بسبب تعديلات مدونة الأسرة.. البرلمانية اليسارية التامني تتعرض لحملة "ممنهجة للارهاب الفكري"وحزبها يحشد محاميه للذهاب إلى القضاء    تحويل الرأسمالية بالاقتصاد اليساري الجديد    غير كيزيدو يسدو على ريوسهم: الجزائر انسحبت من كاس العرب فالمغرب بسبب خريطة المغربة    نجم مغربي يضع الزمالك المصري في أزمة حقيقية    الاستعمالات المشروعة للقنب الهندي .. إصدار 2905 تراخيص إلى غاية 23 أبريل الجاري    رصد في ضواحي طنجة.. "القط الأنمر" مهدد بالانقراض ويوجد فقط في حدائق الحيوانات    المغربي إلياس حجري يُتوّج بلقب القارئ العالمي للقرآن    تأملات الجاحظ حول الترجمة: وليس الحائك كالبزاز    حفل تقديم وتوقيع المجموعة القصصية "لا شيء يعجبني…" للقاصة فاطمة الزهراء المرابط بالقنيطرة    مهرجان فاس للثقافة الصوفية.. الفنان الفرنساوي باسكال سافر بالجمهور فرحلة روحية    الدراجات النارية وحوادث السير بالمدن المغربية    عملية رفح العسكرية تلوح في الأفق والجيش الاسرائيلي ينتظر الضوء الأخضر من نتانياهو    بوغطاط المغربي | محمد حاجب يهدد بالعودة إلى درب الإرهاب ويتوّعد بتفجير رأس كل من "يهاجمه".. وما السر وراء تحالفه مع "البوليساريو"؟؟    توقعات أحوال الطقس اليوم الخميس بالمملكة    مكتب التكوين المهني/شركة "أفريقيا".. الاحتفاء بالفوجين الرابع والخامس ل"تكوين المعل م" بالداخلة    واشنطن طلبات من إسرائيل تعطي إجابات بخصوص "المقابر الجماعية" ف غزة    أكاديمية المملكة تعمق البحث في تاريخ حضارة اليمن والتقاطعات مع المغرب    الصين تكشف عن مهام مهمة الفضاء المأهولة "شنتشو-18"    الولايات المتحدة.. أرباح "ميتا" تتجاوز التوقعات خلال الربع الأول    بطولة فرنسا: موناكو يفوز على ليل ويؤجل تتويج باريس سان جرمان    أخنوش: الربط بين التساقطات المطرية ونجاح السياسات العمومية "غير مقبول"    ماركس: قلق المعرفة يغذي الآداب المقارنة .. و"الانتظارات الإيديولوجية" خطرة    بني ملال…تعزيز البنية التحتية الرياضية ومواصلة تأهيل الطرقات والأحياء بالمدينة    ما هو سيناريو رون آراد الذي حذر منه أبو عبيدة؟    اتفاقية الصيد البحري..حجر ثقيل في حذاء علاقات إسبانيا والمغرب!    تعزيز التعاون الفلاحي محور مباحثات صديقي مع نائبة رئيسة مجلس النواب التشيكي    أخرباش تشيد بوجاهة القرار الأممي بشأن الذكاء الاصطناعي الذي جاء بمبادرة من المغرب والولايات المتحدة    رابطة للطفولة تعرب عن قلقها من التركيز المبالغ فيه على محور التربية الجنسية والصحة الإنجابية للمراهق في دورة تكوين الأطر    الرئيس الموريتاني يترشح لولاية ثانية    كأس إيطاليا لكرة القدم.. أتالانتا يبلغ النهائي بفوزه على ضيفه فيورنتينا (4-1)    المنتخب المغربي ينهزم أمام مصر – بطولة اتحاد شمال إفريقيا    المنتخب المغربي لأقل من 18 سنة يفوز على غواتيمالا بالضربات الترجيحية    نور الدين مفتاح يكتب: العمائم الإيرانية والغمائم العربية    عاجل.. كأس إفريقيا 2025 بالمغرب سيتم تأجيلها    جنايات أكادير تصدر حكمها في ملف "تصفية أمين تشاريز"    الشاطئ البلدي لطنجة يلفظ جثة شاب فقد الأسبوع الماضي    أخنوش يرد على خصومه: الدولة الاجتماعية ليست مشروعا ل"البوليميك" والحكومة أحسنت تنزيله    بالأرقام .. أخنوش يكشف تدابير حكومته لمساندة المقاولات المتضررة جراء الأزمة الصحية    قميصُ بركان    مطار مراكش المنارة الدولي: ارتفاع بنسبة 22 في المائة في حركة النقل الجوي خلال الربع الأول من 2024    المغرب ومنظمة "الفاو" يوقعان على وثيقة "مستقبل مرن للماء" بميزانية 31.5 مليون دولار    بنكيران يهاجم أخنوش ويقول: الأموال حسمت الانتخابات الجزئية    لأول مرة في التاريخ سيرى ساكنة الناظور ومليلية هذا الحدث أوضح من العالم    إستعدادُ إسرائيل لهجوم "قريب جداً" على رفح    برنامج دعم السكن.. معطيات رسمية: 8500 استفدو وشراو ديور وكثر من 65 ألف طلب للدعم منهم 38 فالمائة عيالات    الفوائد الصحية للبروكلي .. كنز من المعادن والفيتامينات    دراسة: النظام الغذائي المتوازن قد يساهم في تحسين صحة الدماغ    مدير المنظمة العالمية للملكية الفكرية : الملكية الفكرية تدعم جميع جوانب الحياة في المغرب، بما في ذلك الزليج    دراسة: تناول الأسبرين بشكل يومي يحد من خطر الإصابة بسرطان القولون        كلمة : الأغلبية والمناصب أولا !    اختتام فعاليات الويكاند المسرحي الثالث بآيت ورير    دراسة تبيّن وجود صلة بين بعض المستحلبات وخطر الإصابة بمرض السكري    في شأن الجدل القائم حول مدونة الأسرة بالمغرب: الجزء الأول    الموت يفجع شيماء عبد العزيز    أسعار الذهب تواصل الانخفاض    "نسب الطفل بين أسباب التخلي وهشاشة التبني"    الإيمان القوي بعودة بودريقة! يجب على الرجاء البيضاوي ومقاطعة مرس السلطان والبرلمان أن يذهبوا إليه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الإدريسي يدعو عقلاء المغرب والجزائر لتكسير حاجز الصمت
نشر في هسبريس يوم 05 - 07 - 2012

دعا الدكتور علي الإدريسي، أستاذ فلسفة التاريخ بجامعة محمد الخامس بالرباط، وديبلوماسي مغربي سابق بسفارة المغرب بالجزائر، كلا من عقلاء المغرب والجزائر وكل حكماء البلدين الشقيقين، إلى اختراق حاجز الصمت، حسب تعبيره، حكمت عليهما الجغرافيا بالجوار الجغرافي الأبدي، والمصير التاريخي المشترك، وذلك بمناسبة الذكرى الخمسينية لاستقلال الجزائر.
وفي ما يلي نص مقاله:
في الذكرى الخمسين لاستقلال الجزائر الجوار المغربي الجزائري إلى أين؟
"محمد مبروك عليك، الجزائر رجعت ليك" (من أغنية عن استقلال الجزائر)
تحل في الخامس من يوليو من سنة 2012 الذكرى الخمسون لاستقلال الجزائر، وقد قدم خلالها الشعب الجزائري ثمنا باهضا من أجل افتكاك وطنه من نيرالاستعمار الاستيطاني واستعادة حريته واستقلاله، بعد استعمار استدماري دام حوالي قرنا وثلث قرن من الزمن.
مما لا شك فيه أن الجزائريين هم أحق من يطرح على أنفسهم سؤال رحلة الخمسين سنة من عمر دولتهم الوطنية، عما حققوا خلالها، وعن المشاريع والطموحات التي لم يقدروا على تحقيق كل مبتغاهم منها. وهم وحدهم الأقدر أيضا على تقويم وتقييم مسيرتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في ظل دولة الاستقلال. فأهل الأوراس وجرجرة والونشريس أدرى بشُعب بلادهم وتشعباتها. ومما لا شك فيه كذلك أن التقييم المسؤول لمسيرة الاستقلال هو أنجع سبيل وأقوم منهج لتجنب الوقوع فيما اعتاد عليه كثير من القيادات والنخب الحاكمة في جل الدول العربية، التي جنحت إلى اعتبار رغباتها السلطوية وانفعالاتها السياسية مبادئ عليا للدولة، وتعليمات يومية لشعوبها، والتبس عليها بالتالي التمييز بن تلك الرغبات / المبادئ وبين طموحات شعوبها إلى الحرية والعدالة والكرامة، والاختيارات السياسية لتحقيق المواطنة والتنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
واقع العلاقات المغربية الجزائرية بعد نصف قرن
وبعد هذه التهنئة المستحقة، حسا ومعنى، للشعب الجزائري بعيد استقلاله الفضي، متمنين له في الوقت نفسه تحقيق كل أهدافه المشروعة و طموحاته النبيلة، نرى من واجبنا، قبل أن يكون من حقنا، أن نسأل عما "بَنَيْنا" من علاقات مغربية جزائرية تحت قيادة الدولتين الوطنيتين، وعما "حققنا" من "إنجازات وأهداف" لصالح هذه العلاقات بين بلدين حكمت عليهما الجغرافيا قبل التاريخ بالجوار الأبدي؟
على الرغم من شبه استحالة تموضوع الذات أو تذوُّت الموضوع من قبل باحثين، هم بالدرجة الأولى نتاج ثقافة الأنا الأعلى الموجِّه لأفكارهم وآرائهم ومن ثمة لأحكامهم، عند تناول موضوع العلاقات البينية من قبل منتمين إلى دولتين لا تزالان في طور البناء والتكون وإثبات الذات. غير أن الوعي بهذه الوضعية يحث الباحثين على رصد الوقائع واقتراح الحلول الناجعة للمعضلات القائمة، ولمستجدات تطور الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، أن يتحلوا بنزاهة فكرية وسمو أخلاقي واستحضار روح التحدي الإيجابية من أجل إيجاد ما يساعد على النهوض من الكبوات، والتخلص من العثرات المتتالية الناجمة عن ممارسات عهد الاستقلال؛ وهي ممارسات توحي في كثير من جوانبها المتعلقة بعلاقات البلدين بأنها كانت، ولا تزال، أقرب إلى التعامل بالغرائز السياسية البدائية لتحقيق وتلبية رغبات النخب الحاكمة، منها إلى عقلنة الفعل السياسي، وفقا لمنطق العصر القائم على الاعتماد المتبادل، أو المنهج البركَماتي الإيجابي، المخالف بكل تأكيد للذهنية القبلية الثقافية والسياسية في ممارسة السياسة المدنية والعلاقات الدولية.
إن رغبات الحكام وذهنياتهم السياسية القبلية، عادة ما تُلبَّس وتُسوَّغ بشعارات تمجيد الذات الوطنية إلى در جة التقديس الوثني لهذه الوطنية، بل يزيد الأمر استفحالا حين يتحول التعلق بالذات الوطنية إلى نرجسية الأنا العائدة إلى الفعل التاريخي، المنبهرة باسترداد العظمة المفقودة. وكما هو معلوم فإن رغبات الحكام النفسية غير المقيدين لا بالقانون، ولا بأي وازع أخلاقي، خاصة في مرحلة من مراحل نمو الدولة الوليدة، قد لا تختلف عن الرغبات النفسية للذات الفردية في مرحلة طفولتها التي وصفها الإمام البوصيري بقوله:
والنفس كالطفل ان تهمله شبّ على حب الرضاع وان تفطمه ينفطم
فاصرفْ هواها وحاذر أن تُوَليَهُ إن الهوى ما تولَّى يُصْمِ أو يَصِمِ
ضرورة تجاوز ممارسات الوعي الشقي
فهل يحق لنا نحن، مغاربة وجزائريون، أن نتجاوز شقاء طفولتنا السياسية والعمل سويا، وبروح المسؤولية التاريخية، وبرؤية مستقبلية للمنافع والمصالح المشتركة للحد من سياسة الرغبات وذهنية القبيلة السياسية، ومن الانطلاق من نزوعات الهيمنة والتسلط، ومن النزوات الانفعالية التي أضرت بعلاقات الجوار بين شعبين يملكان بدائل كثيرة عن التجاذبات والمواجهات التي أوصلت العلاقات المغربية الجزائرية الى تخريب ما تم إنجازه في مرحلة الكفاح من أجل الاستقلال، وأن نتخطى ممارسات الوعي الوطني الشقي، الذي يقضي على قيم الجوار. فما هي مظاهر هذا الوعي الشقي، وأين تتجلى ؟
عاش المغاربة والجزائريون، ولا يزالون، بؤس هذا الوعي الشقي في مظاهر متعددة. نكتفي هنا، لضرورة الحيز المخصص لهذا المقال، بالإشارة إلى بعضها فقط، بصفتها أكثر تعبيرا عن معاكسة الوجهة الإيجابية لتاريخ المنطقة، ومعاندة منطق الجوار في كل أبعاده الإنسانية والأخلاقية؛ وهو وعي يعلن شيئا ويعمل ضده، يقولون بأفواههم ما يعادونه بعملهم، كالقول إن العلاقة بين المغرب والجزائر ممتازة، في الوقت الذي تتصرف فيه الدولتان تصرفا معاكسا لذلك.
ولتبرير القرارات والأفعال المخالفة لما يُعلَن عنه يتم اللجوء إلى استرضاء مشاعر الشعبين من خلال مخاطبة عواطفهما الوطنية الانفعالية بدلا عن عواطفهما الفاعلة. ويمكن أن نستدل على هذا الوعي الشقي ببعض مظاهره في واقع العلاقات بين الدولتين فيما يلي:
1 لغة البرقيات المتبادلة بين قيادتي البلدين في المناسبات الوطنية والدينية، المحشوة بزخرف الكلام الذي يذكرنا بديوان الإنشاء في عصور الانحطاط الفكري والتخلف السياسي والاجتماعي، الموصوف باستعمال اللغة الضحلة المنفصلة عن الواقع الذي كان الناس يعيشونه، وتذكرنا تلك البرقيات، في أحسن الأحوال، بما ينسب لتشرشل عن أن تكرار الكذب والإصرار عليه في عالم السياسة مسألة مفيدة للحاكم في غياب مؤسسات المحاسبة، كما تذكرنا بأدب طرائف الطمع التي تقول إحداها إن أشعب صدق في نهاية المطاف كذبه.
2 تحويل فكرة الوطنية إلى عقيدة أو معتقد لمناهضة الجار، فأن تكون وطنيا جزائريا يجب أن تعادي المغرب، وأن تكون مغربيا فخورا بوطنيتك المغربية وجب ألا تذكر الجزائر بخير. والادعاء في الوقت نفسه عكس ذلك في التصريحات الدبلوماسية. وقد رسخ الإعلام والتربية الحزبية هذا المعتقد إلى مستوى الثقافة السائدة في البلدين. فلو كانت هنالك اختبارات لرصد اتجاهات الرأي العام في البلدين لاتضح بجلاء ما آل إليه معتقد أو فكرة الوطنية السائدة في دولتي الاستقلال.
إذا كانت التربية الحزبية، وما يُضمَّن في برامج التاريخ المدرسي وبعض كتب المذكرات، تعمل على غرس الحقد والكراهية ضد الجار الآخر، فإنه يبقى محصورا نسبيا، أمام دور وسائل الإعلام المقروءة والسمعية البصرية، بالنظر إلى سعة دائرة المتلقين. وقد وصل التهور ببعض الصحافيين إلى اعتبار المغرب العدو الأول للشعب الجزائري، وهو أمر يروج له بمناسبة وبدون مناسبة. وفي المغرب يتم ترسيخ فكرة عداء الجزائر للمغرب في استكمال وحدته الترابية. والحال هذه، لا نستغرب أن تصر مديرة جريدة يومية جزائرية على القول باستمرار إن المغرب هو العدو الأول للجزائر الذي يسعى بكل الوسائل لتخريب الجزائر وبخاصة شبابه. ومن ثمة فهي لا تتورع في افتتاحياتها على اعتبار المغرب بلدا "غير شقيق". ونكتشف ما يماثل هذا الهراء "الإعلامي" في أكثر من "منبر إعلامي" هنا وهناك في كلا البلدين.
3 الخلط الكبير في لغة الدولتين بعدم تمييزهما بين موضوع المبادئ، والقناعات الظرفية، والاختيارات في خطابهما السياسي المحلي، وفي رسم علاقاتهما البينية. في حين أن المبادئ قواعد ومنطلقات ثابتة للدولة كما للفرد، وهي سمة من سمات المجتمعات الإنسانية الحرة التي تجعل مرجعيتها في الدستور أو القانون الأساسي، الذي يعلو على الجميع، دون أي استثناء مهما تكن المسوغات والذرائع. ومما لاشك فيه أن العبث هو الذي سيسود في حال فقد الإنسان، والدول، أو المجتمعات، المبادئ التي توجه حياتهم وترسم مسارهم في الزمن.
أما القناعات فهي نوعان قناعات فردية وقناعات جماعية، وهي تتفاعل مع عملية التغير التي تحدث في الزمان والمكان، أو التاريخ والجغرافيا، فشخصية الإمام الشافعي في مصر لم تكن نسخة متطابقة لشخصيته الفقهية في العراق. ثم أن قناعات الفرد وهو في سن الحكمة تختلف إن قليلا أو كثيرا عن قناعاته في سن الشباب، وهكذا، وقناعات المجتمع أو الدولة تتغير وتتجدد بتجدد الزمان وجملة من الحوادث والتقلبات والأحوال؛ فكم من دولة كان لها نهج سياسي واقتصادي معين، كالنهج الاشتراكي مثلا، ثم "تولدت" لديها قناعات ليبرالية أو غيرها...إلخ.
والقناعات تقود بالضرورة إلى الاختيارات بين مختلف الآراء أو الأشياء المعروضة علينا في الحياة العملية؛ إذ لا اختيار بدون اقتناع، وإلا أصبح الأمر مجرد خضوع لقوة قاهرة, ومن ثم لا يكون هنالك في واقع الشعوب والدول لا قناعات ولا اختيارات.
عواقب الخلط بين المبادئ والاختيارات
والناظر إلى سياسة الدولتين الوطنيتين يصادفه كثير من الالتباس والخلط بين المبادئ والقناعات والاختيارات في تشكيل العلاقة بين الدولتين الوطنيتين. مما يجعل العداء للجار الآخر من المبادئ، أو من ضرورات الهوية الوطنية. وللإشارة إلى أن دولا أخرى مارست وعاشت هذا العداء في مناطق أخرى من العالم، إلا أنها تفطنت إلى مخاطره فتغلبت عليه بالانتقال من الوطنية الصغرى إلى الوطنية أو القومية الكبرى (du nationalisme au multi-nationalisme) على أسس تبادل المصالح والمنافع، وتكامل اقتصادي تنافسي بعيدا عن ذهنية الصراع والمواجهة؛ هذه المواجهة التي تتسم بها العلاقات المغربية الجزائرية. فالسياسات الوطنية الصغرى قد تنطبق عليها مقولة أحد رجالات التصوف لمتصوف آخر رغب في مشاركته زاويته التي هي مصدر سلطته، فتوجه إليه قائلا: "إن ثعبانين لا يسعهما جحر واحد"؟
ووربطا للموضوع بمسببات التنافر السائد بين البلدين، الذي يصل إلى سقف العداء المزمن بينهما نرى أن ما روج حول حرب الرمال 1963 وحرب أمكَالا 1975 وتوابعهما القائمة إلى اليوم كسبب وحيد لانتكاس العلاقات المغربية الجزائرية ليس كل الحقيقة.
نعتقد أنه لم يتم الحسم إلى اليوم في قضايا أخرى كثيرة، لا يزال دورها قويا في توسيع الفجوة بين مشاعر الشعبين الجارين، وتعمل على ترسيخ ثقافة الكراهية والعداء بينهما. ففي الجزائر يسود الاعتقاد بخيانة المغرب للأمير عبد القادر في حربه ضد فرنسا دون أي إشارة إلى موقف قبائل شرق المغرب والريف المساندين والمدعمين للأمير، و مناصرة السلطان له، حتى كانت هزيمة جيشه في معركة أيسلي سنة 1844 أمام فرنسا، وما أعقبها من شروط على المغرب بتاريخ 10-9-1844. فقد أجبرت فرنسا السلطان عبد الرحمن بن هشام على توقيع معاهدة طنجة التي يعترف فيها بأن الجزائر جزء من فرنسا. وألا يأوي أي معارضين جزائريين في أيالته. ثم معاهدة للا مغنية في 18 مارس 1845 لتحديد الحدود بين إيالة الجزائر الفرنسية وإيالة المغرب السلطانية.
أما المغاربة الذين يفخرون بتقديم العون الممكن للأمير عبد القادر وفتح المجال المغربي أمام الجزائريين الهاربين من الاستعمار الفرنسي، فإنهم لم يحملوا ودا لجزائريين آخرين كانوا في خدمة فرنسا حلوا بالمغرب لتحقيق مآرب فرنسا وأهدافها. وقد طغت بعد ذلك النظرة السلبية على النظرة الإيجابية في تناول العلاقة البينية. ولا تزال ملفات قنصلية كبيرة عالقة بين البلدين تنتظر التباحث المسؤول والحكيم بشأنها. ويمكن العودة إلى ما تضمنه كتاب "أصول الأزمة في العلاقات المغربية الجزائرية" للباحث زكي مبارك، لمعرفة مزيد من أسباب التطور السلبي للعلاقات بين البلدين.
إذا حضر الصراع غاب التوافق
زيادة على ما يبدو من غياب الإرادة الفعلية لدى الجابين لمعالجة مختلف الملفات المتراكمة منذ ما قبل الاستقلال إلى اليوم يحتدم الصراع بينهما أيضا على زعامة منطقة شمال إفريقيا وقيادتها كقطب مركزي في إفريقيا. ويبرز هذا الصراع بصفة خاصة في جانبين: جانب فكري ثقافي وجانب سياسي واقتصادي.
يتعلق الأمر أولا بقيادة المنطقة فكريا وثقافيا في مرحلة ما بعد الاستقلال. وهنا يصبح الصراع ثلاثيا بدخول تونس كطرف رئيس في الموضوع بالاعتماد على تراثها التاريخي والحضاري في كل من قرطاج والقيروان والزيتونة، ومكانتها الكبيرة ودورها المتميز في انفتاح المنطقة على ثقافة عصر الأنوار وعلى الانبعاث العربي الإسلامي المعاصر في الوقت نفسه. وستتأكد هذه المكانة وهذا الدور،بلا شك، في حال نجاح الانتقال الديمقراطي التوافقي إلى مرحلة ما بعد الاستبداد.
غير أن النخبة الجزائرية تعتقد أنها الأكثر تأهيلا لإضفاء طابع الحداثة على التوجهات الفكرية والثقافية للمنطقة؛ وهذه النخبة تعتبر اللغة والفكر الفرنسيين غنيمة حرب لا يجب التفريط فيهما. ولعل كتاب "الطلبة الجزائريون في الجامعة الفرنسية، 1882 و 1962" للمؤرخ الفرنسي بريفليي يرصد لنا هذه النخبة في مكواتها وتوجهاتها والداعمين لها كذلك، ويشير كتاب "العفن" لمالك بن نبي، بوضوح قوي إلى هذه النخبة ومشروعها الفكري والمجتمعي. ولا تنظر هذه النخبة إلى النخب الأخرى، وبخاصة تلك التي تفكر باللغة العربية وتنطلق من التراث إلا نخبا تتشبث بالفكر الوسطي الرجعي.
والواقع أن هذه النخب يغلب على فكرها التذبذب، لأنها لم تبرح بعد خندق الدفاع عن إثبات وجودها الفاعل، بسبب غياب السند، وكثيرا ما تكون مضطرة للسير في ركاب النخبة المهيمنة فيما يتعلق بزعامة المنطقة حتى لا تتهم بالرجعية وبقلة وطنيتها.
أما النخبة المغربية، المماثلة لزميلتها الجزائرية، فتعتقد بأنها الأقدر على تزعم المنطقة لكونها تزاوج بين حمولة الثقافة التقليدية التي لم يخرب الاحتلال بنيتها الأساسية كما فعل في الجزائر، بخاصة ثقافة فاس والمدن التقليدية وجامع القرويين، وبين حمولة البعثة الفرنسية في إعداد النخبة المغربية الجديدة التي رصد علي الحمّامي بعض إرهاصاتها الأولى في روايته الشمال إفريقية "إدريس". تلك الثقافة التي يمكن القول بشأنها إن محمد عزيز لحبابي صاحب كتاب " من المنغلق إلى المنفتح" لخصها بقوله: "أنا من فاس تعلمت في السربون".
ويضاف إلى هذا الصراع على تزعم الوجهة الفكرية الثقافية في المستعمرات الفرنسية السابقة في شمال إفريقيا، لمرحلة ما بعد الاستعمار، صراع آخر لا يقل خطورة عن الأول؛ وهو الصراع على زعامة المنطقة وقيادتها سياسيا واقتصاديا.
في البداية انخرطت الدولتان في معسكرين مختلفين أثناء الحرب الباردة. ثم انتهت الحرب الباردة، وسقط جدار برلين في 1989. لكن برودة علاقات البلدين زادت إلى درجة تجميد الحدود بفرض المغرب التأشيرة على الجزائريين تلاه مباشرة إغلاق الجزائر لحدودها البرية مع المغرب سنة 1994. أما الحركة عبر المجال البحري فتكاد تكون معطلة عمليا منذ رحيل الاستعمار.
وهكذا، ففي الوقت الذي غيرت فيه الحرب الباردة خصمها ومجالها، وسقطت فيه جدران الأيديولوجيا تبقى أيديولوجياتنا الوطنية مستعصية على الإسقاط عندنا، وكأن لا شيء تغير في العلاقات الدولية وفي العالم. وبسبب هذا الصراع على الزعامة ازدادت، وتزداد التشنجات البينية. وقد رُفع خطاب التوافق والتراضي، الأساس في العلاقات بين الدول زمن السلم، من قاموس العلاقات المغربية الجزائرية. ونخشى أن يطول انتظارنا لعودة لغة التوافق قبل أن يتم فرضها علينا من قبل القوى الخارجية المؤثرة في الأحداث وفي القرارات الدولية، حين ترى أن لها مصالح ومنافع أكثر مما تجنيه الآن من لغة تنافر الدولتين.
... وما المخرج؟
واليوم، ومجددا، ألا نكون على حق أن نكرر طرح السؤال: ألم يحن الأوان للخروج من هذا المأزق الذي نحن فيه، بل من الهاوية التي تدحرجت إليها العلاقات المغربية الجزائرية، كي لا يتم اغتيال حق الشعبين الجارين في بناء علاقات إيجابية في المستقبل، بعد أن تم "إعدامها" في مرحلة نصف قرن انقضى في الصراعات التي لم يكن فيها الشعبان إلا حطبا لأهواء ونزوات الحكام وحواشيهم في مراكز القرار وأصحاب العقد بدون حل؟
طرح ويطرح هذا السؤال وأمثاله، تصريحا أو تلميحا، مرات عديدة، كلما التقى مواطنون أحرار مغاربة وجزائريون يشعرون ويدركون استفحال الوضع غير الطبيعي لعلاقات البلدين. لكن للحقيقة نذكر بأن التحليلات والأجوبة المقدمة لا تتعدى في الغالب الإشادة بقيم الإخاء التي جمعت بين الشعبين أثناء الكفاح للتحرر من الاستعمار. وحين يتطور الحوار بينهما يسجلون بأسف عميق الكلفة الباهظة وانعكاساتها على الشعبين بسبب غياب سياسة التوافق والتعاون بين الدولتين. وتنتهي هذه الحوارات / الدردشات إلى تسجيل غياب أدنى المشاعر الأخلاقية والإنسانية عند هذه الدولة أو تلك. ويتعلق الأمر بصفة خاصة بحرمان جالية كل بلد في بلد الجار الآخر، القاطنة في الغالب في مناطق الحدود، من التواصل بينها في الأفراح والأتراح على الأقل، بسبب غلق الحدود البرية. وكثيرا ما يزعم البعض أن المسؤولية فيما يجري بين البلدين تتحملها الحكومات وحدها. قد يكون هذا الحكم صحيحا لو رأينا مظاهرات شعبية في البلدين تحتج وتطالب بغير ما يجري.
نعتقد جازمين بأن غياب اقتراحات تقديم الحلول لتجاوز الوضع العالي في العلاقات المغربية الجزائرية لا يعني غياب الحكماء العقلاء في البلدين القادرين على ذلك، وإنما الآمر في نظرنا يتعلق بما يلي
أولا، أسبقية السياسي على الفكري، فعندما يصدر السياسي، صاحب السلطة، المالك لحق التولية والعزل في مناصب الدولة وحده، المتحكم في أرزاق الناس، أوامره، يبتلع كل الناس وخاصة أصحاب المصالح لسانهم، وهي سمة عربية عامة تعود أسسها إلى فجر الدولة العربية الإسلامية، وتتميز بها كذلك الأنظمة غير الديمقراطية التي تلغي التشاور والحوار، التي تحتكر التفكير والحل لكل قضايا المجتمع الداخلية والدولية.
ثانيا، استمرار أحزاب الحركة الوطنية في السلطة، أو استمرار ممارسة السلطة باسمها وبشعاراتها. والعقدة لا تكمن في أسماء أحزاب بعينها، وإنما في أيديولوجياتها التي تحولت من مناهضة الاستعمار إلى عداء الجار، كمسوغ لاستمرارها في الحياة السياسية لمرحلة ما بعد الاحتلال لفرض الاحتقلال.
ومن هنا نرى أن التوافق والتقارب بين المغرب والجزائر وتجاوز الوعي في شعاراتهما غير ممكن التحقق في الوقت الراهن في ظل وجود هذه الأحزاب وإيديولوجياتها الت قامت على غرس الكراهية والعداء.
هذه الأيديولوجية كانت مقبولة في زمن الاستعمار. وكان ينبغي أن تنسحب من ممارسة السلطة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة في مرحلة الدولة الوطنية لتعارض فلسفتها مع متطلبات الواقع الشعبي الجديد في البلدين؛ فالكراهية والعداء لهما وظيفة واحدة في التاريخ الإنساني، وهي خراب العمران البشري، ووشائج القربى بين الشعوب والأمم
ونحن لا نزال نرى اليوم هذه الأحزاب وأيديولوجياتها مستمسكة بالسلطة في كلا البلدين، واحتكارها لخطاب الوطنية، الذي نعتقد بأن أصحابه يتحملون مسؤولية ما آلت إليه العلاقات المغربية الجزائرية. وكنا نعتقد أنه بعد انهيار نظام بن علي في تونس، وحل حزب التجمع الدستوري الديمقراطي، بالحكم القضائي بسبب مسؤوليته على القمع الذي مارسه على الشعب وتأييد استبداد بن علي كنا نعتقد أن نظراء حزب التجمع الدستوري في كل من المغرب والجزائر سيستخلصون الدرس والعبرة وتنسحب من الحياة السياسية لكي تحافظ على ما تبقى لها من رصيد النضال الوطني في مرحلة الكفاح ضد الاستعمار، ولكي ألا تتعرض لمصير الحزب التونسي بالثورة الشعبية أو بالحكم القضائي.
لكن عوض ذلك رأينا محاولات تونسية يقودها مجموعة من الحرس القديم بزعامة السيد الباجي قايد السبسي تقوم بتأسيس حزب ''نداء الوطن'' أو "حركة نداء تونس"، على حسب مختلف التعابير، لكن بمرجعية واحدة هي مرجعية حزب التجمع الدستوري، وريث الحزب الدستوري الجديد، الذي ورث هو بدوره الحزب الحر الدستوري القديم المؤسس سنة 1920. وفي الوقت نفسه نرى معاندة أحزاب الحركة الوطنية في كل من المغرب والجزائر لحركة التاريخ، ولإرادة جيل الشباب في التغيير والتطور بمنظور زمانهم لا بمنظور أجدادهم. فإلى أين نحن سائرون ومتجهون؟
مهما تتعدد الآراء حول طبيعة دور أحزاب الحركة الوطنية ومكانتها في السياسات الداخلية لبلدانها ومساهمتها في تطورها أو في تخلفها، وفي مساندة الاستبداد والفساد أو براءتها من ذلك، فإن فشلها من التخلص من أيديولوجية العداء للجار لا يرقى إليه الشك. فهل يحق لنا أن نطالبها باسم القيم التي كانت تطالب بها الاستعمار بالرحيل عن الوطن، أن تترك شعبينا أن يقررا مصيرهما، ويختارا المستقبل المنشود بدون حِجْر أو وصاية. فبعد خمسين سنة من استقلال الجزائر وقرابة ستة عقود من استقلال المغرب، نعتقد جازمين بأن الحكم على الشعبين بأنهما لم يصلا بعد سن الرشد السياسي لتقرير مصيرهما ومستقبل جوارهما لا يختلف في جوهره من ذرائع الاستعمار الذي كان ينكر على الشعوب قدرتها على ممارسة حريتها واستقلالها.
الخاتمة
وفي الختام نجدد تهنئة الشعب الجزائري بالذكرى الخمسينية من استقلاله المستحق بالرغم من ادعاءات الاستعمار وعملائه المعاكسة لوجهة التاريخ، وجدارة الشعوب بالحرية والكرامة. ونؤكد جهارا نهارا أن هذا المقال لا يعبر عن أي جهة، إلا جهة الأمل بألاّ يمر علينا نصف قرن آخر بنفس التشنجات والعداوات والصراعات بين البلدين الجارين، وألا يستمر نخبه الحاكمة ذاهلين مرة أخرى عن مقاصد الجيرة. ومن هنا فهو مقال موجه إلى المغاربة بالقدر نفسه الموجه به للجزائريين. فلا أحد معفي من مسؤوليته، وهو مقال ينتظر العقلاء والحكماء العارفين والمقدرين لمخاطر الوضع الحالي لعلاقات البلدين، وكل من يستطيع تلبية نداء المستقبل، لكسر جدار الصمت، وتجاوز رعب سيف ديموقليس الوطني، ونعود مرة أخرى لنصنع التاريخ، وسيكون لنا بذلك جدارة وشرف الانتماء إلى الأمير عبد القادر والأمير عبد الكريم الخطابي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.