هل الوضع الذي ينم عن الهشاشة والبؤس والضعف والجبن في العالمين العربي والإسلامي نوع من التأقلم مع مشاهد الإبادة الجماعية في قطاع غزّة؟ وهل يعكس الرغبة والقابلية الجماعية للهزيمة والاستسلام؟ هل هو القبول بالأمر الواقع كما فرضته قوات الاحتلال وكرّسته في شكل مقتلة ونكبة غير مسبوقتين في تاريخ الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي وفي تاريخ الحروب في مختلف أصقاع العالم؟ هل الصمت والخوف والتجاهل واللامبالاة العناصر التي باتت تحدّد مواقف الأنظمة في المنطقة؟ ما وصلت إليه الأوضاع في قطاع غزّة مأساة مركّبة وعملية انتقامية يتداخل فيها العسكري والسياسي والأمني والديني والأسطوري. عملية أراد بنيامين نتنياهو أن يطول أمدها، لأنها مرتبطة بمستقبله ومصيره السياسي. وبتماسك الحكومة المتطرفة التي يرأسها. تمادياً في همجيّته وإمعاناً في حقده وعربدته، جرّب جيش الاحتلال كل أنواع الأسلحة، بما في ذلك سلاح التجويع، ووقف بالمرصاد في وجه المساعدات الغذائية والطبية التي يحتاجها مئات الآلاف من النازحين الهائمين في كل اتجاه، والباحثين عن قطعة خبز وجرعة ماء. والمؤلم أن العالم برمّته عجز عن ردع قوات الاحتلال وكبح جنون حكومة يمينية فاشية وحماقاتها وتطرّفها. والسبب تواطؤ القوى الغربية الاستعمارية بقيادة الولاياتالمتحدة، وعجز دول المنطقة، والاتفاق المسبق والجاهز على هندسة خريطة جغرافية وديمغرافية جديدة في صالح إسرائيل، لأنها الطرف القوي الذي يفرض إملاءاته وشروطه، ويبذل كل ما في وسعه لدفن القضية الفلسطينية، واعتبار كل من ينتقدها ويندّد بجرائمها ومجازرها، هو بشكل تلقائي وأوتوماتكي معاد للسامية. وهذه اللعبة تستغلها إسرائيل بشكل انتهازي وغير أخلاقي، لترتكب ما تشاء من مذابح، وتخرق القوانين، وتسلّح المستوطنين وتحميهم وهم يعتدون على ممتلكات الفلسطينيين ومنازلهم في الضفة الغربية والقدس، ويدنسون المسجد الأقصى بأداء طقوس وصلوات تلمودية في استفزاز سافر للمشاعر. وليس هناك شك في أن إسرائيل حوّلت التطبيع والصمت العربي والإسلامي الرسمي وتواطؤ الغرب إلى سلاح فتّاك استغلته حكومتها المتطرفة والعنصرية لتنسف ما تبقّى من أوهام السلام، بما في ذلك حلّ الدولتين الذي لا مكان له في العقل الإسرائيلي الجماعي. حوّلت إسرائيل التطبيع والصمت العربي والإسلامي الرسمي وتواطؤ الغرب إلى سلاح فتّاك استغلته حكومتها المتطرفة والعنصرية لتنسف ما تبقّى من أوهام السلام تضع إسرائيل نفسها فوق القانون، ولا تلقي بالاً للأصوات التي تطالبها بوقف حرب الإبادة، ولا تكترث بالقانون الدولي الإنساني، ولا بحقوق الإنسان، ولا بأخلاقيات الحرب، بل تعتبر نفسها خارج المساءلة والمحاسبة. وكان لافتاً أن مسؤولين منها تطاولوا أكثر من مرّة على أمين عام الأممالمتحدة وعدة رؤساء دول وحكومات وقضاة في محكمتي العدل والجنائية الدوليتين، واتهموهم بمعادة السامية، وإضمار كراهية تجاه اليهود. وتعمد إسرائيل بشكل مفكر فيه في استخدام "معاداة السامية" و"الهولوكوست" بغرض الابتزاز وتسويق نفسها ضحية، وهي الظالمة والقاتلة والمحتلة. وليست الدولة العبرية بمؤسّساتها ومختلف أذرعها العسكرية والمدنية وحدها التي توظّف هذا السلاح، بل أيضاً الجمهور الإسرائيلي ووسائل الإعلام والتنظيمات المدنية، فكلما تعرّضت الحكومة الإسرائيلية وجيش الاحتلال لانتقادات أو تنديد يخرج هذا الجمهور من غمد التاريخ تهماً جاهزة، أولها "معاداة السامية"، إلى درجة فقدت معها هذه المصطلحات دلالتها ومعناها. ويكفي هنا أن نتوقّف عند الرسالة التي بعث بها مجرم الحرب بنيامين نتنياهو إلى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. عندما استفزّه هذا الأخير بقرار الاعتراف بالدولة الفلسطينية. وكأنه وضع حبل المشنقة حول عنقه وخنقه خنقاً. وهي رسالة كتبها نتنياهو بلغة تفتقد إلى اللياقة الدبلوماسية، وفيها تطاول وادّعاءات وغرور. وقد أزعج نتنياهو وأغاظه فعلاً وجعله يخرج عن طوره قرار الاعتراف بدولة فلسطين، وليس "معاداة السامية" كما يدّعي، فالدولة الفرنسية سنّت من القوانين، واتخذت من الإجراءات ما يضمن سلامة جميع مواطنيها وأمنهم، بصرف النظر عن العرق واللغة والدين. وقد خاطب الرئيس ماكرون نتنياهو "تصميمنا على أن يكون للشعب الفلسطيني دولة ينبع من قناعتنا بأن السلام الدائم ضروري لأمن دولة إسرائيل، ولتكاملها الإقليمي الكامل في شرق أوسط ينعم بالسلام أخيراً، ولعملية التطبيع التي ندعمها، ويجب أن تكتمل في أسرع وقت ممكن". كما أن إشارة الرئيس الفرنسي في رسالته إلى مجموعة من الجرائم، من قبيل التهجير والتجويع والرغبة المعلنة لضم الضفة الغربية وإعادة احتلال غزّة تعدّ، في نظر نتنياهو وحلفائه من أمثال بن غفير وسموتريش، ضربة ماحقة من بلدٍ عضوٍ دائم في مجلس الأمن، وفاعل أساسي في الاتحاد الأوروبي، وصديق تاريخي لإسرائيل. حيث قال إيمانويل ماكرون "احتلال غزّة، والتهجير القسري للفلسطينيين، وتجويعهم، وضم الضفة الغربية، لن يحقق النصر لإسرائيل أبداً. بل على العكس، سيعزّز عزلة بلدكم، ويغذّي أولئك الذين يجدون ذريعة لمعاداة السامية"، وطالب بالتخلي عما وصفه ب"الاندفاع القاتل وغير القانوني نحو حرب دائمة في غزّة". ميل الحكومة الإسرائيلية الحالية إلى نفي كل ما يوجه إليها من اتهامات وانتقادات ومؤاخذات. ورفضها القاطع مختلف المبادرات والوساطات والمساعي، بما في ذلك رفضها الإقرار بارتكابها جريمة التجويع، ودفاعها عما تسميه حسن سلوك جيشها، ومردّ ذلك كله الحماية السخية التي توفرها لها الولاياتالمتحدة، والدعم اللامشروط وغير المسبوق الذي تخصّها به. وهذا ما يدفعها إلى خرق القوانين، وانتهاك الحقوق، وارتكاب كل الجرائم، وتنكيلها بكل الأعراف والقيم والمبادئ، لتنفذ سياساتها التوسعية، وتترجم على الأرض أحلامها في تحقيق إسرائيل الكبرى. وقد أعلن التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي في تقريره الذي صدر أخيراً، انتشار المجاعة في محافظة غزّة، مبيّناً أنها تؤثر حالياً بأكثر من نصف مليون إنسان، وقد تمتد إلى دير البلح وخانيونس في الأيام المقبلة، وادعى مكتب نتنياهو أن التقرير "كذبة واضحة". ويقول ما يقول بكل شراسة ووقاحة وثقة في النفس تدعمها الإدارة الأميركية، ما يجعل إسرائيل تتمادى في تغوّلها وميلها إلى المواقف الأكثر تطرّفاً وتشدّداً. وفيما دعا أعضاء المجلس إلى إنهاء المجاعة في قطاع غزّة فوراً، وطالبوا إسرائيل بالتراجع عن قرارها توسيع عملياتها العسكرية ووقف إطلاق النار، وأعربوا في بيان مشترك عن القلق العميق من المجاعة التي أعلنت الأممالمتحدة رسمياً انتشارها في محافظة غزّة، إلا أن الولاياتالمتحدة استثنت نفسها، وأيدت أفعال إسرائيل الإجرامية التي تقع خارج نطاق القانون، وقالت المندوبة الأميركية في الجلسة إن بلادها ترفض ما سمتها "كذبة سياسة التجويع" في غزّة، واستنكرت تقرير "التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي" المدعوم من الأممالمتحدة، قائلة إن هذه الجهة "أخفقت في الاختبار" . العالم برمّته عجز عن ردع قوات الاحتلال وكبح جنون حكومة يمينية فاشية وحماقاتها وتطرّفها وما كان للكارثة الإنسانية أن تحدُث في غزّة، لولا قرار الحكومة الإسرائيلية، المتفوّقة عسكرياً والقوة القائمة بالاحتلال، استخدام الجوع سلاحاً. ورغم أن المجاعة ليست مقصورة على قطاع غزّة في خضم النزاعات المشتعلة في أكثر من منطقة في العالم، فإنها الحالة الوحيدة التي أنتجها نظام يُصنّف نفسه "ديمقراطيّاً"، ويحظى باعتراف كامل من المعسكر الغربي، الأمر الذي ضمن له حصانة تامة، تعتمد بشكل أساسي، كما سبقت الإشارة، على دعم الولاياتالمتحدة غير المشروط. ويدرك رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، أنه دعم ثابت، فحتى عندما غادر الرئيس الديمقراطي جو بايدن البيت الأبيض، تغاضى عن القيود الإسرائيلية على المساعدات الإنسانية إلى غزّة. أما الإدارة الحالية التي يقودها الرئيس دونالد ترامب، فذهبت إلى ما هو أبعد في تأييدها إسرائيل، بل شكّكت في إعلان المجاعة بقطاع غزّة، متناغمة مع مزاعم نتنياهو أن الإعلان "دعاية من حماس"، من دون أن ننسى هجوم ترامب الحادّ على المحكمة الجنائية الدولية التي أصدرت مذكرتي توقيف بحق نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف غالانت. وتحظر البروتوكولات الإضافية لاتفاقيات جنيف لعام 1949 هذا السلوك بشكل لا لبس فيه، وتعتبره جريمة حرب. وعليه، لا يمثل التواطؤ الأميركي فقط خطأً سياسياً، بل أيضاً خطيئة أخلاقية وتنصّلاً من المبادئ وقيم الديمقراطية والإنسانية التي طالما تباهت بها الولاياتالمتحدة، عندما قصفت قوات الاحتلال مستشفى ناصر في جنوب غزّة، وأسفر عن مقتل ما لا يقلّ عن 20 شخصاً، بينهم خمسة صحافيين يعملون في مؤسّسات إعلامية دولية، نسجت بشأنهم قوات الاحتلال افتراءات وتهماً مغرضة متعمّدة قصد شيطنتهم وتجريمهم. ولم يكن ما حصل مجرّد واقعة عرضية، بل نتيجة حتمية لسياسات رئيس الوزراء الإسرائيلي الساعية إلى إطالة أمد الحرب للهروب من محاكمته. وربما كان يتهكّم وغير صادق بالمرّة، عندما صرّح بأن إسرائيل تأسف بشدة لما وصفه بالحادث المأساوي، في إشارة إلى مقتل الصحافيين الخمسة. والحقيقة التي لا يريد أن يقرّ بها نتنياهو أن العالم بات يميّز بين حرب من أجل بقاء دولة إسرائيل، رغم أنها حرب لا تنطوي على أية شرعية، وحرب تخوضها حكومته دفاعاً عن بقائه السياسي. المصدر: العربي الجديد