افتتاح كأس الأمم الإفريقية بالمغرب: حدث قاري يكشف خلفيات العداء السياسي    بلاغ مشترك توقيع اتفاقية إطار للشراكة والتعاون بين المجلس الأعلى للسلطة القضائية ومؤسسة أرشيف المغرب تهم حفظ الذاكرة القضائية    تراجع عن الاستقالة يُشعل الجدل داخل ليكسوس العرائش لكرة السلة... وضغوط في انتظار خرجة إعلامية حاسمة    ميسور: حملة واسعة لتوزيع المساعدات الإنسانية لفائدة الأسر بالمناطقة الأكثر هشاشة بجماعة سيدي بوطيب    ماذا تريد الدولة من اعتقال الأستاذة نزهة مجدي؟    بصعوبة.. مصر تفوز على زيمبابوي 2_1 في أول ظهور بالكان        مقاييس الأمطار المسجلة بالمملكة خلال ال 24 ساعة الماضية    نيويورك.. زهران ممداني يفاجئ مشجعي أسود الأطلس في مطعم مغربي    تحضيرات المنتخب المغربي تتواصل استعدادا لمباراة مالي    إعادة تنظيم المجلس الوطني للصحافة تقترب من الحسم البرلماني    موندو ديبورتيفو تشيد بحفل افتتاح كان 2025 بالمغرب        حموشي يقرّ صرف منحة مالية استثنائية لفائدة جميع موظفي الأمن الوطني برسم سنة 2025        بركة: دراسة ترسي حماية جديدة لآسفي.. ونراجع المناطق المهددة بالفيضانات    الحسيمة.. حادثة سير خطيرة على الطريق الوطنية قرب بني عبد الله    الارتفاع ينهي تداولات بورصة الدار البيضاء    نشرة انذارية جديدة تحذر من تساقطات ثلجية كثفة وامطار قوية    إقليم ميدلت.. تعبئة ميدانية للسلطات تنقذ خمس عائلات من الرحل حاصرتها الثلوج بجماعة أيت يحيى    في ندوة وطنية بأزمور لمختبر السرديات: الخطاب والمرجع في النقد المغربي    «لماذا يخطئ المثقفون» صامويل فيتوسي الانحياز الفكري والأخلاقي أمام امتحان الحقيقة    مجموعة «فوضى مورفي» للكاتبة خولة العلوي .. شغف ووعي ورغبة في كتابة نص مختلف    نبض بألوان الهوية المغربية والإفريقية: عرس كروي رفيع المستوى في افتتاح الكان        تصنيف فيفا .. المغرب يحافظ على المركز 11 عالميا    ختام السنة برياض السلطان تروبادور غيواني بادخ    يومية "آس" الرياضية الإسبانية: براهيم دياز.. قائد جديد لجيل واعد    انتقادات حقوقية لتراجع تصنيف المغرب في تنظيم الأدوية واللقاحات    تحقيق ل"رويترز": في سوريا الجديدة.. سجون الأسد تفتح من جديد بمعتقلين جدد وتعذيب وابتزاز    أزيلال .. القوات المسلحة الملكية تطلق خدمات المستشفى العسكري الميداني بجماعة آيت محمد    ريدوان يطلق أولى أغاني ألبوم كأس أمم إفريقيا "ACHKID"    توقعات أحوال الطقس غدا الثلاثاء    الذهب يسجل مستوى قياسيا جديدا مع توقع استمرار خفض الفائدة الأمريكية    خطر صحي في البيوت.. أجهزة في مطبخك تهاجم رئتيك    المغرب يضع "الكان" في الصدارة عالميًا        نهائيات كأس إفريقيا للأمم تعيد خلط أوراق العرض السينمائي بالمغرب    رغم انخفاضها عالميا.. المحروقات بالمغرب تواصل الارتفاع والمستهلك يدفع الثمن    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الاثنين    تيسة تحتضن إقامة فنية في الكتابة الدرامية والأداء لتعزيز الإبداع المسرحي لدى الشباب    ارتفاع أسعار النفط    انقلاب حافلة يودي بأرواح 16 شخصا في جزيرة إندونيسية    سعر الذهب يسجّل مستوى قياسيا جديدا    تفاصيل جديدة بشأن "مجزرة بونداي"    إعلام إسرائيلي أمريكي: نتنياهو يسعى لتفويض من ترامب لمهاجمة إيران    وفاة الممثل الأمريكي جيمس رانسون انتحارا عن 46 عاما    اغتيال جنرال روسي في انفجار قنبلة    الاستيطان يتسارع في الضفة الغربية ويقوّض فرص قيام دولة فلسطينية    مشروبات الطاقة تحت المجهر الطبي: تحذير من مضاعفات دماغية خطيرة    العاصمة الألمانية تسجل أول إصابة بجدري القردة    السعودية تمنع التصوير داخل الحرمين خلال الحج    من هم "الحشاشون" وما صحة الروايات التاريخية عنهم؟    منظمة الصحة العالمية تدق ناقوس انتشار سريع لسلالة جديدة من الإنفلونزا    سلالة إنفلونزا جديدة تجتاح نصف الكرة الشمالي... ومنظمة الصحة العالمية تطلق ناقوس الخطر    استمرار إغلاق مسجد الحسن الثاني بالجديدة بقرار من المندوبية الإقليمية للشؤون الإسلامية وسط دعوات الساكنة عامل الإقليم للتدخل    سوريا الكبرى أم إسرائيل الكبرى؟    الرسالة الملكية توحّد العلماء الأفارقة حول احتفاء تاريخي بميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أزمَة إنتاج العَدَالة.. ردا على "أزمة تلقي العدالة"

بفرنسا لما انتفض قلم إميل زولا (Emile Zola) قبل أكثر من قرن سنة 1898، وهو يوجه رسالته "J'accuse" إلى رئيس الجمهورية الفرنسية F. FAUR والتي نشرت بجريدة L'AURORE دفاعا عن القبطان درايفوز" DREUFUS A وانتقادا قويا لمؤامرة عنصرية وقضائية، لم يكن أحد يتوقع أن الرسالة التي توبع صاحبها كذلك ستخلق حدثا تاريخيا وأزمة سياسية في حياة الجمهورية الثالثة وداخل المؤسسة العسكرية والقضائية وستعري ما تسترت عليه المناورات وأخفاه التزوير وإتلاف وثائق وحجج تبرئ المعني بالرسالة، قبل أن تظهر الحقيقة وفصل صاحب الرسالة في كشفها، أي قبل أن يحسم رئيس الجمهورية بالتوقيع على صك العفو وقبل أن يُقبل طلب درايفوز لمراجعة الحكم لتحسم في النهاية محكمة النقض الفرنسية للمرة الثانية بإعادة الاعتبار إلى القبطان درايفوز ويمنح له وسام الشرف، وفي النهاية يفتح لإميل زولا ولرسالته باب الاعتراف التاريخي الكبير ولتسجل محاكمة درايفوز بسجل أكبر الأخطاء القضائية بالقرن العشرين، ألا تظن زميلي الأستاذ الوردي أنه ما أحوجنا اليوم لرسائل مثل رسالة زولا لتنبهنا وتنبه قضاتنا إلى أزمة إنتاج العدالة قبل أن تنبه متلقي العدالة؟
وعندنا بالمغرب لما نشر الأستاذ حكيم الوردي مقاله "أزمة تلقي العدالة" بجريدة إلكترونية منذ أيام، ووقعه بصفته عضوا بنادي قضاة المغرب، وهو في الوقت نفسه، وكما يعلم المهنيون والمتقاضون، نائب الوكيل العام للملك بمحكمة الاستئناف بالدار البيضاء وممثلا للنيابة العامة بهيئة المحكمة التي أشرفت على محاكمة معتقلي حراك الريف، انتَبهتُ إلى المقالة ربما لوحْدي، لا أدري....، تساءلت مع نفسي وأنا أقرؤها عن وَقعِهَا المُحتمل وعن الصدى المنتظر الذي يمكن أن تخلفه رسالة قاض شاب يتمتع، فضلا عن خصال إنسانية كما هو مفترض في كل قاض، بجرأة في الكلام من منصة النيابة العامة وباهتمام ووَلع بمساطر البحث البوليسي وبمحاضر الضابطة يُعارض من يعارضها ويغضب حين القدح في صحتها ومصداقيتها، يَعشق الاعتقال ويُحب أحكام السجن وهو في ذلك يُمثل الدور الذي هو للنيابة العامة في دول عديدة مثل المغرب، أي دور الدفاع عن صناعة عدالة قضائية على المذاق والدفاع عن إجراءات محاكمات تُوصل بسرعة للإدانة. ومن هذا التدريب اليومي استطاعت النيابة العامة أن تفرغَ ما يقرب من أربعين ألف معتقل احتياطي بالسجون دون أن يحاسبها أحد عن أزمة العدالة الجنائية التي يتلقاها المرتفقون ويُنتجها القضاء الجنائي، فهل خطر على بال الأستاذ الوردي أن يتحدث عن أزمة يشارك فيها وتشارك في إنتاجها مؤسسة النيابة العامة قبل أن يتحدث عن أزمة تلقي العدالة؟.
وقد اعتبرت أنه من واجبي قراءة المقال وفهم عقلية كاتبه والمدرسة التي تعلم فيها، والتمعن فيما أثاره من إشكاليات؛ منها بالأساس الحدود الفاصلة ما بين التعليق، ونقد، وتحقير، critiqué, discrédité commenté, الأحكام القضائية، خصوصا عندما استشهد بأحكام محاكم فرنسية أدانت النقد الذي وصل حد القذف أو احتقار القضاء والقضاة. وأضاف بأن الأحكام عنوان الحقيقة ولا رقابة على القاضي سوى ضميره، مؤكدا أن الخوض في مناقشتها مهمة صعبة ينحصر فهمها على النخبة وليست في متناول العامة، مناديا بضرورة إعادة الاعتبار إلى القرارات القضائية واحترام القضاة وبفتح حوار بعيدا عن الشعبوية لرفع الوعي بمفهوم احترام العدالة.
ومن باب في رفع اللبس والخلط الذي خيم على طروحات المقال أبدي ملاحظات أجملها في ستّ وهي:
الملاحظة الأولى
إن الطرح الذي أتى به الأستاذ الوردي جره نحو الخلط والاعتقاد بأن العدالة هي القضاء وأن مفهومهما واحد، في حين أن العدالة بنيان فكري وفلسفي وسياسي وإبداع إنساني ومجموعة من قيم ومبادئ ومُثُل وقواعد أساسية لحياة المجتمع ولعلاقات السلطة بحقوق المواطن في كل المجالات المدنية والحقوقية والسياسية والاقتصادية وغيرها تتضمنها وطنيا محتويات الدستور كميثاق وعقد اجتماعي يحدد مراكز كل الأطراف بالمجتمع، وتتضمنها المواثيق الدولية كذلك. وأما القضاء فهو آلية مؤسساتية مِثل عدد من المؤسسات، وسُلطة مُمثَلة في قضاة دورهم إنتاج نسبة من العدالة من خلال تطبيق حقيقي وسليم للقانون وضمان فعلي للحقوق وإنتاج جدي لقرارات ولأحكام تحمي مراكز المتقاضين في الخصومات.
ومن هنا، يبدو أن السؤال الحقيقي الذي كان على الأستاذ الوردي طرحه هو المتعلق بأزمة إنتاج العدالة وأزمة ضمانها توزيعها بإنصاف بين المتقاضين من قبل القضاة في العملية المعروفة بالمحاكمة، وكذا سؤال أزمة جودة القرارات والأحكام، وسؤال أزمة تنفيذ الأحكام القضائية، وأن ما تحدث عنه الأستاذ الوردي ووصفه تلقي العدالة ما هي سوى نتيجة طبيعية للأزمة الأم التي أخفاها، وهو يعلم أن المستهلك لمنتُوج القضاة هو المواطن المتقاضي أي في النهاية المجتمع، وبالتالي لا يمكن أن يفرض أحد على هذا الأخير، المواطن والمجتمع، ابتلاع وهضم أي منتوج كما تبتلع الأبقار عشب المراعي، مما يبقى معه انتقاد القرارات وللأحكام والتعليق عليها حتى لو كان الانتقاد لاذعا بعد صدورها أمر طبيعي وعادي بل واجب في مجتمع ديمقراطي وفي نظام قضائي يعرف القضاة فيه بأنهم ليسوا ملائكة تحت عرش الرحمان مطهرون لا يخطئون، فالنقد هو مكون ثقافي وواجب مجتمعي اتجاه كل السلطات تنفيذية أو تشريعية وقضائية تحترم المواطن وتحترم حرية التعبير وتعي بأهمية النقد والرقابة.
الملاحظة الثانية
لم يكن للأستاذ الوردي أن يتحمل عناء التنبيه بين سطور مقاله من احتقار وازدراء الأحكام وقضاة الأحكام؛ لأن الموضوع لا يحتاج إلى تنبيه أو إلى مقال أو إلى بيان، فلا أحد يقبل احتقار القضاء واحتقار القضاة؛ لأن الواجب يقضي احترام الأشخاص وعدم إهانتهم والمس باعتبارهم، سواء كان الشخص حمالا أو وزيرا أو مستخدما أو قاضيا أو رئيس دولة... إلخ..
لكن الخلط بين عملية النقد كوسيلة للتعاطي المنطقي والعقلي والفكري مع الإنتاج القضائي أي مع قراراته بمستوياتها المختلفة، وما بين عملية أخرى عاطفية أو اندفاعية أو مزاجية، وهي عملية القدح أو السب أو الاحتقار قد ولد لدى الأستاذ الوردي مُيولا خاصا جره إلى ربط أمرين مختلفين، واستنتج فِي كتابته أن كل نقد موجه إلى إنتاج قانوني مثل إنتاج حكم قضائي يساوي ويوازي ازدراء صاحبه، أي احتقار القاضي المصدر له هو أمر غير صحيح بالمطلق؛ لأن هذا منطق نتاج عملية تدريب ذهنية راسخة غالبا عند من ينحصر دوره على فتح المتابعات وإقرار الاعتقال المسبق حتى في أبسط القضايا مما يمكن أن يكون مبررا لما سقط فيه صاحب المقال، فليس كل نقد موجه إلى حكم قضائي هو انتقاص من صاحبه وليس من المنطق.. لكن القضاة مخلوقات يعيشون معنا على نفس الكوكب كباقي البشر، لهم مزايا ولهم عيوب، وبالتالي ليست كل إنتاجاتهم أي قراراتهم وأحكامهم سليمة يُلزم المتلقون لها الصمت أمامها عدم انتقادها، فالسوق القضائي وأحكامه كسوق العُملات لا يمكن أن يقبل عليها الناس وهي غير صالحة ولا تفرض نفسها إلا إذا كانت جيدة ومن مستوى عال.. ومن هنا، كان من المفروض على الأستاذ الوردي أن يتجنب لغة الخشب وأن يدافع عن تفاعل القضاء مع المرتفقين ويقبل منهم ملاحظاتهم وانتقاداتهم؛ لأن ذلك في مصلحتهم، ولأن القضاة ليسوا قضاة النخبة ولا يتوجهون بإحكامهم إلى النخبة لكي يستمعوا للنخبة وحدها ويتجاهلون غيرها، بل هم قضاة في خدمة العدالة للعامة من المتلقين دون تمييز بما في ذلك التمييز في الاستماع للبعض دون البعض الآخر.
الملاحظة الثالثة
لا يمكن أبدا أن نُصلح ونرفع من شأن العدالة ومن مستوى احترامها بفرض الصمت على المتلقين لها أو بمنعهم من تحليلها وانتقادها بشكل صريح وواقعي، بعيدا بالطبع عما يمكن اعتباره قدحا أو إهانة؛ فالعدالة لا تصلح للرفوف، ولا تخصص للمتاحف ليتفرج عليها السياح، والقضاء لا يتفاعل مع الصامتين ومع الخائفين ومع المهزومين ومع المصفقين والمهرجين من الناس.. ومن يفكر بهذا المنطق، فهو في حاجة ماسة إلى علاج لأفكاره، والأستاذ الوردي انطلق من مرجعيات لم تعد مقبولة سياسيا وثقافيا ومجتمعيا لما أكد منذ بداية حديثه على الاختيار التقليدي لمواجهة نقد الأحكام وانتقاد القضاء وهو الحل الجنائي بالتجريم والعقاب، ولم ينتبه إلى دروس التاريخ التي علمتنا أن علاقات الإنسان أو المواطن بالدولة وبسلطات الدولة كانت عبر التاريخ علاقات صراع يحتدم ويتصاعد فيه النقد لكل ما تقترحه الدولة عندما يَعُمّ الظلم والفساد والاستبداد وتنعدم الحرية وتتفوق لدى الحكام قوة السلطة على قوة القانون. وقد كان عليه قراءة ما حدث مؤخرا بداية من التسعينيات من القرن الماضي من خلال سقوط قيود الاستبداد وما تبع ذلك من الثورات والانتفاضات التي عُرفت بالربيع العربي وعُرفت عندنا بالمغرب بعشرين فبراير وعرفت بحراك الريف وجرادة وغيرهما، وكل هذه التحركات هي عبارة عن سخط على أوضاع فاسدة وعبارة عن نقد قوي ورفض علني لما أنتجته الدولة وسلطاتها بما في ذلك السلطة القضائية نفسها؛ لأنها سلطة من سلطات الدولة وقضاتها من موظفي الدولة وإنتاج القضاة، أي أحكامهم لا بد له أن يكون جيدا عادلا ليتقبله المتلقي أي المواطن وينحني له.
إن الحكم القضائي الفاسد والضعيف لا يمكن احترامه من المتلقي، لأنه حكم لا يخلق الاطمئنان ولا يقوي رابطة المواطن بالسلطة والدولة؛ بل يرفع فرص الغصب ومناسبات السخط والاحتجاج. إن ضعف أو فساد صناعة العدالة وإنتاج الأحكام لا يشعر به القضاة؛ بل يشعر به متلقو العدالة... ومثل ذلك مثل ضعف بقية السلط الأخرى، وضعف مستوى منتوجها الذي يحتج ضده المتلقون والمستهلكون، وهذا عند علماء السياسة والاجتماع أمر عادي جدا كان على الأستاذ الوردي الانتباه إليه وتقدير مخاض مجتمعنا في هذا القرن، الذي هو قرن الرفض والاحتجاج ضد كل ما لا يلبي طموح المواطن المشروعة أو غير الصالح من إنتاج قطاعات الدول وسلطاتها، سواء التنفيذية أو التشريعية أو القضائية..
ومن هنا، لا يمكن أن تَسلم العدالة وتُستثنى وحدها من الانتقاد، ولا يمكن أن نمنع المتلقي من تقييمها والحكم عليها والحكم على من صنعها بالتعليق والنقد الحر بالمقاييس المشروعة.
الملاحظة الرابعة
تناسى الأستاذ الوردي التجربة المغربية المريرة التي عرفها المواطنون وعرفها من يسميهم بمستهلكي العدالة، والتجربة هاته درستها وحللتها هيئة الإنصاف والمصالحة أمام الرأي العام وأمام الملك نفسه، بعد أن كشفتها كتابات ضحايا سنوات الرصاص أنفسهم، والتي اعتبرت أن القضاء من خلال العديد من الأحكام والقرارات التي صدرت ما بين 1956 و1999 له مسؤولية عن جانب كبير من الانتهاكات القضائية لحقوق الإنسان وتبين للمغاربة أنه خلال ما يقرب من نصف قرن والقضاء موال للسلطة وللدولة ولمراكز القوة والنفوذ.
وقد كان على الأستاذ الوردي، قبل أن يعاتب المتلقي ويحذره بالقانون الجنائي على نقد القرارات والأحكام، أن يتأمل في دموع المتلقين للعدالة وهم يحكون في جلسات الاستماع العمومي كيف جرى لضحايا أحكام الإعدام والسجن والتعذيب والقتل في أكبر المحاكمات السياسية التي أصدرها قضاة، أي من قبل القائمين مبدئيا على ضمان الأمن القضائي وتوزيع العدل والحقوق وخلق العدالة بالمساواة وللجميع والذين اختاروا حينها أن يضعوا أقلامهم وأحكامهم وضمائرهم في خدمة الدولة بدل خدمة العدل والحق وتطبيق القانون باستقلالية وحياد.. وربما كان الأستاذ الوردي صغير السن ولا يتذكر كيف مُتع المذنبون والمتسببون في أزمات العدالة من الإفلات من العقاب تحت مسمع ومرأى صناع الأحكام وضُمان العدالة.
وهنا، أقترح عليك، يا عزيزي بالمناسبة، أن تتريث قبل جلد المواطن متلقي العدالة وأن تضع قلمك وسط أقلام أخرى لتسهم في النقاش الحقيقي الذي لا يزال المغاربة، بمن فيهم متلقو العدالة، يثيرونه بعمق وموضوعية ومسؤولية؛ وهو موضوع عدالة المغرب اليوم وعدالة المستقبل، وموضوع أزمة استقلال القضاء وأزمة نجاعته وفعاليته في ضمان الأمن القانوني والقضائي، وأزمة نوعية الأحكام والقرارات القضائية وجودتها، وأزمة نجاعة العدالة أي عدم احترامها واحتقارها ورفض تنفيذها من قبل الدولة وإداراتها ومرافقها وجماعاتها ومنتخبيها ووزرائها، وأزمة استرجاع ثقة المتلقي في القضاء وفي أحكامة وبحث أسباب التذمر والاحتجاج التي تصل أحيانا للإضراب عن الكلام وعن الطعام خوفا على مصير المحاكمات ومصير الحريات....
وهذه مواضيع، حسب علمي، لم يسبق للأستاذ الوردي أن طرحها أو عالجها، وأخيرا عليكم التمعن في سؤال واضح وهو: هل أزمة العدالة في مفهومكم هي أزمة التعليق على الأحكام أم هي أزمة صناعة وتنفيذ الأحكام؟ وهل الأزمة أزمة متلقي العدالة أم أزمة المسؤولين عن تحقيق العدالة؟
الملاحظة الخامسة
ربما لن يَقتنِعَ الأستاذ الوردي نفسه قبل أن يُقنِعَ الآخرين بضرورة قَمع ومعاقبة "متلقي العدالة" كما هو معمول به في دول أخرى، فقد استشهد وتحجج ببعض القرارات القضائية بفرنسا في قضايا سياسية حساسة، واختار منها ما كان ولا يزال مثار خلافات سياسية أكثر من قضائية، ولم يستحضر سياقاتها وأراد أن تطبق فوق تربة مغربية مليئة بالأشواك وبالمنعرجات التي تكسر كل المسلمات التي تصلح لمناخ منتعش بالمساواة أمام القانون وبمصداقية أقوى للمؤسسات ومنها المؤسسة القضائية، فقد قدم قضايا كنماذج؛ لكنه نسي بأنها انتهت ببراءة المتابعين، فقضية جينو H. Guaino الذي توبع أمام الغرفة 17 بمحكمة باريس وهو برلماني وأحد المقربين السياسيين من الرئيس ساركوزي والذي غضب في تصريحاته الصحافية وانتقد سنة 2013 قرار قاضي التحقيقJ. Michel Gentil عندما تابع الرئيس الفرنسي بمناسبة قضية بيتانكور وبناء على وشاية من قبل الاتحاد النقابي للقضاة Union Syndical des Magistrats (USM) انهت بحكم ببراءته ابتدائيا وأدين استئنافيا لكن محكمة النقض ألغت قرار الإدانة سنة 2016 وقالت : ... considérant que l'outrage à magistrat ne peut s'appliquer dès lors que les propos litigieux n'ont pas été adressés directement au juge وقد ذهب القرار في اتجاه العديد من الأحكام التي صدرت عن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان والتي أعطت للنقد مكانته الحقيقية اعتبارا لأهمية كل قضية ومكانة الجهة التي يوجه إليها، ومن أبرز تلك الاجتهادات القرار الصادر عن المحكمة الأوروبية سنة 2007 ولصالح حرية النقد في قضية رولان دوما R.DUMAS وزير الخارجية السابق عما جاء في كتاب له حول قضية ELF، وقبلت المحكمة ما فيه من نقد قوي لوكيل الجمهورية وصوره الكاتب: 'un procureur de l'affaire Elf «aurait pu siéger dans les sections spéciales de ces tribunaux spéciaux de l'Occupation والقرار هذا عمق المفاهيم ووسع دلالات حرية التعبير وحرية انتقاد القضاء وأحكامه، وقالت المحكمة الأوروبية : les propos de Dumas étaient relatifs à «une affaire d'Etat qui suscita un déferlement médiatique» et «donnaient des informations intéressant l'opinion publique sur le fonctionnement du pouvoir judiciaire» . وهذا يكفي للرد على توجه الأستاذ حكيم الذي رافع ضد توسيع مساحة نقد القرارات القضائية بشكل شبه مطلق ومن دون اعتبار ما لأهمية مواضيع النقاش وعلاقاتها بالمصلحة العامة.
أما النموذج الثاني الذي أورده وأخطأ في نهايته الأستاذ حكيم فله أهميته، والأمر يتعلق بحكم إدانة الرابطة الفرنسية لحقوق الإنسان (LDH) ونقابة القضاء Syndicat de la Magistrature، وجمعية Gisti، بمناسبة البلاغ المشترك الصادر سنة 2015 الذي انتقدوا فيه قرار محكمة الاستئناف بباريس التي رفضت لجمعية لرعاية الأحداث تكفلها بحَدث مُهاجر مالي، والتي انتهت ببراءة الجميع بتاريخ 16 نونبر 2016 بعلة أن مساحة الانتقاد الموجه إلى أحكام القضاة هو غير النقد الموجه إلى القضاة، وهو الإشكال الذي تحاشى التطرق له. ومن هنا، يبدو أن الهم الذي كان وراء طروحات الأستاذ الوردي ليس تمحيص جدي ومشاركة محايدة في نقاش مجتمعي لقضية التعامل مع قرارات القضاء، بل كان وراءها في نظري التوجس من مرحلة تاريخية يمر منها المجتمع المغربي تتسم بالتشبع والتشبث بالحريات الفردية والعامة وبالمساءلة العامة لكل مسؤول وبالشفافية والاحترام في المعاملة مع المواطن وبكونية حقوق الإنسان وبرفض عقليات "الديمقراطية والحريات جرعة جرعة".
وأتمنى من صاحب "أزمة تلقي العدالة" أن يتأمل في الأخير في ثلاث قضايا تتعلق الأولى بالمرحوم الملك الحسن الثاني ضد جريدة لوموند الفرنسية ومديرها آنذاك السيد كولومباني، والتي تفوق مسألة تعليق أو نقد لحكم قضائي، بل تتعلق بإهانة رئيس دولة أجنبية والذي دام حولها النقاش من سنة 1995 لسنة 2002 وانتهت بصدور قرار المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان التي أدانت فرنسا بسبب انتهاكها للمادة ال10 من الاتفاقية الأوروبية وبسبب مؤاخذتها لجريدة لوموند عن جريمة القذف في حق رؤساء الدول وهو ما اعتبرته المحكمة الأوروبية انتهاكا لحرية التعبير، وعقب صدور قرار من هذا الحجم انتهى مصير المادة ال36 من قانون 29 يوليوز 1881 المتعلق بقانون الصحافة، أي انتهت جريمة offense a chef d état étranger أي المس برئيس دولة أجنبية التي حذفت نهائيا من قانون 1881؛ وهو الأمر الذي سجل فيه القضاء الفرنسي ومحكمة النقض قفزة من قفزات مجدها لتعزز مكانة حرية التعبير ضمن الحريات الأخرى حتى وإن كان الأمر مرتبطا برئيس دولة.
وتتعلق القضية الثانية بالملك محمد السادس وما انتهت إليه عبقرية قضاة محكمة النقض بفرنسا جوابا عن الدفع بعدم دستورية قانون، حيث جاء في قرارها الصادر بتاريخ 6 فبراير 2018، وأعلنت أمام قضاة العالم أنه: "يمنع على الدول الأجنبية رفع دعوى بالقذف أمام المحاكم الفرنسية".
الملاحظة السادسة والأخيرة
منطلق الأستاذ الوردي في حديثه عن أزمة تلقي العدالة هو محاكمة معتقلي حراك الريف وشعوره بنصيبه من المسؤولية عن أدواره فيها وعما شهدته من اختناق ومن احتكاك ومسؤوليته عن نتائجها وتداعياتها وردود الرأي العام حولها، وقد كان من المفيد وهو يتناول جانبا من نتائجها أن يبدي رأيه في الملف وفي المحاكمة بعد أن انتهت مرحلة المحاكمة الأولى، كما يفعل قضاة في دول أخرى، حيث يثيروا نقاشا منظما ومؤطرا مع الجمهور من متلقي العدالة، وهذا أمر سيتم عندنا بالمغرب في القادم من القرون، ولما اكتفى الأستاذ الوردي بطرح جانب غير ذي صلة بجوهر المحاكمة فذاك عيب غير مقبول.
وأخيرا، متى نكف، يا عزيزي حكيم، عن تعليم المواطن وإعطائه الدروس؟ ومتى سنقول بأننا في حاجة إلى المواطن لكي نتعلم ونتلقى الدروس؟ ومتى يشعر المواطن انه في غير حاجة إلى إثبات مواطنته كل مرة ليعترف به الآخرون، كما عبر عن ذلك الفيلسوف PIERRE BOURDIEU الذي قال:
QU'EST-CE QU'UN CITOYEN QUI DOIT FAIRE LA PREUVE, À CHAQUE INSTANT DE SA CITOYENNETE ?


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.