين بالشأن السياسي في هذا البلد المغاربي، والقاضي باعتبار "اتفاق الصخيرات" لسنة 2015 وثيقة حاكمة وملزمة لجميع الأطراف السياسية الليبية، محطة مفصلية في مسار تعزيز ثقة الشعب الليبي في المؤسسات؛ من خلال إعادة رسم الحدود بين المؤسسات المتنازعة على السلطة، وتقييد أي محاولات لخلق مسارات موازية خارج ما اتفق عليه الليبيون. في هذا الصدد، أشاد السياسيان موسى الكوني وعبد الله حسين اللافي، عضوا المجلس الرئاسي الليبي، بمضامين هذا الحكم القضائي، مؤكدين ضمن بيان مشترك أن "ما قررته المحكمة العليا بشأن اتفاق الصخيرات يعزز بصورة مباشرة الشرعية الدستورية لاتفاق جنيف المكمل له، والذي جاء ليتمم اتفاق الصخيرات ويوضح آليات ممارسة السلطة التنفيذية وضوابط التوازن بين المؤسسات وانتقال الصلاحيات". وأضاف البيان أن "الاتفاق السياسي يشكل بصيغته الكاملة، بنصوص الصخيرات وما دعمته شرعية اتفاق جنيف المكمل له، الإطار الدستوري الحاكم والملزم لكل السلطات، والذي لا يجوز تجاوزه أو الانتقاص من قيمته أو الخروج عن حدوده"، مبرزا أن "هذا الحكم التاريخي يضع كل الأطراف دون استثناء أمام مسؤولياتهم القانونية والوطنية، ويفرض على مؤسسات الدولة ممارسة صلاحياتها دون تغوّل أو استفراد". وشدد عضوا المجلس الرئاسي على "ضرورة أن يضطلع مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة بأدوارهما في حدود الإطار القانوني الذي رسمه الاتفاق السياسي، باعتباره المرجعية الناظمة للعلاقة بين السلطات والضامن لتوازنها"، داعييْن في الوقت ذاته جميع القوى السياسية والاجتماعية في البلاد إلى "الارتقاء فوق الخلافات وتقديم مصلحة الوطن واستقراره على أية اعتبارات ضيقة". وتعليقا على هذا الحكم القضائي، قال مجدي الشارف الشبعاني، أستاذ جامعي ليبي وباحث في القانون العام، إن "اتفاق الصخيرات، ومنذ توقيعه في عام 2015، بقي موقعه في هرم الشرعية موضع جدل بين السياسيين والقانونيين والقضاة. فكلما احتدت الخلافات حول المؤسسات أو الشرعية أو المسارات الانتقالية، عاد السؤال حول ما إذا كان الاتفاق السياسي قد ارتقى، بحكم الواقع أو باعتراف القضاء، إلى مرتبة "المصدر الدستوري"؛ ما فتح نقاشا آخر أكثر تعقيدا حول ما إذا تم التعامل مع الاتفاق بصفة دستورية.. فهل تمتد تلك الصفة لتشمل الشق الدولي المصاحب له؟". وأوضح الشبعاني، ضمن منشور له على حسابه الرسمي في "فيسبوك"، أنه "في ضوء التجارب المقارنة ومنطق الفقه الدستوري، فإن أية قيمة دستورية محتملة للاتفاق السياسي ستكون محصورة في الشق الداخلي المتعلق ببناء السلطة وتنظيم المرحلة الانتقالية، ولا تمتد تلقائيا إلى الشق الدولي؛ لأن الدسترة موضوعا تنصرف إلى ما يعبر عن الإرادة الوطنية المؤسسة، بينما العلاقات الدولية تُبنى على التزامات وليست مؤسسات وطنية". وزاد الأستاذ الجامعي ذاته: "أما الإشارات إلى البعثة الأممية والالتزامات الدولية فهي عناصر توافقية وظيفتها دعم المسار السياسي، وليست مكوّنا من مكونات السلطة الوطنية. ولذلك، تبقى في مستوى الالتزام الدولي لا البنية الدستورية. وهذا المنطق ليس خاصا بليبيا فقط، فقد حدث مثله في البوسنة والهرسك". وأبرز الباحث في القانون العام أن "قراءة المحكمة العليا للاتفاق السياسي – سواء اعترفت به كمرجعية عليا أو تعاملت معه كوثيقة تنظيمية – لن تصل إلى حد اعتبار البعثة الأممية جزءا من البناء الدستوري؛ لأن مبدأ السيادة الدستورية يمنع إدراج فاعل خارجي كسلطة وطنية". وكان الاتفاق السياسي الليبي، الذي يُعرف أيضا باتفاق الصخيرات، الموقّع بين الفرقاء الليبيين في المملكة المغربية أواسط شهر دجنبر من العام 2015، قد نصّ على تشكيل حكومة الوفاق الوطني وتعيين رئيس للمجلس الرئاسي وأعضاء هذا المجلس بالإضافة إلى رئيس الحكومة التوافقية. كما هدف إلى وضع حد لحالة الصراع الذي تشهده ليبيا ودعم دور مؤسسات الدولة لضبط الأوضاع الأمنية. وتضمّن هذا الاتفاق مجموعة من الالتزامات التي تقع على عاتق الفرقاء؛ من قبيل: الالتزام بحماية وحدة ليبيا الوطنية والترابية وسيادتها واستقلالها، واحترام مبدأ الفصل بين السلطات الثلاث، وصياغة دستور يلبي طموحات الشعب الليبي، واحترام القضاء واستقلاله والحرص على نزاهته وحياده، إلى جانب احتكار الدولة للحق الحصري في الاستخدام المشروع للقوة، وإلزام الجيش بعدم المساس بالنظام الدستوري وحظر اشتغال الضباط وضباط الصف في العمل السياسي.