في منحنى الطريق المؤدي الى تطوان، عند نقطة التقاء الغبار بحرارة غشت، تبدأ طوابير السيارات في التباطؤ. نوافذ نصف مفتوحة، واطفال يتململون في المقاعد الخلفية، وسائقون يحدقون في الفراغ. لا شيء هنا يوحي بأن البحر قريب، سوى اتجاه العبور الجماعي نحو مكان آخر. فالمدينة التي تقف عند مفترق الشواطئ لا تملك واحدا منها، ومع ذلك تمتلئ في الصيف أكثر مما تحتمل. - إعلان - يبدأ التباطؤ من السد الأمني عند مدخل المدينة، حيث تدار حركة المرور بسلاسة مدروسة، ويبدو واضحا ان الهدف ليس توقيف السائقين، بل تنظيم التدفق المتزايد للمركبات. نادرا ما تسجل توقيفات مطولة، وغالبا ما تقتصر العملية على مراقبة مرنة لا تعمق الزحام. ومع ذلك، فان حجم العبور يتجاوز احيانا ما يمكن لاي تنظيم استيعابه. من هناك، يمتد الزحام كظل ثقيل على طول وادي المحنش، ويتفرع لاحقا في اتجاهين: طريق مرتيل شمالا، وطريق ازلا شرقا. المساران متشابهان في البطء، مختلفان في النهايات. احدهما يؤدي الى شواطئ الفنيدق والمضيق، والاخر يتعرج نحو الساحل المتوسطي الذي تطل عليه جماعات ومراكز قروية. وفي الحالتين، تبقى تطوان مجرد مرحلة عالقة بين الانطلاق والوصول. ووفق تقديرات غير رسمية، فان هناك اكثر من 20 ألف مركبة تعبر تطوان يوميا خلال ذروة الموسم، متوجهة الى شواطئ لا تقع ضمن النفوذ الاداري للمدينة. في بعض الايام، يمتد الازدحام في اتجاه واد لاو لمسافات تتجاوز خمسة عشر كيلومترا، خصوصا في المقطع الرابط بين امسا ومدخل المدينة. ومن جهة كويلمة، تتباطأ حركة السير بشكل لافت نحو مرتيل، حيث تزداد الكثافة مع اقتراب المساء. عند الغروب، تتقاطع موجتان في قلب تطوان: عائدون من الشواطئ الشرقية، وقادمون نحو مرتيل والمضيق لاجل نزهة ليلية. تتداخل الاتجاهات، ويصبح السير بطيئا في كل الممرات. شوارع المدينة، التي لم تصمم لهذا الضغط، تتحول الى مساحات انتظار طويلة، يصعب فيها التمييز بين الوصول والمغادرة. ورغم هذا التدفق الهائل، لا تملك المدينة بنية استقبال موازية. عدد الفنادق المصنفة في تطوان لا يتجاوز عشر وحدات. وفي يونيو الماضي، سجلت المدينة أقل من 35 ألف ليلة مبيت، بحسب بيانات رسمية صادرة عن وزارة السياحة. رقم هزيل إذا ما قورن بمدن مجاورة اصغر حجما، لكنه يعكس بوضوح ان المدينة ليست وجهة، بل ممرا. ولا تتوفر تطوان على اي شاطئ حضري. فالشواطئ المجاورة، من مرتيل الى واد لاو، ثم قاع اسراس والجبهة، كلها تتبع اداريا جماعات ترابية اخرى. ومع ذلك، تتحمل المدينة العبء الكامل للعبور اليها. تزداد استهلاكيات الماء والكهرباء، وتتعالى شكاوى النقل الداخلي، وتستنزف خدمات النظافة، فيما تبقى الجماعة الحضرية خارج معادلة العائد. يقول مصطفى، وهو موظف في الخمسينات من عمره، يسكن وسط المدينة: "تطوان ليست مدينة بلا بحر، بالعكس… البحر كله يحيط بها. مرتيل وازلا والمضيق هي امتداد طبيعي لها، حتى وان لم تكن تحت ادارتها". بالنسبة لهذا الرجل، فإن التقسيم الإداري لا يعكس شعور السكان بالانتماء المجالي. "الناس هنا لا يرون فرقا، واللي ماجي من الرباط ولا من فاس، غادي يقول لك: مشيت نبحر فتطوان". وعلى النقيض، يرى محمد، سائق سيارة اجرة، ان هذا الخلط يفاقم المشكلة: "كلشي كايجي على اساس تطوان، ولكن المدينة ماشي مهيأة تستقبل هاد الضغط… كايجي الزحام علينا، والبحر راه فجهة اخرى". ويضيف بابتسامة: "واش كاين شي مدينة كايتحسب عليها البحر وهي ما عندهاش حتى رملة وحدة؟". لا توجد رسوم مرور، ولا ضرائب سياحية خاصة، ولا استفادة من تنظيم مواقف الاصطياف، التي تدر مبالغ مهمة في مدن الشريط الساحلي. حتى المبادرات التنظيمية تبقى محدودة. لا خطة تنسيقية مع باقي الجماعات، ولا مسالك بديلة مؤقتة. وحدها شوارع تطوان تدفع ثمن الموسم، مرة كل صيف. ورغم ان جهة طنجة–تطوان–الحسيمة سجلت نموا بنسبة 7.2% في عدد ليالي المبيت خلال شهر يونيو، فان ذلك لم يشمل تطوان. بل على العكس، سجلت المدينة تراجعا طفيفا في المؤشرات السياحية مقارنة بالسنة الماضية. ما يؤكد ان الزائر لا يبيت، بل يمر فقط. المدينة، التي تشتهر بمدينتها العتيقة البيضاء واسوارها الاندلسية، تختزل في الصيف الى مجرد معبر. العابرون لا يقفون كثيرا. يصرفون النظر عن مآثرها، ولا يلتفتون الى هدوئها القديم. يتبعون رائحة البحر الى مكان آخر. وحتى من يبيتون لليلة، يفعلون ذلك على عجل، قبل ان يواصلوا نزولهم نحو الساحل. وتطرح اسئلة داخل الجماعة حول العدالة المجالية، وجدوى استمرار هذا الوضع. لا اجابات رسمية حتى الآن. ولا مؤشرات على رغبة مركزية في اعادة التوازن. في ظل هذا الغياب، تبقى تطوان في موقع لا يحسد عليه: تستقبل، لكنها لا تُستقبل. في تطوان، لا احد يذهب الى البحر. الجميع يمرّ منه. مدينة تحضر في اسماء الشواطئ، وتغيب عن صورها. تصعد في ذاكرة الرحلة، لا في تفاصيلها. لا تطلب كثيرا، ولا تأخذ شيئا. تكتفي بان تبقى حلقة وصل بين الداخل والساحل، وتتحمل وحدها ما يخلفه العبور الجماعي من فوضى صامتة.