التطرُّف الديني يقتل الطفولة، ويغتال روح المجتمع. فكرة جوهرية أوَّليّة نستخلصها بعد مشاهدتنا للشريط الألماني «طريق الصليب» لمخرجه «ديتريش بروغمان». الفيلم استطاع بجرأته وتعريته للمسكوت عنه في ألمانيا انتزاع جائزة أفضل سيناريو في مهرجان برلين السينمائي الدولي في دورته الاخيرة. وتُعَدّ الجائزة اعترافاً بقيمة العمل السينمائي المتميِّز الذي أبدعه الأخوان آنا وديتريش بروغمان. بدأ مخرج الفيلم «ديتريش بروغمان» حياته الفنية بعد دراسته الإخراج السينمائي في أكاديمية السينما والتليفزيون في مدينة «بوتسدام» القريبة من العاصمة الألمانية برلين. كما يشتغل محرِّراً في مجلة سينمائية، ويعيش حالياً في العاصمة الألمانية برلين. بدأ هذا المخرج الشاب أولى أفلامه الروائية الطويلة عام 2006، حين أخرج فيلم «تسعة مشاهد»، قبل أن يخرج فيلمه الروائي الثاني «اركض عندما تستطيع» عام 2010. وفي عام 2012 أخرج فيلمه الثالث «3 غرف نوم، مطبخ وحمام». وهذا العام فاجئ جمهور الفن السابع في مهرجان برلين السينمائي الدولي بفيلمه الجديد والمثير «طريق الصليب». يحكي الشريط عن (ماريا) فتاة تعيش في عائلة كاثوليكية متشدِّدة، تضمّ- إلى جانب الأم والأب- إخوتها الثلاثة والمربِّية ذات الأصول الفرنسية. تأثّرت «ماريا» بشكل ملفت وغريب بخطابات القسّ الذي تقمَّص شخصيته ببراعة الممثِّل «فلوريان ستيتر»، وهو الدور السينمائي الذي أشادت به كذلك الصحافة الألمانية. خطاب القسّ الداعي إلى التضحية في سبيل يسوع المسيح وجد صداه في نفس «ماريا» حين قرَّرت أن تتخلّى عن المتع الدنيوية من أجل التقرُّب أكثر من السماء، وتقدِّم نفسها كقربان في سبيل يسوع المسيح. العائلة المتشدِّدة وظروف صراعها مع أمّها وشروط البلدة الصغيرة، كلُّها عوامل ساعدت (ماريا)على تبني أفكار دينية متطرّفة، كرفض الموسيقى، والإمساك عن الأكل والشرب وطقوس عدة، فكانت ضحية هذا التشدُّد حيث لفظت أنفاسها في المستشفى، فينتهي الشريط بنهاية حياتها. أمّ (ماريا) تصرّ على قهر ابنتها والضغط عليها بشتى الوسائل كمنعها من ممارسة الموسيقى التي لا تتناسب مع أيديولوجيتها الدينية بدعوى أنها موسيقى شيطانية. «ماريا» تتعرَّف على زميل في المدرسة، وتتقرَّب منه حتى عرض عليها فكرة الرغبة في الانضمام إلى كورال كَنَسي» يغنّي فيه هو وزملاؤه أغاني «السول». لكن الأم ترفض الفكرة بعنف، وتصرخ في وجه ابنتها التي، بمُجَرَّد التعبير عن رغبتها في الغناء وممارسة هذا النوع من الموسيقى، تكون قد ارتكبت إثماً في نظرها. إصرار الأم عَبَّرت عنه طيلة الفيلم بلا توقُّف وحتى بعد رحيل ابنتها في المستشفى، فالتطرُّف يعمي القلوب، ويقتل الحُبّ، ويغتال الطفولة. تعيش الأم حالة نفسية غير عادية، فهي تحبّ ابنتها، لكنها في الوقت نفسه تؤمن بمعتقدات أسطورية متشدِّدة، وترى فيها حلّاً يمكن أن ينقذ (ماريا) المُسَجّاة على سرير الموت. تأتي الأم بالقسّ من أجل التبرُّك، لكن بركة القس تتبخَّر في السماء، وتسقط الفتاة على إثرها ضحيّة. لكن الغريب في الأمر هو أن الأم ظلت تحمل الأفكار نفسها حتى بعد رحيل (ماريا) حيث قالت إن «موت ابنتها هو عبارة عن طقس ديني افتدت به ماريا شقيقها المريض، ونالت به بركات الرَّبّ». (ماريا) وجدت نفسها بين عائلة متطرِّفة دينياً وقسّ يخاطب جوارحها بكلامه عن الصلاة وقهر النفس وممارسة الطقوس الدينية القاسية، فقامت بكل شيء حتى لا تسقط في الخطيئة بحسب اعتقادها. وهكذا، انتحرت (ماريا) ببطء أمام أنظار أبيها الذي التزم الصمت طيلة الشريط وأمها الشرسة التي ترفض كل ما لا ينسجم مع تصوُّرها الخرافي للمسيحية. فيلم «طريق الصليب» هو حكاية رسمت خيوطها قراءة دينية مسيحية نعثر عليها في المصادر التاريخية وتحمل الاسم نفسه. وعنوان الشريط يحيل- في المصادر الدينية المسيحية- على تلك الرتبة الطقسية التي تُقام في زمن الصوم الكبير، وفي أسبوع الآلام في الكنيسة أو على الطرقات العامة، وتُقرَأ فيها نصوص صلب المسيح على أربع عشرة مرحلة. وقد التزم المخرج «ديتريش بروغمان» بخلفيات النص الأصلي مقسِّماً مشاهد الشريط الأساسية إلى 14 فصلاً. وحاول المخرج أن يطابق بين حكاية (ماريا) ومِحَنها مع عائلتها ومع نفسها، ومأساة المسيح. لكن (ماريا) تعكس صورة حَيّة عن شباب ومراهقين من كلّ المِلَل والنِّحَل والأديان الذين يضحون بأنفسهم ثمنا لأفكار مدمِّرة، تعبِّر في ظاهرها عن الحق والعدالة، بينما في باطنها تحمل بذور عداء للإنسان. كلام القسّ وشكره لمنتج الفيلم الذي- بحسب رأيه- تجرَّأ على إنتاج فيلم حول هذا الموضوع غير العادي في المجتمع الألماني، يعكس الأيديولوجيات الدينية المتطرِّفة في ألمانيا. ويأتي فيلم «طريق الصليب» لإماطة اللثام عن هذه الظاهرة وتقديم رؤية سينمائية نقدية ذكية للمسيحية في وجهها المتطرِّف. وهذه الجرأة تجعل حكاية الفيلم دليلاً على ما يحمله المخرج والمنتج وكاتِبَي السيناريو من هموم مجتمعية تتعلَّق بما يهدِّد كيان المجتمع الألماني في الوقت الحاضر. قضية الفيلم أثارت الكثير من التساؤلات، وأسالت مداد العديد من الصحافيين الذين تناولوا الفيلم بالمتابعة والنقد في أثناء وبعد نهاية مهرجان برلين السينمائي. *صحافي وسينمائي مقيم في برلين