تعيش فئة من الأطفال واليافعين بيننا أقصى درجات المعاناة، يتألمون في صمت، القليلون منا هم من يحسون بمعاناتهم. آباء وأمهات يعيشون حدث وفاة أبنائهم لحظة بلحظة، لم يكونوا يتصورون أن إعاقة أبنائهم من النوع النادر الذي سينتهي بوفاتهم بشكل بطيء. فئة لاوجود لها في أجندة اهتمامات الدولة ومؤسساتها، فئة لم تحظ برعاية الدولة ولن تحظى بدعم لمؤازرتها مادامت رخص الاستغلال «لاكريمات» والتي كان من المفروض أن تمنح لهم لمساعدتهم على تحمل تكاليف الحياة والرعاية الاجتماعية، تفرق بمنطق غير المنطق الذي أحدثت من أجله أصلا. إنهم معاقون من نوع آخر، أطفال كانوا يعيشون حياة عادية إلى أن أصبحوا عاجزين عن المشي في مرحلة من حياتهم، أضحوا عاجزين عن التحرك بعد أن أصبحوا كومة عظام فقط تغطيها طبقة جلدية، عاجزين عن التنفس، ليسلموا الروح بعد معاناة مريرة مع المرض. من منا يعرف مرض la myopathie أو الوهن العضلي؟ القليل منا يعرفه والقليل القليل منا يعرف بأن هناك عائلات تعاني بشكل يومي. أورد هنا نموذجا لمعاناة طفل عايشته عن قرب، تجاوز السابعة عشرة من العمر بقليل قبل أن توافيه المنية نهاية الأسبوع الماضي بعد معاناة دامت طيلة حياته. لم يكن معاذ يحتج أو يتبرم أو يبدي أي تصرف يجعلك تحس بأنه يشتكي ألماً، كان دائم الابتسامة الى اللحظة التي أسلم فيها الروح إلى باريها ، قبيل وفاته بقليل وهو في كامل وعيه كان يطلب من والدته أن تسامحه لأنها تعذبت معه كثيرا، كان يقول لها بصوت اليافع المؤمن بقضاء الله وقدره « ... سامحيني على كل التعب الذي سببته لك، سامحيني فقذ تعذبت معي كثيرا..»! ففي الوقت الذي أدارت فيه الدولة المغربية وجهها وأقصت معاذ وكل من يعاني من نفس مرضه من اهتماماتها، اقترحت إحدى الجمعيات الفرنسية التكفل به في مركز خاص لهذا النوع من المرضى بفرنسا، اقترحت عليه أن تتحمل كافة مصاريف الرحلة والإقامة بفرنسا، للعناية به خلال مراحل المرض حتى آخر لحظة من حياته. رفض والدا معاذ العرض بشكل قطعي، فالأسرة لن تفرط في ابنها ، فهما يفضلان أن يتحملا تعب العناية به إلى آخر العمر خاصة والدته نصيرة والتي لم تكن تقصر جهدا في الاعتناء به، بالرغم من كونه ليس وحيدها، بل لها من الأبناء ثلاثة وكانت هي بدورها تعاني في صمت مادامت الوزارة الوصية قد غيبت هذه الفئة من المواطنين، ومادامت الدولة عاجزة حتى عن القيام بالتفاتة بسيطة تجاههم.. أسر تحتضن عزيزا عليها تحيطه بعناية خاصة جدا، أسر تتحمل بالإضافة إلى مصاريف العلاج، عبء الرعاية من دون تذمر أو احتجاج . إنهم أشخاص يعانون أقصى درجات الإعاقة إلى حد تصبح حياة الوالدة والوالد وبعض الإخوة معاناة في سبيل رعاية المعاق. الحديث عن المعاق والإعاقة ببلادنا لايتجاوز الخطابات الرسمية والوصلات الإشهارية وبعض الحملات الموسمية لتقديم الكسوة والقليل من المواد الغذائية، فالإعاقة مناسباتية على ما أعتقد ! وكأني بالمسؤولين عندنا يعتبرون أن كل معاق يستجدي الإحسان والصدقة، وكأني بهم يريدون ترسيخ مفهوم جديد للإعاقة. أستحضر هنا حديث المرحوم معاذ منير، فقد أخبرني بأنه عندما كان يلازم كرسيه المتحرك في الشارع كان البعض يحسب أنه متسول وكانوا يعطونه صدقة كان يرفضها بالطبع! على المعاق في بلادنا أن يتوجه الى المراكز الاجتماعية، عليه أن يبحث بنفسه عن الجمعيات العاملة في هذا المجال للاستفادة من خدماتها، عليه أن يتنقل مرات ومرات في اليوم إن أراد أن يسمع صوته للمسؤولين. كل الذين حاورناهم اعتبروا أن المغرب وإن كان الخطاب الرسمي يتحدث عن حقوق الشخص المعاق، إلا أنه بمجرد أن تطرق باب مسؤول أو منتخب يعتقد أنك تستجدي الإحسان أو الصدقة. في بلادنا لاوجود للمساعدة الاجتماعية والنفسية للشخص المعاق ولأسرته، لا وجود للنظريات الحديثة للرعاية الاجتماعية، وكيف للأسرة أن تتفاعل مع طفلها المعاق، في المغرب عندنا المساعدة الوحيدة للمعاق لاتخرج عن السكر والزيت والدقيق والشاي والملابس، لا تخرج عن منطق الإحسان والصدقة في غياب تام لزيارات الأسر ومرافقتهم في عملية رعاية الأبناء. هناك الآلاف من المعاقين الذين لايغادرون منازلهم بالمرة، الآلاف الذين يقضون بقية حياتهم ممددين على الفراش تحضنهم الأسرة الصغيرة في انتظار أن تلتفت الدولة إليهم وتحيطهم بعنايتها. حالات مأساوية وصور أطفال يموتون في بطء أمام أعين أسرهم، والجميع يبكي من غير دموع يتألم حسرة على طفولة لم يقدر لها أن تعي معنى الطفولة، أطفال لم يكتب لهم أن يستمتعوا بالحياة واكتفوا بمراقبة مايدور حولهم، لم يفقدوا الأمل ، بالرغم من أن الأمل في ظل الألم وتجاهل المسؤولين ، مفقود تماما...