خلعتُ الحِذاءَ. أنا الآن أدخُل الماءَ. الماءُ صافٍ إلاّ مِنْ شهواتي التي اكتظّتْ بها ساعةُ الفجْرِ. شهواتي تقطُرُ عسلاً مالِحًا على الرّملِ. الرملُ يتثاءبُ من فرطِ السَّهرِ ويتمطّى بل ويتكسّلُ مثل أعزَبَ في سِنِّ العشرين "البارحةَ، قبل عشرين عامًا، كان عُمُري عشرين حُلْمًا". فتًى يخرُجُ من ثوبِه ويُلْقي بروحِه في الماءِ. هو يعرِفُ أنَّ حورياتِ البحرِ يخرُجنَ من قصورِهنّ قبلَ خروجِ الشمسِ من عَتْمةِ الكونِ. ويعرِفُ أنّي أراه اللحظةَ يغرَقُ في نشوتِه باختراقِ مَوْجاتٍ عَنيداتٍ يسحَبْنَ المدينةَ من أيدي عُشّاقِها إلى أعماقِ الماءِ حتى يُعمِّدْنَها بأضواءِ اللُّؤْلُؤِ النَّشْوانِ بِوِحدتِه. أنا الآن وحيدٌ كاللُّؤْلُؤِ والماءُ يُراوِدُني على نفسي. *** سأشكرُ البحرَ على كلِّ شيءٍ: على امتدادِه فينا، على نَدَاه، على هذه المنحوتاتِ الآدميّةِ التي تسبحُ فيه مثلَ سمكاتِ "البُوري". أشكرُ البحرَ على ضوضاءِ حركةِ مَدِّهِ وجَزْرِه وهما يتناوبانِ بفوضى مُوقَّعةٍ بإيقاعِ النَهَاوَنْدِ. وأشكرُه على صَبْرِه عليَّ. ولي للبحرِ عِتابٌ. هو عِتابٌ ممزوجٌ بالغِيرةِ والحَسَدِ. أنا في الحُبِّ حَسودٌ. أحسدُ الماءَ حين يُداعِبُ لُحومَ أسماكِ بناتِ حوّاءَ دون أن يدفعَ فِلْسًا واحِدًا، أحسدُ فيه قُدرَتَه على الغِوايةِ والجَذْبِ. البحرُ، هذا الماءُ المالِحُ، أبْلَغُ منّي في الصمتِ. هو لا يكشِفُ عن أسماءِ حبيباتِه، ويتستّرُ على عُرْيِهنَّ. البحرُ لا يشي بجَمالِ العَراءِ. هو فضاءُ العَراءِ الذي لا يوصفُ باللغةِ إلاّ بأمرِ سُلْطانٍ يسكُنُ في قُبَّةِ التخييلِ. *** الماءُ بلغَ كَتِفيَّ وأنا أمشي صوبَ مزيدِ من الماءِ. الماءُ بارِدٌ ممزوجٌ بحرارةِ الوِلادةِ. أتحسَّسُ أعضائي: لم أفقِدْ منها شيئًا، الحمدُ للهِ أنْ منعَ البحرَ أسنانًا وقواطِعَ وإلاَّ لَعضَّني وتفرّقَ دمي في المُحيطاتِ. سأكونُ واضِحًا وجريئًا: أنا الآن أخافُ البحرَ وأحسدُه. أبدًا. أنا الآن أتمنّى البحرَ يحمِلُني على جناحِ موجةٍ من موجاتِه إلى ضِفَّةٍ تنفَتِحُ أبوابُها على الجنّةِ "سأدخُلُ الجنّةَ من بابِ البحرِ حيث هناكَ أولياءُ اللهِ ينفُخونَ في المَباخِرِ فتَفوحُ روائحُ الوشقِ ويرقُصُ الصّوفيّةُ من وَفْرَةِ الخَدَرِ العاطِفيِّ". الماءُ يرفَعُني من الأرضِ قليلاً ويُراقِصُني، يااااااااه ما أحلى الرقصَ في الماءِ!! لا أدري لِمَ تذكّرتُ الآن "تمارا" و"صافيناز" و"رَماح" وحنان" والماءَ الرّوميَ وأبي؟ ثمّةَ أنثى تقطِفُ أولى أشعّةِ الشمسِ وترميني بها في دَلالٍ. هل هي تعوني إليها؟ ربّما. هل هي تُغويني؟ ربّما. هل هيَ لي؟ لا. هي لهذا البحرِ: منحتْهُ ما تملكُ من فِتْنةٍ في الأرضِ، ومنحتْهُ أسرارَها ومنعتني رقمَ هاتِفِها حتى لا أعرِفَ أخبارَها. أحسدُ البحرَ على صبرِهِ عليّ إلى الآن ولم يبلغْ ماؤُه رأسي. هل أنا أحلُمُ؟ لا. أنا أغرَقُ.