كان كفيفا. لا يرى بعين الرأس، ولكن عين القلب كانت تنفذ إلى ما تحت الحمراء وما فوق البنفسجية! وقد أبدع صاحبنا الفنان موسيقى تصويرية لعشرات الأفلام والمسلسلات.. والسينما هي فن الصورة المتحركة. وإنما تعبر الموسيقى التصويرية عن المشهد الماثل تحت البصر.. ومبدعنا لم يكن يرى! وليست الموسيقى التصويرية لحنا غنائيا وانتهى؛ ولكنها خلفية المشهد السينمائي، وهي تعبر عن مشاعر اللحظة المرئية. وأبعد من ذلك، فإن مقاطع الموسيقى التصويرية محسوبة بالثواني وينبغي أن تناسب الانتقالات الحاصلة في تتابع المشاهد.. ويحتاج كل ذلك - كما ترى - إلى حاسة البصر.. ولكن الموسيقار عمار الشريعي قدم غاية الإبداع في مجال إبداعه وقد كان كفيفا! إن ذلك لا يقبل من الأوصاف، ولا يحتمل من النعوت سوى صفة وحيدة هي العبقرية.. تتدفق أحاسيسه من موسيقاه، دافئة وعميقة ومستوعبة. كأنها قادمة من عوالم مألوفة وغريبة في الآن ذاته. وإنك لتشعر حين تسمعها بأنها آتية منك أنت.. من غور بعيد في نفسك لم تكتشفه بعد.. وإنما عرفته حين أرهفت السمع لنفسك في موسيقاه! والحقيقة أنني أتوسل بالرجل لأطرق موضوعا قريبا. ولو فعلت بالرشاقة والانسيابية المطلوبة لكان ذلك مندرجا في الخانة البلاغية الموسومة ب"حسن التخلص"؛ ولكن الحديث الشائق عن الموسيقار عمار الشريعي أحاله استطرادا. وهذه فنون بديعية برع فيها صاحبنا الفنان، ليس في اللغة؛ ولكن في الموسيقى. وأنت لا تشعر إلا وقد نقلك، برشاقة أخف من الهواء، من مقام إلى مقام، ومن إحساس إلى إحساس.. ثم يسوقك سوقا إلى ارتياد نسيجه الإبداعي المتفرد، على ما فيه من الوحدات النغمية والجمل والمقامات.. ولكنها نسيج فني واحد! وهذا هو "حسن التخلص" الأدبي على الطريقة الموسيقية! إن الآليات والأدوات الإبداعية عابرةٌ لكل الأجناس الأدبية والفنية. ولا مشاحة في الألفاظ.. فهي انتقال في الموسيقى وهي حسن تخلص في الأدب. وهما سيان. وملاك الأمر في التدفق النغمي وفق إيقاعية متغيرة ومتكاملة، وفي تدفق الكلمات على الصفة ذاتها. وفي السينما يحدث شيء قريب من ذلك، فإن الانتقالات الناعمة بين المشاهد هي التي تمنح الشعور بأن الفيلم هو وحدة كاملة ومتكاملة. وإلا فإن المُشاهِد يضيع في الجزئيات وقد يشعر بأن ثمة افتعالا في الانتقال من مشهد إلى آخر، فيفقد البوصلة. وهذه مهنة السيناريست والمونتير. وهي أيضا مهنة الفنان الذي يعد الموسيقى التصويرية؛ لأن ترتيب المشاهد بانتقالاتها السلسلة والمقنعة يمنح للفيلم إيقاعه الخاص. والموسيقى التصويرية إيقاعٌ يلتئم بإيقاع الفيلم، وينسجم معه ويضفي عليه سحره الخاص؛ بل إنها قد تكون أداة الانتقال بين مشهد وآخر.. وهذا حديث قد نعود إليه.. أما مبدعنا الكبير عمار الشريعي فقد ترك إرثا موسيقيا لافتا، لعل أكثره شهرة ما ارتبط بأفلام سينمائية ومسلسلات تلفزيونية. وهي صناعة معقدة، تطلبت منه استدعاء التركيز الهائل والمشاعر المرهفة والعمل لساعات طويلة كل يوم.. ولعل منحته كانت في محنته؛ فقد ارتقى الرجل قمة الفن بموسيقاه الخالدة، وسيظل!