أخنوش تلاقى وزير الاقتصاد والمالية والسيادة الصناعية والرقمية الفرنسي وبحثوا التعاون الثنائي والإرتقاء بالشراكة الإستراتيجية بين الرباط وباريس    رئاسة مؤتمر حزب الاستقلال تقترب من قيوح .. واللجنة التنفيذية تشعل المنافسة    الدفاع المدني في غزة يكشف تفاصيل "مرعبة" عن المقابر الجماعية    الاتحاد الجزائري يرفض اللعب في المغرب في حالة ارتداء نهضة بركان لقميصه الأصلي    بطولة مدريد لكرة المضرب.. الاسباني نادال يبلغ الدور الثاني بفوزه على الأمريكي بلانش    التحريض على الفسق يجر إعلامية مشهورة للسجن    مهنيو الإنتاج السمعي البصري يتهيؤون "بالكاد" لاستخدام الذكاء الاصطناعي    بعد فضائح فساد.. الحكومة الإسبانية تضع اتحاد الكرة "تحت الوصاية"    بشكل رسمي.. تشافي يواصل قيادة برشلونة    البطولة الوطنية (الدورة ال27)..الجيش الملكي من أجل توسيع الفارق في الصدارة ونقاط ثمينة في صراع البقاء    السلطات تمنح 2905 ترخيصا لزراعة القنب الهندي منذ مطلع هذا العام    بلاغ القيادة العامة للقوات المسلحة الملكية    زنا المحارم... "طفلة" حامل بعد اغتصاب من طرف أبيها وخالها ضواحي الفنيدق    بايتاس ينفي الزيادة في أسعار قنينات الغاز حالياً    الأمثال العامية بتطوان... (582)        بورصة الدار البيضاء تنهي تداولات الخميس على وقع الأخضر    الوزير جازولي يدعو المستثمرين الألمان إلى اغتنام الفرص التي يتيحها المغرب    منصة "واتساب" تختبر خاصية لنقل الملفات دون الحاجة إلى اتصال بالإنترنت    تشجيعا لجهودهم.. تتويج منتجي أفضل المنتوجات المجالية بمعرض الفلاحة بمكناس    نظام الضمان الاجتماعي.. راتب الشيخوخة للمؤمن لهم اللي عندهومًهاد الشروط    "اتصالات المغرب".. عدد الزبناء ديالها فات 77 مليون بزيادة وصلات ل2,7 فالمية    بعد خسارته ب 10 دون مقابل.. المنتخب الجزائري لكرة اليد يعلن انسحابه من البطولة العربية    تراجع حركة المسافرين بمطار الحسيمة خلال شهر مارس الماضي    الزيادة العامة بالأجور تستثني الأطباء والأساتذة ومصدر حكومي يكشف الأسباب    مضامين "التربية الجنسية" في تدريب مؤطري المخيمات تثير الجدل بالمغرب    حاول الهجرة إلى إسبانيا.. أمواج البحر تلفظ جثة جديدة    المعارضة: تهديد سانشيز بالاستقالة "مسرحية"    القمة الإسلامية للطفولة بالمغرب: سننقل معاناة أطفال فلسطين إلى العالم    اتساع التظاهرات المؤيدة للفلسطينيين إلى جامعات أمريكية جديدة    عودة أمطار الخير إلى سماء المملكة ابتداء من يوم غد    ألباريس يبرز تميز علاقات اسبانيا مع المغرب    "مروكية حارة " بالقاعات السينمائية المغربية    الحكومة تراجع نسب احتساب رواتب الشيخوخة للمتقاعدين    في اليوم العالمي للملاريا، خبراء يحذرون من زيادة انتشار المرض بسبب التغير المناخي    خبراء ومختصون يكشفون تفاصيل استراتيجية مواجهة المغرب للحصبة ولمنع ظهور أمراض أخرى    "فدرالية اليسار" تنتقد "الإرهاب الفكري" المصاحب لنقاش تعديل مدونة الأسرة    منصة "تيك توك" تعلق ميزة المكافآت في تطبيقها الجديد    وفينكم يا الاسلاميين اللي طلعتو شعارات سياسية فالشارع وحرضتو المغاربة باش تحرجو الملكية بسباب التطبيع.. هاهي حماس بدات تعترف بالهزيمة وتنازلت على مبادئها: مستعدين نحطو السلاح بشرط تقبل اسرائيل بحل الدولتين    وكالة : "القط الأنمر" من الأصناف المهددة بالانقراض    استئنافية أكادير تصدر حكمها في قضية وفاة الشاب أمين شاريز    العلاقة ستظل "استراتيجية ومستقرة" مع المغرب بغض النظر عما تقرره محكمة العدل الأوروبية بشأن اتفاقية الصيد البحري    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    هذا الكتاب أنقذني من الموت!    جراحون أميركيون يزرعون للمرة الثانية كلية خنزير لمريض حي    حفل تقديم وتوقيع المجموعة القصصية "لا شيء يعجبني…" للقاصة فاطمة الزهراء المرابط بالقنيطرة    مهرجان فاس للثقافة الصوفية.. الفنان الفرنساوي باسكال سافر بالجمهور فرحلة روحية    تأملات الجاحظ حول الترجمة: وليس الحائك كالبزاز    أكاديمية المملكة تعمق البحث في تاريخ حضارة اليمن والتقاطعات مع المغرب    ماركس: قلق المعرفة يغذي الآداب المقارنة .. و"الانتظارات الإيديولوجية" خطرة    كأس إيطاليا لكرة القدم.. أتالانتا يبلغ النهائي بفوزه على ضيفه فيورنتينا (4-1)    عاجل.. كأس إفريقيا 2025 بالمغرب سيتم تأجيلها    قميصُ بركان    لأول مرة في التاريخ سيرى ساكنة الناظور ومليلية هذا الحدث أوضح من العالم    دراسة: تناول الأسبرين بشكل يومي يحد من خطر الإصابة بسرطان القولون    دراسة تبيّن وجود صلة بين بعض المستحلبات وخطر الإصابة بمرض السكري    في شأن الجدل القائم حول مدونة الأسرة بالمغرب: الجزء الأول    "نسب الطفل بين أسباب التخلي وهشاشة التبني"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



'العدل والإحسان' وإشكال الوعي التاريخي 1/2
نشر في هسبريس يوم 21 - 05 - 2011

لماذا تركز"العدل والإحسان" على مسألة "الخلافة" في أدبياتها،مُنطلِقة من الحديث الذي يرويه الإمام أحمد في مسنده عن حذيفة بن اليمان – رضي الله عنه- قال:قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم-: "تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون مُلْكا عاضا، فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون مُلْكا جبرية، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة" ثم سكت[1] ،،ألا يعني ذلك التركيز تهرُّبا من تشخيص "الحالة المغربية"،وعزما على استنساخ أسلوب"عتيق" مضى وانقضى في إدارة الحكم وتنظيمه وجعلِه منتهى الاجتهاد السياسي،ورهنا للتغيير وصلاح الحكم بمزاج الحاكم الفرد،وجهلا بآليات اشتغال "الدولة الوطنية القطرية"،وتماهيا مع الخطاب التبسيطي والتسطيحي لحزب "التحرير الإسلامي" الذي يقيم جل تصوراته على مقولة" الخلافة هي الحل"،وخللا في سلم أولويات التغيير المعاصر، دعونا أولا نستنطق نصوص "العدل والإحسان" حول دواعي تركيزها على مسألة "الخلافة" .أحسب أن تلك النصوص تنتظم الدواعي التالية:
1.متطلبات التصحيح والتغيير وإعادة البناء
إن المقام هنا هو مقام الحديث عن مجال حضاري إسلامي عام له خصائص تميزه عن المجالات الحضارية التي عرفها العالم، وليس مقام الحديث عن المجال الحضاري المغربي الخاص-الذي سيأتي الحديث عنه في إبانه- ، ولذلك فالكلام عن "الخلافة" يكتسي أهميته من اندراجه في خانة الكلام عن المرحلة التأسيسية للمجال الأول،ومن خطورة الأحداث التي ارتبطت في تاريخ المسلمين بالفتنة الكبرى وما تلاها من انقلاب نزع عن "الخلافة" صفة "الرشد" التي أُضْفِيت عليها خلال حكم الصحابة الأربعة الكبار- رضي الله عنهم- :أبي بكر وعمر وعثمان وعلي،ويسمي الأستاذ عبد السلام ياسين تلك الفتنة "انكسارا تاريخيا" ،وينادي بضرورة فهمه "لمن يحمل مشروع العمل لإعادة البناء على الأساس الأول؛ فهم طبيعة هذا الانكسار، ومغزاه بالنسبة لتسلسل الأحداث وتدهورها، فهم الذهنية التقليدية التي تدين بالولاء غير المشروط للسلطان، كيف نشأت، وكيف توارثها الخلف عن السلف، وكيف صنعت أجيالا يسوقها الحاكم المستبد سوق الأغنام،فهم كيف تحجَّرت الذهنية الشيعية على عقيدة إفراد علي كرم الله وجهه وبنيه بالإمامة، وراثة تقابل توارث الملوك العاضين شؤون الأمة "[2]،وبدون هذا الفهم لن يتم تجاوز إشكال الوعي التاريخي "وسيبقى فهمنا لحاضر الأمة ومستقبلها مُضَبَّبا بل مُشوَّشا غاية التشويش إن لم نُدرك أبعاد تلك الأحداث وآثارها على مسار تاريخنا وتَجلجُلِها في الضمائر عن وعي في تلك العهود وبحكم تكوين المخزون الجماعي الذي توارثته الأجيال"[3].،وإن النظرة التقديسية لأحداث التاريخ سَتُعيق كل سعي لإعادة البناء والتغيير،وسنجد حتى في حقل الدعاة الإسلاميين من" يعانون من الذهنية المُتحجِّرة الواقفة على تقديس التاريخ الإسلامي لا تقبل بوجه أن تنظر فيه للعبرة، هذه الذهنية لوقوفها وتَبلُّدِها ورفضها لفهم الماضي أعجز عن تصور مستقبل إسلامي إلا على صورة الإسلام المنشطر المشتت"[4] ،وبالتَّبَع سيكون مشروعهم " محدود الأفق يغتاله الشعور بالمضض والألم لما وقع في ذلك العهد العنيف"[5]،ويدخل النظر التقديسي للتاريخ في باب التقليد البليد لأن" من يُقلد لا يستطيع أن ينتقد "[6].
2.متطلبات توضيح الأسماء ورفع اللبس ومواجهة التزييف
ونقطة الانطلاق في هذا المضمار هو إقامة فروق واضحة وحدود فاصلة بين "الخلافة" و"المُلك".
أولا :على أساس التعريف والتأصيل
فحديث "الخلافة"الذي صدَّرنا به هذه المقالة فهم منه بعض فقهاء السياسة الشرعية أن الأمر يتعلق بإضفاء طابع الشرعية على "المُلك العاض والجبري" لذلك لم يروا بأسا في إطلاق اسم "المُلك" على"الخلافة" أو العكس،بينما رأى آخرون أن الأمر يتعلق بتحذير من كوارث سياسية ستقع في تاريخ المسلمين،وهذا الفهم هو الذي تؤيده وقائع التاريخ وسياق النص الحديثي الذي يميز بين الاسمين،واعتبر الأستاذ عبد السلام ياسين القول بانتفاء التمييز كِذبة انطلت على الأجيال؛فقد" اعتاد الناس أن يسمعوا عن الخلافة الأموية والعباسية وهلم جرا، وعاشوا على سراب الأسماء دون فحص ناقد للمسميات،سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم مُلْكا عاضا ومُلْكا جبريا وسماها "المؤرخون" الرسميون خلافة"[7]،ويبرز الفرق بين "الملك العاض" و"الملك الجبري"؛فالملك العاض هو" الذي يعض على الأمة بالوراثة وبيعة الإكراه"[8] ،والملك الجبري هو "القهر الجبري أي الدكتاتوري بلسان العصر"[9]، ويعتبره أفظع من العاض"لأن الجبر إن كان يلوح بشعارات الدين كما كان يفعل الملك العاض فقد أفرغ أجهزة الحكم والإعلام والتعليم وأفرغ قوانين الحكم من كل معاني الإسلام"[10] ،ونظر ابن خلدون إلى التمييز من زاوية "فلسفة المصلحة" و"مقتضى النظر" فقال:" إن المُلك الطبيعيَّ هو حمل الكافة على مقتضى الغرض والشهوة، والسياسي هو حمل الكافة على مقتضى النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار، والخلافة هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها، إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة، فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به"[11] لكنه في معمعان التحليل للوقائع لم يكن يقيم تمييزا واضحا بين "الخلفاء" و"الملوك" كما هو الشأن عند إبدائه لموقفه من "خروج" الحسين رضوان الله عليه.
ثانيا: على أساس التكييف والتنزيل
لقد كان التمييز بين"الخلافة" و"المُلك" حاضرا بوضوح في عقول الصحابة رضي الله عنهم،فسلمان الفارسي عندما سأله عمر:أمَلِك أنا أم خليفه؟ أجابه قائلا:" إن أنت جَبَيْت من أرض المسلمين درهما أو أقلَّ أو أكثر، ثم وضعته في غير حقه، فأنت ملك غير خليفة"،وقال له صحابي آخر:" يا أمير المؤمنين! إنَّ بينهما فرقا. قال: ما هو؟ قال: الخليفة لا يأخذ إلا حقا، ولا يضعه إلا في حق. وأنت بحمد الله كذلك. والمَلِك يعْسِف الناس فيأخذ من هذا ويعطي هذا"[12]، ودخل سعد بن مالك على معاوية بن أبي سفيان فحياه قائلا: "السلام عليك أيها المَلِك، فغضِب معاوية فقال: ألا قلت السلام عليك يا أمير المؤمنين؟ قال سعد: ذاك إن كنا أمَّرناك، إنما أنت مُنتَز".[1] وبذلك يظهر أن اسم"الخلافة" يتنزل على معاني احترام حقوق الإنسان،واحترام المال العام،والتصدي للحكم باختيار حر من الناس،وعلى أضداد هذه المعاني يتنزل مفهوما "الملك العاض والجبري" من نهب للمال العام والتلاعب به واحتكار للثروة ،وانتهاك لحقوق الإنسان،واستبداد ومصادرة لحق الناس في اختيار من يحكمهم،وإلى معاني التمييز بين "الخلافة" و"الملك" نظر حديث الدكتور محمد عابد الجابري- رحمه الله- عن "حقائق حول الخلافة في الإسلام" فذكر منها " والحقيقة الخامسة أن لقب "الخليفة" كان مرتبطاً بالبيعة بعد الشورى، أي مرهوناً باختيار كبار القوم (أهل الحل والعقد)، وهذا لم يكن ينطبق إلا على الأربعة الأُوَل"[13]، وحديثه أيضا عما أصاب "العقل السياسي العربي" ابتداء من الدولة الأموية مرورا بالعصر العباسي وصولا إلى واقعنا السياسي المعاصر من أزمات جعلت ذلك العقل مُنحبسا في ثُلاثية: أيديولوجيا الجبر الأموي ، وأيديولوجيا التكفير الخارجي،وميثولوجيا الإمامة الشيعية[14]،وهذا تحليل دقيق لم يَرْق إليه تحليل عبد الله العروي الذي اعتراه اضطراب واضح وهو يتكلم عن "الخلافة" فاعتبرها نوعا من"الطوبى" لأنه لم يهتد إلى العلة الحقيقية التي تُميزها عن "المُلك"،ففي سياق رده على المستشرق "هاملتون جيب" الذي ربط العلة بالجهاد بمعناه الحربي،أفاد العروي بأن العلة هي تطبيق الشرع ومقاصده،أي أن الدولة في "الخلافة" تكون في خدمة الدين،وفي"الملك" يكون الدين في خدمة الدولة[15]،وهذا التعليل إن كان في جانب منه صحيحا فإنه تغافل عن العلة الحقيقية والرئيسية والمرتبطة بقضية "الشرعية" وهي حرية الناس في أن يختاروا من يحكمهم،وكأنه استكثر على المسلمين أن يكون عندهم وعي بتلك القضية في ذلك الوقت المبكر،وتفعيلا للتمييز كان الأجدى بالعروي وبغيره من مؤرخين معاصرين آخرين أن يُلْصِقوا نُعوتهم القَدْحية والتَّهَكُّمية ب"المُلْك" لا ب"الخلافة".
إن عدم إقامة التمييز الذي تكلمنا عنه من شأنه أن يُشوِّش على الفقه السياسي الذي تتطلبه المرحلة الراهنة لمواكبة التطورات الثورية المتلاحقة في عالمنا العربي والإسلامي،لأننا " بإعزازنا للمُلْك العاض الماضي نُعِز المُلْك الجبري الحاضر"[16]،وهو إعزاز يَتبدَّى في مقولات من قبيل:إن المَلَكِيات هي قَدَرنا في الأردن والمغرب والسعودية والبحرين...،وسنجد"من ينشد ضالته عند النموذج التليد على عهد هارون الرشيد،لا ينتبه لحظة أن هذا المَلِك العظيم حقا في ميزان الدنيا، ليس في ميزان الإسلام وعلى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مَلِكا عاضا يَجْرحه عَضُّه ويُسقِطه عن مرتبة الاعتبار الشرعي"[17]،وسنجد أيضا من يهيم" على وجه الآمال الحالمة بأمجاد العباسيين وشوكة آل عثمان، رحم الله الجميع، فيقبع في سجن الأمية التاريخية"[18]،ومن أبناء الحركة الإسلامية من " يفكرون ويوصون ويجتهدون في حدود نمط الحكم الأموي، والمجد العباسي، والشوكة العثمانية، والفقه الفروعي، والعقيدة الجدلية عند علماء الكلام، والدفاع بلا تمييز عن تاريخ المسلمين يحسبونه تاريخ الإسلام"[19]،ويحسِبون هذا الضرب من التفكير تعديلا لكفتي ميزان الأصالة والمعاصرة،والحقيقة أنها أصالة غامضة بمقتضاها "يتمسك بعض الإسلاميين بمقطوع منقوض، يتمسكون بنموذج المجتمع المنحل والنظام الحُكْمي المذموم شرعا، فلا هم تمكنوا من النقد الضروري المُتبصِّر للذات، ولا هم استطاعوا عرض مشروعهم المستقبلي على النّمَوْذج النبوي القرآني متجاوزين إغراء البريق الحضاري المجيد الذي اقترن بالمُلك العاض ثم الجبري"[20]، ولقد كان من الملوك أفاضل لكنهم كانوا" يَعْبرُون المجال ويبقى النظام بعدهم مستمرا لا فكاك منه"[21].
إن وضع معايير دقيقة لتحقيب تاريخنا الإسلامي على أساس التمييز بين فترات"الرشد" و"السفه" في الحكم سيسهم أولا: في وضوح الرؤية التاريخية والسياسية،ويساعد ثانيا على الانخلاع من ربقة التقليد البليد،وثالثا:يمد أي حركة في الواقع المعاصر بعناصر الجدوى والفاعلية؛وحديث"الخلافة" الذي صدرنا به هذه المقالة يمكن أن يتخذ منطلقا لتحقيب لا يستغني عن عمليتي تطوير وتحيين،ويستغني عن التحقيب الأوروبي- مثلا- الذي يقسم تاريخ العالم العام إلى :العصر القديم والعصر الوسيط والعصر الحديث،وهو تقسيم وفي "للمركزية الأوروبية" ولا يراعي الخصوصية العربية والإسلامية،فالمراحل التي نبه عليها الحديث خمسة:النبوة والخلافة الأولى على منهاج النبوة والملك العاض والملك الجبري والخلافة الثانية على منهاج النبوة،وهذا التحقيب جاء مطابقا للواقع التاريخي الذي عاشه المسلمون،ولا فائدة من تغطية شمس هذه الحقيقة بغربال الإنكار،
- فالنبوة أخرجت الناس من ظلمات الشك والشرك والخرافة والحيرة والتردد والجهل والعنف والعصبيات إلى نور التوحيد والعلم والإيمان وتحرير الناس من كل أشكال الاستعباد وتعبيدهم لرب العالمين فقط،ولأن الأنبياء لم يبعثوا ليبنوا دولا تحكمها عائلاتهم، ولا ليراكموا الثروات،فإن رسول الله – صلى الله عليه وسلم- توفي ولم يستخلف ولم يورث حكما لأحد،ولم يورث درهما ولا دينارا،وإنما ورث العلم ،وعهد بمسؤوليات القيام على شؤونه إلى العلماء"العضويين"(الربانيين) بمقتضى الحديث الصحيح"العلماء ورثة الأنبياء".
- ثم عمل الخلفاء الراشدون ما وسعهم الجهد على اقتفاء تراث النبوة بفهم بشري وقلب منطو على حب الله وحب الناس وخدمتهم،وماتوا كلهم ولم يستخلف أحد منهم،وما صدر عن بعضهم هو مجرد ترشيح لا يتم إلا "بالبيعة العامة" من الناس.
- ثم وقع بعد الانقلاب على الخلافة الراشدة على يد أول ملوك بني أمية،وابتدأ"الملك العاض" الذي اعتبر"أعظم بدعة في التاريخ الإسلامي"،واستمر إلى آخر ملوك "بني عثمان".
- ومع أولى الاختراقات الاستعمارية بدأت ملامح"ملك جبري"و"جمهوريات قهرية" تتشكل وتتخلق،وأدى تجمُّل بعض النخب بالنضال التحريري من أجل الاستقلال إلى ظهور "الحزب الوحيد" في جل الدويلات القطرية،فصادر حريات الناس في اختيار من يحكمهم،ومَنَّ عليهم بالغذاء والدواء والهواء،واستوت في ذلك "الملكيات" و"الجمهوريات".
إن هذا التحقيب ليس قبليا ولا سلاليا،ولا قارا سكونيا ،وإنما هو تحقيب يدور حول معني"الرشد" الديني والسياسي وجودا وعدما،ولم يبعد الأمين العام للحركة السلفية العلمية في الكويت الدكتور حاكم المطيري عن هذا المعنى عندما اعتمد شكل "الخطاب السياسي الشرعي" كمعيار لتحقيب التاريخ الإسلامي الذي عرف – حسب المطيري- ثلاثة أنواع من الخطاب السياسي الشرعي،وكل نوع ساد في مرحلة من مراحل ذلك التاريخ،
أولا:يسمي الخطاب السياسي الشرعي الذي ساد في عهد النبوة والخلافة الراشدة "خطابا سياسيا شرعيا منزلا" ،وأهم مبادئ هذا الخطاب هي:"1. ضرورة الدولة للدين وأنه لا دين بلا دولة،2.ضرورة إقامة السلطة وأنه لا دولة بلا إمام،3.ضرورة عقد البيعة فلا إمامة بلا عقد،4.إنه لا عقد بيعة إلا برضا الأمة واختيارها،5.لا رضا بلا شورى بين المسلمين في أمر الإمامة،6.إنه لا شورى بلا حرية،7.إن الحاكمية والطاعة المطلقة لله ورسوله،8.تحقيق مبدأي العدل والمساواة،9.حماية الحقوق والحريات الإنسانية الفردية والجماعية وصيانتها"[22].
ثانيا:بتولي الأمويين الحكم ظهر ما سماه الدكتور المطيري"الخطاب السياسي الشرعي المؤول"،وأصبح الذين يصدرون عن هذا الخطاب يحتجون لتوريث الحكم ومصادرة حق الأمة في اختيار من يحكمها بنصوص ووقائع من"الخطاب السياسي الشرعي المنزل" بالتعسف في تأويلها كقياس البيعة ليزيد على عهد أبي بكر لعمر،وأفاد الدكتور المطيري أن الصحابة الفقهاء"رفضوا هذا الخطاب السياسي الجديد القائم على التأويل...وأدركوا خطورة هذا الخطاب،وتمسكوا بمباديء الخطاب السياسي الراشدي،وهو أن الأمر للأمة تختار من ترتضيه لقيادتها،وأن الأمر شورى بين المسلمين،وأن ما جاء به بنو أمية إنما هو سنة هرقل وقيصر،لا سنة رسول الله وأبي بكر وعمر"[23] ونبه على أهم معالم الخطاب المؤول فذكر منها :"1.مصادرة حق الأمة في اختيار الإمام وتحول الحكم من شورى إلى وراثة،2.مصادرة حق الأمة في المشاركة والشورى،3.غياب دور الأمة في الرقابة على بيت المال،4.تراجع دور الأمة في مواجهة الظلم والانحراف"[24]
ثالثا:انتهت مرحلة الخطاب السياسي الشرعي المؤول بنهاية"الخلافة العثمانية" ،وهذا الخطاب"إذا كان قد حافظ على بعض مباديء الخطاب المنزل كإقامة الملة بتحكيم الشريعة وصيانتها،وحماية الأمة بإقامة الجهاد والذوذ عنها،والمحافظة على وظيفة الخلافة ،حتى وإن كانت صورية لكونها رمزا لوحدة الأمة ،فإن الخطاب في المرحلة الثالثة قد تجاوز ذلك كله ،وبدأ التراجع حتى عن هذه المبادئ تدريجيا،حتى بلغ الانحراف ذروته في أواخر العصر العثماني باستجلاب القوانين الوضعية من أوربا ،ثم بوقوع الأمة الإسلامية كلها تحت الاستعمار الغربي،حيث تمخض ذلك عن ولادة الخطاب السياسي الشرعي المبدل "[25].
3- فقه جذور الاستبداد
...
يتبع
الهوامش
***
[1] - أي توليت الحكم من غير رضا الناس ،تاريخ اليعقوبي، 2/ 217.
[1] مسند الإمام أحمد 6/384،وأورده الألباني في "السلسلة الصحيحة/5".
[2] عبد السلام ياسين،نظرات في الفقة والتاريخ،ص 26
[3] نفسه
[4] نفسه ص 29
[5] نفسه ص 31
[6] عبد السلام ياسين،الخلافة والملك،ص 57
[7] نظرات في الفقه والتاريخ ص 10
[8] المنهاج النبوي/12
[9] نفسه
[10] نفسه،ص 13
[11] المقدمة
[12] طبقات ابن سعد
[13] "الاتحاد"الإماراتية 28/9/2009
[14] الجابري ،العقل السياسي العربي،ص 310
[15] عبد الله العروي،مفهوم الدولة،ص 100 وما بعدها
[16] النظرات ص 11
[17] نفسه
[18] نفسه ص 12
[19] نفسه ص 43
[20] العدل ص 40
[21] ياسين،الخلافة والملك،ص 59
[22] د.حاكم المطيري،الحرية أو الطوفان ص 363
[23] نفسه ص102
[24] نفسه ص 364
[25] نفسه ص 269


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.