نقابة "البيجيدي" ترفض مقاربة الحكومة للحوار الاجتماعي    أمطار قوية أحيانا رعدية غدا الأربعاء بعدد من أقاليم شمال المغرب    أسعار النفط تهبط للجلسة الثالثة ترقبا لمباحثات هدنة في غزة    "الأمم المتحدة": تدخل الشرطة "غير متناسب" ضد احتجاجات الجامعات الأميركية    ال"طاس" تصفع النظام الجزائري وترفض طلب الاتحادية الجزائرية بشأن مباراة اتحاد العاصمة وبركان    عرض فيلم "الصيف الجميل" للمخرجة الإيطالية لورا لوتشيتي بمهرجان تطوان لسينما البحر الأبيض المتوسط    فيلم من "عبدول إلى ليلى" للمخرجة ليلى البياتي بمهرجان تطوان لسينما البحر الأبيض المتوسط    حريق المتلاشيات بإنزكان.. العثور على جثة متفحمة والأمن يفتح تحقيقا (فيديو)    الدكتور هشام المراكشي يصدر مؤلفه الجديد 'نوازل العقار في الفقه المالكي والعمل بأحكامها في القضاء المغربي    السكوري: الحوار الاجتماعي نال إعجابا دوليا.. وأولويتنا تحسين دخل الشغيلة    مدينة طنجة توقد شعلة الاحتفال باليوم العالمي لموسيقى "الجاز"    تكريم الممثل التركي "ميرت أرتميسك" الشهير بكمال بمهرجان سينما المتوسط بتطوان    التلسكوب الفضائي"جيمس ويب" يلتقط صورا مفصلة لسديم رأس الحصان    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    الناصيري ل"الأيام 24″: أشغال ملعب "دونور" تسير بوتيرة سريعة ومعالم الإصلاح ستظهر قريبا    أندية سعودية تغري "وست هام" للتخلي عن أكرد    بطولة إفريقيا للجيدو.. المنتخب المغربي يحتل المركز الثالث في سبورة الترتيب العام    رئيسة الجمعية العامة لليونيسكو تطلع على ورشة لتكوين صناعة الزليج التقليدي التطواني    البحرية الملكية تقدم المساعدة ل81 مرشحا للهجرة غير النظامية    ثلاث وفيات وعشرون حالة تسمم بأحد محلات بيع المأكولات بمراكش    ثلاثيني يُجهز على تلميذة بصفرو    تسارع نمو الاقتصاد الإسباني خلال الربع الأول من العام    بورصة الدار البيضاء تفتتح تداولاتها بأداء سلبي    ثمان نقابات بقطاع الصحة تعلن عن سلسلة إضرابات وتحشد لإنزال بالرباط    هل تحول البرلمان إلى ملحقة تابعة للحكومة؟    حماس تستعدّ لتقديم ردّها على مقترح هدنة جديد في غزة    العصبة الاحترافية تتجه لتأجيل مباريات البطولة نهاية الأسبوع الجاري    النعم ميارة يستقبل رئيس الجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا    وحدة تابعة للبحرية الملكية تقدم المساعدة ل81 مرشحا للهجرة غير النظامية جنوب – غرب الداخلة    ستة قتلى في هجوم على مسجد بأفغانستان    فتاة هندية تشتكي اعتداءات جنسية .. الأب والعم بين الموقوفين    الوداد يحدد لائحة المغادرين للقلعة الحمراء    ف 5 يام ربح 37 مليار.. ماسك قرب يفوت بيزوس صاحب المركز الثاني على سلم الترفيحة    مع اقتراب افتتاح الاولمبياد. وزير داخلية فرانسا: خاص يقظة عالية راه وصلنا لمستوى عالي جدا من التهديد الارهابي    الموانئ الأوروبية في حاجة إلى استثمار 80 مليار يورو لبلوغ التحول الطاقي    أسترازينيكا كتعترف وتعويضات للمتضررين تقدر توصل للملايين.. وفيات وأمراض خطيرة بانت بعد لقاح كورونا!    حمى الضنك بالبرازيل خلال 2024 ..الإصابات تتجاوز 4 ملايين حالة والوفيات تفوق 1900 شخص    يتقاضون أكثر من 100 مليون سنتيم شهريا.. ثلاثون برلمانيًا مغربيًا متهمون بتهم خطيرة    الصين تتخذ تدابير لتعزيز تجارتها الرقمية    بطولة اسبانيا: ليفاندوفسكي يقود برشلونة للفوز على فالنسيا 4-2    مطار الحسيمة يسجل زيادة في عدد المسافرين بنسبة 28%.. وهذه التفاصيل    معاقبة جامعة فرنسية بسبب تضامن طلابها مع فلسطين    مواهب كروية .. 200 طفل يظهرون مواهبهم من أجل تحقيق حلمهم    مغربية تشكو النصب من أردني.. والموثقون يقترحون التقييد الاحتياطي للعقار    فرنسا.. أوامر حكومية بإتلاف مليوني عبوة مياه معدنية لتلوثها ببكتيريا "برازية"    أسماء المدير تُشارك في تقييم أفلام فئة "نظرة ما" بمهرجان كان    مشروبات تساعد في تقليل آلام المفاصل والعضلات    تحديات تواجه نستله.. لهذا تقرر سحب مياه "البيرييه" من الاسواق    مجلس النواب يطلق الدورة الرابعة لجائزة الصحافة البرلمانية    برواية "قناع بلون السماء".. أسير فلسطيني يظفر بجائزة البوكر العربية 2024    محتجون يغلقون "السوربون" بسبب غزة    المفاوضات بشأن اتفاق الاستعداد للجوائح بمنظمة الصحة العالمية تدخل مرحلتها الأخيرة    حكواتيون من جامع الفنا يروون التاريخ المشترك بين المغرب وبريطانيا    هيئة كبار العلماء السعودية: لا يجوز الذهاب إلى الحج دون تصريح    السعودية: لا يجوز الحج في هذه الحالة.. ويأثم فاعله!    قبائل غمارة في مواجهة التدخل الإستعماري الأجنبي (8)    الأمثال العامية بتطوان... (584)    الأمثال العامية بتطوان... (583)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المشهد الجديد في الفيلم الوثائقي العراقي


المشهد الجديد في الفلم الوثائقي العراقي
تجربة الغياب في لغة الصورة *

إن التجارب الحديثة للأفلام الوثائقية العراقية التي تميزت بموضوعاتها المختلفة والمتنوعة التي ِتضمنها المكون ألفلمي يضعنا حتما إمام انعطافة حقيقية في مسار هذا النوع من الأفلام الذي كان يعتمد بالدرجة الأساس على الريبورتاج أو التقرير الصحفي الذي لا يتعدى الشؤون العلمية والتربوية والتأهيلية والثقافية , وهذا لا يعني عدم وجود محاولات جادة لها رأيها وتفكيرها واختيارها , ولكن للأسف نقول إنها كانت محدودة العدد ويجري تداولها في نطاق ضيق ومحدود أيضا و ذلك يعود لسببين نعتقد هما فاعلين في الحد من أي ظاهرة تشب عن الطوق أولهما نشاط القطاع الخاص غير المرحب به أصلا , على الرغم من التظاهر بتأيده أو لابد من وجوده للمنافسة كما يدعي البعض والسبب الآخر هو أن وسائل الأعلام المحلية مثلا كانت تعتمد على ما تنتجه المؤسسة أو المصلحة كما تسمى آنذاك , وهذا ينطبق طبعا على الأفلام التي تمثل العراق في الخارج بوصفها الجهة المخولة الوحيدة في ترشيح الأفلام على مختلف أنواعها وبقيت تلك الأفلام الواعدة للنشاط الفردي ( أفضل تسميتها هكذا على النشاط الخاص ) لأن أغلبها كان ينتج على حسا ب لقمة العيش وضنكها وبؤسها في سبيل تحقيق شريط يلبي أفكار السينمائي , المهم , فكانت تحرم من المشاركة في مهرجانات لها أثرها في ذلك الوقت مثل مهرجان قرطاج , موسكو كارلوفيفاري , طشقند , لذا يعد العمل الفردي في نظر المؤسسة نشاطا خاصا غير خاضع لقوانينها وأفكارها وبالتالي فهي لا تصرح بذلك ولا تعلن إنها غير مسؤولة عن أنشطته .
صحيح نحن في هذه الورقة غير معنيين في تقييم مرحلة من مراحل الفلم الوثائقي العراقي , ولكن لابد لنا أن نمر سريعا على أهم النقاط التي يمكن للمتابع تسجيلها عنه .
وهي بالأجمال تتلخص بما يلي :
1- كانت الأفلام لا تعتني بالمقاربة البصرية .
2- تعكس الواقع من دون معالجة فنية , فيغدو الشريط عبارة عن صور متحركة نرى فيه النهر والزقاق والشارع لا علامة ملفته سوى التوثيق .
3- الرؤية غائبة إلى حد ما عن الفيلم , ربما ثمة استثناءات تتمثل بأعمال صاحب حداد وفيصل الياسري ومحمد شكري وقاسم حول وفؤاد التهامي وغيرهم من الأسماء المهمة في هذا المجال إلا إن هذه المحاولات لم تستغل أو تستثمر كموجة فنية أو ظاهرة فظلت تعتمد على الجهود الفردية .
4- يغلب عليها طابع الأرشفة بكل مواصفاته وليس التوثيق الفني كما هو الحال في فيلم (التصوير الصحفي في العراق) لكاظم العمري وفيلم (السيطرة على المياه ) لفكتور حداد , علما أن فكتور يمتلك إمكانيات وتصورات فنية متميزة ولكن يبدو انه يتنازل عنها مقابل إستراتجية أخرى.
5- لم يكن ثمة اهتمام باللقطة وزاوية الكاميرا أو المونتاج أي أن أغلب الأفلام الوثائقية لا تعتمد على سيكولوجية الصورة ولذا جاءت مكررة في الأداء والوظيفة .
مع كل ذلك نعتقد أن المرحلة الأولى للفيلم الوثائقي قد رافقتها محاولات حثيثة كما أسلفنا للنهوض بواقع هذا الفلم وتجاوز هناته وعيوبه الفنية وساهمت في بلورة رؤى جديدة تستبطن الوجه غير المرئي للواقع وخلق مادة أو موضوعة وسبر حقائقها التي كثيرا ما تتوارى خلف مواضعات الحياة ومظاهرها من دون أن تفقد مرجعيتها الواقعية , وهذا يعني أن ثمة مسوغ يجري على طبيعة الفيلم وإحداث تغيرات على نمطية أسلوبه الإخباري وحتى ألتوثيقي نتيجة الانفتاح الجزئي للمشاهدة والاطلاع عن كثب على بعض الأفلام العالمية ذات الجودة والتقنيات العالية ,0ثم لا ننسى الرافد الأساس المتمثل بالمؤسسة الفنية أي أن المؤشر الأكاديمي(1) يعد النافذة الأوسع في ترسيخ دور التقنيات على مجريات صناعة الفيلم ومنح فرصة أمام السينمائي للتأثير والتأثر واكتساب المهارات والخبرات التي تعني إضافة نوعية / جمالية توفر على الأقل رؤى جديدة في مسار التجربة الفيلمية .
السرد الوثائقي :
يمثل ببساطة التعبير عن الموضوع الفني / الإبداعي , أي الكتابة بصورة مرئية قابلة للتصور , وهذا يعني الاستفادة من خصائص السرد مثل الشكل , المضمون , الروي , الخيال ...اخ في مادة التوثيق وبذلك يمكن للشريط أن يشكل نتائج لم يكن الوصول إليها على المستوى الفني والإبداعي أن بقي نمطيا واستهلاكيا في مواضيعه , وهذا التفاعل من وجهة نظري غير قابل للنضوب لأنه يوفر جملة حلول سينمائية لتحقيقها في مجال المعالجة الفيلمية للموضوع , تقول الكاتبة (ماركريت دورا ) التي كتبت سيناريو – هيروشيما حبيبتي – للمخرج آلان رينيه (2)( إن الفيلم الوثائقي هو مادة الحكاية المرتبطة بالذاكرة , كيف يتخلى عنها ؟ ) فحضور الحكاية ضمن الشريط الوثائقي تضيء وتعمق دلالات كثيرة في الفيلم وتمنحه حيوية مؤثرة وقيما تعبيرية وجمالية مهمة لتثوير الحقيقة وتحفيز الوعي نحو مناطق متخفية أو متوارية عن السطح المرئي , وان استدعاءها هو نوع من التوكيد الفكري على حد قول كالفينو وليس كما يعتقد البعض بأن الاستدعاء يساوي الذاكرة فقط بل يعني كل خصائص السياق الذي يحتاجه البناء الفني .
ومما لاشك فيه أن ما كتبه سهيل إدريس في مجلة الآداب عن دور الفيلم اللبناني الوثائقي في الحرب الأهلية عام 1975 وبعدها قائلا , بأنها كانت تحمل رسالة أبلغ مما كتبته خلال نصف قرن على الورق , هذه الصورة التي تركت بصماتها بهذا العمق , أكيد إنها كانت لاتريد أن تنتهي بنهاية المهرجان أو المناسبة أو أي احتفاء آخر , لأن بديهية أي سينمائي لا ينظر إلى فلمه بهذه الطريقة , وإنما البحث دائما عن مستلزمات البقاء والتجدد والتفرد التي تساعده على أن يكون له موقف من الأحداث ويحمل بين طياته قضية / رسالة .
هذا هو ديدن السينمائي الذي يضع في الحسبان ذاكرة مجتمع , يبحث في الماضي كأنه حاضر وفي الحاضر كأنه ماض , ير صد ويرسم ويفحص قراءته قبل أن يجسد رؤاه في الصورة .
هذه الصورة التي أرادها – بودفكين –(3) و أشار لها برمز العين والفم , أي لغة – كلام كما في مقولة دي سوسير , تلك العين القادرة على كشف المستور ورفع الغطاء عن وجه الحقيقة ولا يتعدى الفم هنا سوى صوت الجمهور , إذن لغة الكاميرا أصبحت بمواجهة السؤال الذي يحث فينا التفكير ولو بصمت .
هذا باعتقادي المتواضع يجعل من حضور الفيلم الوثائقي تحديدا مركزا أو محورا للتداول والنقاش أينما يكون , لأن اعتماد الموجه السردي بموازاة الموجه الفني من دون فائض وباقتصاد ينسحب لصالح الدلالة الإيحائية المكثفة والراكزة التي من الممكن ان تراودنا فيها الإشارة من داخل الصورة في أي لحظة من زمن الشريط .
إن المشاهد يبحث عن المتعة وهذا حق مشروع ولكنه أيضا يبحث عن دالة هذه المتعة في الزمن المقطوع عنه لصالح الشاشة , وهي عملية جدلية وفرتها ظروف العصر والصعود التكنولوجي الذي حول العالم بأجمعه إلى قرية عصرية , ولذا صار كل شيء محسوبا بدقة متناهية لايضاهيها سوى الإصغاء باهتمام واكتساب وسائل التجديد وفهم طريقة الاستخدام الأمثل في الفيلم ليس على المستوى التكنولوجي فقط وإنما على المستوى الفني الذي لابد أن يضع نوع المخاطبة في الحسبان .
وهنا تكمن أهمية الإخراج بما يمتلكه من رؤى ومهارات تساعده على تفنيد مقولات الواقع والخوض في غمار الحقيقة والتسلل إلى خفاياها وأسرارها بعملية أطلق عليها محمد بنيس – فلسفة التصور - الذي يمكن أن ينعكس تأثيرها من خلال الصورة على المشاهد وتدفع به نحو تحليل أعمق .
هذه الرؤى(4) في الحقيقة لمسناها في تجارب سينمائية متعددة ومتباينة في معالجاتها وأساليبها نذكر عينة منها للإشارة وليس كموضوع بحث وسنتناول بدراسة لاحقة هذه الأفلام نحلل فيها مقاربات السرد الوثائقي ومدى تأثيره على واقع ومجريات الفيلم مثل ....
تجربة حميد حداد في 80-82 - وفجر العالم لعباس فاضل - و حبر الألوان لقيس الزبيدي - وحياة مابعد السقوط لقاسم عبد - ومواطنو المنطقة الحمراء لمناف شاكر - والمغني - للمخضرم قاسم حول و- نصف مضاءة - لجاسم محمد جاسم و- ابن بابل - لمحمد الدراجي و- الرحيل من بغداد - لقتيبة الجنابي و- وداعا بابل – لعامر علوان و- موت معلن - لرعد مطشر و- أيام بغداد - لهبة باسم – و- كولا - ليحيى حسن العلاق و- العراق وطني - لهادي ماهود و- طفل العراق - للشاب علاء محسن وغيرها من الأسماء والأفلام التي سنتعرض لها مستقبلا , ولكن يبقى السؤال الأهم الذي نعتقده لا يغيب عن تصور المهتمين والمتابعين أو ما يهمنا جميعا هو كيف يتم اشتغال السينمائي العراقي على ضوء الممكنات والخصائص الفنية والسردية في موضوعة الفيلم الوثائقي تحديدا أم أن ثمة إشكالية في التعبير عن السرد الوثائقي (5)بوصفه حقلا يدخل قسرا على مفهوم ومضمون الفيلم .
وقبل الإجابة عن هكذا تساؤل لابد لنا أن نذكر بأن الحدث الذي حصل في العراق بعد الغزو الأمريكي , قلب موازين التاريخ رأسا على عقب , حيث للمرة الأولى يرى فيها الناس المجنزرات والمصفحات وجنود المارنيز وهم يجوبون شوارع العاصمة ..هذا الحدث وما تبعه من أيدلوجيات ومتغيرات سياسية متعددة أدت إلى خلق نوع من ردود أفعال وان كانت متنوعة ومختلفة إلا إنها انعكست بطبيعتها على أسلوب وتجربة المواطن السينمائي .
حيث أحشدت الخبرة والحرفة والتجربة بشكل ملفت على صناعة الفيلم الوثائقي العراقي وسجلت أرقام الأفلام المنتجة بعد الغزو الأمريكي إضعاف ما أنتجته السينما العراقية التسجيلية والوثائقية ذاتها والأفلام الطويلة .
وهذا بحد ذاته يعد مؤشرا على تنامي الوعي السينمائي ودوره الإنساني والوطني في تسخير الخبرة ونقل حقيقة ما يجري أمام ظروف التحدي التي تصل بعض الأحيان إلى حد المجازفة والمغامرة من أجل مشهد لا يتعدى في حساب زمن الفيلم إلى أقل أو أكثر من دقيقة , هذا الحرص يأتي على تأكيد دوال الفيلم مما يمنحه نكهة خاصة في جذب المشاهد وشده إلى الصورة صعودا إلى نقطة التحسب والترقب .
هذا التعامل لمسناه في اغلب الأفلام التي أتاحت لنا فرصة المشاهدة الوقوف عندها كانت هي لشباب ربما كان بعضهم للمرة الأولى يقدم رؤيته على الشريط , نعتقد أن حجم الواقعة ودوافع الحرص على الانجاز تريد أن تراهن على قيمة الدور الذي يمكن أن يلعبه الفيلم الوثائقي في هذا الظرف الحساس من تاريخ العراق ولذا استطاع أن يكتسب ثقة الجماهير محليا ودوليا , وأصبح مرغوبا ومطلوبا في أي تظاهرة فنية وفكرية وإبداعية بعد أن أخذ يترك أثره الواضح والملموس في اغلب المحافل والمهرجانات الدولية التي شارك فيها , ناهيك عن حصده الجوائز والأوسمة التي جاءت تقديرا وتثمينا واعترافا بإمكانيات السينمائي العراقي وقدرته على المشاركة والمنافسة وهذا ما يدعونا إلى دراسة هذه الظاهرة دراسة وافية من كل جوانبها وعدم الاكتفاء بالمتابعة الصحفية التي اغلبها لا يضيء جوهر العمل الفني ولا يعتني بلغة الكاميرا وإنما يعطينا انطباعا أوليا عن الفكرة السائدة عن الفيلم من دون الخوض بالمعالجات والتحليلات لفحوى الصناعة الفيلمية المستخدمة في الشريط .
أما موضوع التساؤل الذي طرح في هذه الورقة يمكن أن يحدد على وفق تناولنا التالي الذي يحمل النقاط التي نجدها تشكل عقبة أمام أسلوب الفيلم الوثائقي .
إشكالية السرد الوثائقي :
فإذا ذكرنا بعض النقاط التي اتصف بها الفيلم الوثائقي في مراحله التكوينية الأولى والتي نعتقدها ملاحظات أولية قد تكون مبررة لصالحه أو عليه ولكننا الآن إزاء واقع آخر فيه قد ظهر الفيلم الوثائقي كما ذكرنا بمميزات وخصائص مختلفة في التصور والأعداد والتحقق , وساهم بشكل فاعل في رصد المشكلات الكبرى التي يعاني منها الإنسان العراقي مثل العلة المستديمة انقطاع الكهرباء , البطالة , المجاعة , القتل العشوائي , الأمراض التي خلفتها الحرب , الطائفية , الشتات , السجون , التظاهرات , المدن المخربة والشوارع المهجورة , الهجرة الداخلية والهجرة الخارجية التي انقسم فيها الوطن على نفسه بفعل المهيمنات الطارئة على نسيجه الاجتماعي , كل هذه العوامل وغيرها كانت تفرض على السينمائي مخاطبتها ليس بطريقة شحن المشاعر بالرثائيات والبكائيات (6) وإنما بتصورات يرتقي فيها الحدث إلى مستوى البناء الفني الذي تجسد فيه لغة الكاميرا أسلوبها في التعبير عن أهم القضايا الإنسانية الحساسة وطرحها أمام الرأي العام ورغم إننا لا نخفي أو نقلل من شأن أغلب الموضوعات التي قدمتها السينما العراقية التي كانت شديدة الالتصاق بالهّم العراقي وصراعه الأسطوري في تحمل عذابات الواقع وإرهاصاته وما خلفته كان شديد الوطأة على طبقات عديدة من المجتمع الرازح تحت هذا الأتون القاهر والمدمر , نحن متأكدون انه يضرب في جذور الوجدان والأحاسيس وهذه الحقيقة لا يمكن أن يتجاهلها أحد من أن السينما الوثائقية العراقية كان لها دور تاريخي لا يمكن تجاهله أو التغاضي عنه في تعرية جوانب عديدة من هذا الصراع وكشف ملابساته واشكالياته التي جاءت مع الاحتلال , ولكن مع كل تلك الممكنات التي احتواها الفيلم وطريقة رصدها وعرضها على الشاشة لا تخفى عن بال المتابع أو الباحث في الشأن السينمائي من أن الفيلم الوثائقي ليس انفعالا أو مجرد حماس يلقي بظلاله على الشاشة , بل هو فن قبل كل شيء فيه مواصفات وأسلوب ومنهج ومفهوم تتضافر فيه كل هذه المعاني من اجل تحقيق صناعته الفنية / الإبداعية .
وهذه البديهية وفرت لنا بعض الملاحظات التي نعتقد أن من الضروري طرحها بشكل واضح وهي كالآتي :
1- الانغماس إلى حدما في الفعل الدرامي , وهذه الكيفية يمكن أن يمارسها – الإخراج - ولكن بشرط أن لا يتعارض مع مهمة الفيلم الوثائقي .
2- تعامل بعض السينمائيين لمادة التوثيق بشكل صارم يتلاشى معه عنصرا المتعة والفائدة .
3- إعطاء نسبة عالية للخيال مما تفقد أو تتماهى ميزة الفعل الوثائقي في التعبير عن الحقيقة التي يحتاجها الفيلم كمادة محورية أو أساسية .
4- بعض الأفلام لا تتجنب الأخبار والمعلومات المتداولة , ولذا نراها تعيد ذات – الكليشيهات – المتعلقة بالتحقيقات التلفزيونية .
5- عدم الاعتناء بهوية الفيلم الوثائقي التي نجدها لازمة ضرورية في التكوين والصيرورة التي تمنحه الخصوصية والتفرد إزاء بقية الأساليب والأنواع الفيلمية الأخرى .
بوسعنا بعد ذلك أن نتصور إن الأساليب الإخراجية متفاوتة في رسم مواضيعها وأفكارها التي تضعها على الشريط كما سنرى من بعض النماذج المختارة والمتوفرة لدينا وهي موجة من الشباب أخذت على عاتقها الخوض في غمار الفيلم الوثائقي .
نماذج من الأفلام الوثائقية :
أولا / (7) فيلم - اكسبا ير - مدة العرض 24 دقيقة سيناريو وإخراج مروان ياسين
الفكرة والمعالجة :
ترتكز موضوعة الفيلم على وجهين للحرب الوجه الأول نرى فيه , رجل عسكري أفنى حياته في الذود عن حياض الوطن .. ودافع عنه في كل مكان بتحد وإصرار دون أن يمنحه بتر الساق مبررا لترك خدمة العلم , ويبقى يواصل مشواره حتى يصبح في ليلة وضحاها , ضحية حل مؤسسته , ليكون في حرب أخرى أشد شراسة وقسوة يصارع فيها الجوع , العزلة , التشرد , الانكسار , الوحدة , الانطواء , الانزواء , أما الوجه الثاني يعبر عن الأزمات النفسية التي تحملها ذاكرة الصورة العسكرية التي تزين جدار الغرفة فهي ربما تعيد إليه الشعور بالكرامة والثقة بالنفس لكن لاشيء بالخارج يدعو إلى هذا الاطمئنان .
ومن هذه اللحظة المظللة تنفتح الكاميرا بلعبتها المراوغة والماكرة في الإقناع إزاء الشخصية المحورية ( د. محمد إسماعيل / الضابط ) التي تواجه كل هذه الأشياء بتوتر وانهيار نفسي .
نجد أن الفنان مروان استخدم تكنيك الأسلوب التجريدي في معالجة الفيلم ، وهو أسلوب لايهتم كثيرا بتتابع الأحداث أو تسلسلها ، ويمنح أمام إمكانات التعبير السينمائي فرصا أكثر غنى في تشكلات اللقطة ، يقول السينمائي الفرنسي آلان رينيه ، بمقدور الموهبة دائما أن تتحرر من رتابة المواضيع المكررة وحتى المطروقة منها بخلق مناخات وأجواء تعيد صياغتها فنيا وجماليا إلى درجة يمكن مضاهاة الأصل الذي نشأت منه ، وكذلك يستحضرني قول يوسف شاهين مفسرا فيه عمق اللقطة ودلالتها ، من أنها لغة ومن خصائص هذه اللغة أن تعتني بنسق الجملة الفيلمية ومكوناتها في سعة الخيال الذي لا تقيده قوانين الطبيعة المألوفة ، وفي هذا الصدد أشار عمود التجريب في السينما الأمريكية ستان براكان من أن أي قصة فيها حركة وتعبير لا يتمم بعضها بعضا تشتت المعنى .
في فيلم أكسبا ير كان الزمن محسوبا بدقة لكل لقطة ، حركة الكرة ، صافرة صبي الحمام ، الرتب العسكرية ، سقوط الطائرة ، لحظة الانتحار ، دوران المعاق في الحديقة ، العلم الأحمر ، خرطوم الرشاش ، زئبقية المحطات .
بحيث لم يأخذنا هذا التعدد في تنوع اللقطات واختلافها بعيدا عن وحدة الموضوع ، بل إنه ضاعف بناءه عبر توظيف عناصر الفيلم من ديكور ومؤثرات صوتية واللون لتشترك ليس فقط في جمالية النسق ألفلمي وإنما لتتحمل جزءا منه ، وبذلك نرى أن المشاهد التي صيغ منها الفلم تجاوز المرئي من الخارج باتجاه النوازع وحرارة تداعياتها وقيمها التعبيرية والفنية .
بحيث تبدو الصورة ( أعني بها العمق والدلالة ) كما هو معروف في سينما اللقطة (8) أي سحب الزمن إلى الحاضر , وهذه الطريقة طبعا ، تمنح نسق الجملة السينمائية بالإضافة إلى الانفتاح أفق للمشاهدة في الاحتمال والتوقع ، وبذلك نعتقد أن التعدد والتنوع الذي وظف في الفلم – اكسبا ير – كان على درجة عالية من الاتساق التجريبي ، أي لاحظنا مرونة الزمن بفعله وحركته بين الحاضر السردي / نص الشاشة وعملية الاسترجاع والتقطيع ( لا نقصد المونتاج فقط وإنما تحول اللقطة في أبعادها المعبرة عن إرادة الرؤية الإخراجية ) قد حققت مؤثرات فاعلة في توكيد القيمة الفنية وبالأخص فيما يتعلق ب ( الفلاش باك ) واللعب على الزمن السينمائي واستحضاره إلى أبصارنا .
في هذا الشأن ذكر الناقد الأمريكي المعروف آدمز سيتني في كتابه – الرؤية السينمائية –إن حراك الفكر البصري يعتمد على خلق صور مركبة استثنائية وهو بذلك يؤكد ماقاله براكادج من قبل في جعل الكاميرا صورة مجازية للعين .
بقي لنا أن نقول بالرغم من أن أغلب المشاهد الجميلة التي احتواها الفيلم كان حريا بالرؤية الإخراجية أن تتلافى بعض عيوب التكرار في المشاهد كما لاحظنا في دوران الرجل المعاق في الحديقة ، تبادل اللقطات وهي عبارة عن كلوزات تتكرر لأكثر من مرة بمواجهة صورته العسكرية التي يبرز فيها بوجه صارم ..
ومع ذلك كان الفيلم ملفتا في استخدام الإنارة والديكور والموسيقى لتمنحنا من موقع المشاهدة تمكنه من تجسيد لغة الشريط وإيحاءاته في بناء الصورة .
ثانيا / - كوابيس - مدة العرض 24 دقيقة أخراج أياس جهاد
الفكرة والموضوع :
اعتمد إياس الآثار النفسية المدمرة للحرب ، معلم يعاني من اضطرابات نفسية حادة ،دفعت به إلى ارتكاب حماقة خارجة عن إرادته , بالضرب على أحد الطلاب بشكل هستيري غير منضبط مما أدى إلى فقدان الطالب الوعي ورغم شعور المعلم بالذنب ومحاولة جلد الذات إلا أن قسوة اللحظة ظلت تلازمه وتراوده كلما وضع قدمه على عتبة المدرسة ، وإن تداعيات ذلك التصرف الطائش ، يشتد ضراوة إلى درجة اكتوائه بلسعة التهيؤات .. من أن موت الطالب يعني له الموت ليبدو له أن حبل المشنقة بات يطوق رقبته ، المفارقة في هذا الأمر ، إن الطالب الذي تلقى منه الضربات المبرحة كان يجهل تماما أعراض المعلم وحالته النفسية المتردية ويمارس هواياته في الكلام واللعب مع إقرانه بشكل طبيعي ، بينما شبح الحادث ضاعف لديه الإحساس بالبؤس والانطواء والشعور بالغربة النفسية وإن كان قد ألف المكان إلا أنه لم يستطع أن يتخلص من الوساوس المفترسة التي تنهشه.. بحيث كانت أقوى من أن يتداركها وينجو منها لو لم تدركه لحظة حب في الوقت المناسب كي تعيد إليه توازنه وتحاول سحبه من خيوط الأوهام والكوابيس التي تجتاحه بلا هوادة .
تقريبا هذه الفكرة الأساسية التي اشتغل عليها الفيلم ، وكشأن أغلب المواضيع التي تأخذ وتركز على الجانب النفسي والاجتماعي نراها تعتمد على جانبين اسساسيين هما محاولة ضغط الفكرة وتشكيلها في بناء هارموني خاص والتركيز على لقطات صانعة أو ما يسميها سمير فريد بالقناطر الرمزية التي تنشأ بين الأحداث والأشياء ، وهذا ما وجدناه مثلا في مقاربة الأكلوزات ( الصور الاستشعارية ) مع اللقطات العريضة المفتوحة ، التي تحدث عنها اندريه فايدة في كتابه – انعكاس الضوء – من أن التركيب البؤري لتلك المحاولة ينبري على المخرج الحذر منها لأنها يفترض أن تدخل الشريط بمقاسات الرؤى وليس المشاهدة فقط .
إذا كان هذا المفهوم يجري التعامل معه في الفيلم الطويل وخصوصا في عملية المونتاج / التحضير والأعداد والتنفيذ وهنا نتساءل عن مدى تشكله في فيلم إياس القصير .
نقول وبصراحة إنه اقترب من هذا المفهوم وجسد لنا التكوين الذاتي للصورة المعبرة مع احتفاظ الإيقاع بمستوى الحدث وتقلباته بحيث أن الصورة كانت تتماشى في السياق ألفلمي أو ما يسمى في الأدب مجسمات وحدة الموضوع ، ومن ثم ربط هذه الصور بدلالات حسية وانفعالية من أجل خلق فني يوازي الحقيقة ويضاهيها في الجوهر والعطاء .. ولكن الفكرة أي المادة الأدبية كانت طاغية على إمكانات الفلم وتشكلاته السينمائية أو ما يسميه جهاد عطا نعيسة بالاقتباس ، وفي هذا السياق قال آلان ريينيه من جماعة السينما الحديثة في فرنسا ، إن السينما تبدأ حينما ينتهي الكلام ، وإن التعبير الأدبي مهما تكن قوته وبلاغته لا يتعدى رؤيتنا السينمائية فيما نحتاج إليه .
ومع ذلك يبقى الفلم كوابيس إشارة طيبة في مشوار إياس السينمائي وخصوصا إنه عرًفنا من خلال أسلوب إخراجه للفيلم بأنه يمتلك إمكانيات الحلول لمعالجاته الفنية .
الملاحظة الأخيرة ان هذا الفيلم يتجه نحو الفيلم الروائي القصير لأنغماسه كما أشرنا سابقا بالفعل الدرامي بشكل واضح وجلي .
ثالثا / فيلم - أزهار وشظايا – (9) مدة العرض 8 دقائق سيناريو وإخراج حسين فالح
الفكرة والمعالجة :
موضوعة الفيلم اشتغلت على الموقف من تبعات الحرب وبالتحديد الآثار العدوانية التي من الممكن في أي لحظة أن يفتعلها الغزو والاحتلال ويحول منطقة تواجده إلى منطقة أشباح ، لأنه يجيد لعبة المكر والخداع ومهارته في صناعة الأكاذيب وبهذا الشكل تأخذ القصة السينمائية دورا أضافيا للمكون الفني في أن يكون لها بعد أنساني ، صاحب مكوى يدخل عليه الابن حاملا معه شظية ، وبعد أن يعرف الابن البريء في تصرفه وسلوكه وهو يحاور أباه إن المقصود من هذه الشظية هي لإرعابهم وتخويفهم ،ومن ثم يدرك الأب بأن عليه أن يهديْ من روع ابنه الصغير وهكذا فعل ولكن سرعان ما تنتقل وتنشط وتتفعل لديه حاسة الخوف من المجهول ، وخصوصا إن الشظية تحمل بصمة الاحتلال ، هنا يبدأ يدور في ذهنه السؤال ، لماذا المدرسة مقصودة ، وما تعني الشعارات البراقة التي يرددها البعض عن هؤلاء الغزاة ، وفي تشكيل درامي تظهر بدلة عسكري أمريكي مرسلة للكوي ، فتختلط لدى الأب الصورة ، وأعتقد إنه تصور دماء أبنه تنسكب فوق البدلة ، أي أن هذه البدلة مسؤولة عن دماء الأبرياء والخراب الهائل والشامل لكل مفاصل الحياة .
وفي المقابل تفتح المدرسة أبوابها ، يتجمع الطلاب ويرتفع صوت الحناجر الغضة على إيقاع رفعة العلم بنشيد حماسي .
هذا باختصار شديد ما تضمنه الموضوع ، أما المعالجة الفنية / السينمائية التي احتوى عليها الشريط ، نستطيع أن نقول إن الفيلم اعتمد على اللحظة الراصدة للقطة ، كوحدة زمن ، التي ينبثق منها إيقاع الحدث والانفتاح على عدة مستويات في التركيب البؤري للصورة ( 10)، الغريب في هذا الأسلوب إن بعض المخرجين لا يعتنون به مثل الفنان القدير يوسف شاهين وخصوصا
تصريحه حول إخراج يوميات نائب في الأرياف بقوله ، أن هذا الموضوع من اختصاص مدير التصوير أنا أكتفي برؤيتي الإخراجية للمشهد .
هذا المبدأ وإن يحمل بين طياته نوع من الخبرة والتجربة في آن ، ولكن هل يمكن أن يتصرف مدير التصوير بعيدا عن مخطط ( الأكسبرس ) الذي حتما فيه جزء من رؤية الإخراج أو على الأقل هل بإمكانه أن يغفل عن أي لقطة يحتاجها عند التنفيذ ، ولذا من غير الممكن حسب اعتقادي أن يخترق الإخراج مهما كانت حرفية هيئة إدارة التصوير ، ومن هنا لاحظنا اشتغال حسين يجري على وفق الرؤية المجسدة للقطة وهذا ما وجدناه في اقتصاده في المشهد ، التركيز على بعد الصورة وقربها ، الملامح والتعابير التي تعكس درجة الانفعال والتوتر ، وأحب أن أشير هنا إلى مشهد أكداس الملابس التي تبرز من خلالها بدلة العسكري الأمريكي بعلمها المستطيل وهي تسبح بالدم العراقي ، وهو يذكرني بفيلم مجازي لفيروتوف حول لينغراد اسمه – بلورة العشق – اثنا عشر طيرا يكشفها الرادار المعادي فيرسل لها سربا من الطائرات المقاتلة مصوبا مدافعها نحو هذه الطيور لتسقط جميعا في البحر ليتغير بعد ذلك لونه على شكل خارطة لينغراد ، هذه الأقنعة مناسبة في الاستعارة والدلالة لو يجري تعميقها والاشتغال عليها ، مثل ما رأينا في انتزاع الصبايا لشرائطهن ,وإشارة لأيادي الطلاب الممدودة نحو الحفرة التي تركتها الشظية على ما يبدو في عمود السارية ، وخارطة العراق التي تنفتح فيها الصورة على تأويل المشاهدة من دون أن تحدده بمرئية ساكنة وجامدة .
وهذا لا يعفي الشريط من بعض المشاهد المقحمة في تركيب الفلم ومنها ، الجري السريع ، اللقطات البطيئة ...... ولكن على العموم كان الفيلم يحمل بصمات إخراجية قادرة على تفعيل دور اللغة السينمائية / الإيحائية وتحفيز رؤانا نحو تأويل مانراه .
رابعا / - براعم - مدة العرض : 8 دقائق إخراج مؤيد إبراهيم .
يقدم هذا الفيلم عدة تساؤلا عن الطفولة المحرومة ، نستطيع أن نرسم حركة ديالكتيكية حول الموضوع ، امرأة داخل متجر الملابس ( بوتيك ) ، لعب أطفال متنوعة ، طفلة نصف عارية تضع مساحيق على وجهها ، طفل أيضا نصف عاري يضع ربطة عنق ، المرأة تسقط بين أحضان المتجر ، انطلاق الطفلين في عمق حقل تمايزت ألوانه بين اليبوس والخضار ، صبي الشوارع يقف عند التقاطع محاولا البيع بين طوابير السيارات المتوقفة ، داخل الصف يبجل المعلم أمام تلاميذه بمنجزات الدولة ويفاخر بها من دون قناعة أو هو نوع من النفاق الاجتماعي مادام الرقيب الذي يحذر منه يقف إلى جانبه ، تقريبا هذه أهم الإشارات التي احتواها موضوع الفيلم .
فبدا لنا مثل كل الأفلام التجريبية ابتعاده عن الحركة الدرامية واستعاض بدلا عنها حركة الكاميرا في التوصيف ، تنطوي هذه التجربة بحد ذاتها على جملة من النقلات المشهدية التي تزدهر فيها الصورة لأننا نعرف أن الأدب يمنح القارئ ويهبه الكثير من المعاني بينما على المستوى البصري فهي تحد من فعالية المخيلة وترهنها بمخيلة المخرج ، وإزاء هذه الخاصية أخذت اللقطة ترابطها من خوض حراكها في التحول والتأثير باعتمادها – أي اللقطة – على ( التطور البنائي لقضية الحضور ) حيث يجمع دون قطع وحدة زمانية ومكانية ماثلة في الحاضر كما لاحظنا ذلك في سينما اللقطة التي أحدثها المخرج السويدي برجمان في مسار الصورة السينمائية ولكن هنا وان كانت الإمكانيات والخبرة مختلفة نراها قد اعتمدت الصورة أيضا على هذا النوع من التداعي ماضي / حاضر , المكان / الزمن مما توفر للحدث على فرص وإمكانيات تعبيرية أكثر غنى وتأثيرا وهو ما يمكن ملاحظته في مشاهد البوتيك / الصف / الشارع / الحقل / وجوه الأطفال (البراعم ) وأعتقد أن إبراهيم كان يوقظ وعيا غافيا عندما أخذ بتنوع أسلوب اللقطة وتحولها عن المماثل التقليدي وإن بدا المشهد الأخير فيه نوع من المباشرة غير المبررة مادام الفيلم يحاول أن يستعيض عن الواقع ويلتقط أدواته بطريقة رمزية إلا أن ذلك لم يؤثر على مسعى الفيلم من منظور سينمائي يتجه إلى تجربة مفتوحة سواء في النص أو الإخراج وهو يقدم لنا تلك البراعم المحرومة والمبتعدة عن بهجة وغضاضة ِالعمر .
خامسا / - جرعة مورفين - مدة العرض : 10 دقائق للمخرج خليل كاكا .
الفكرة والمعالجة :
فأن موضوعة هذا الفيلم تتحرى المقولة التي روجها المحتل وسوقها – كذبة التحرير – التي بوساطتها تم تلفيق كل شيء من حقيقة الى خرافة , من يصدق من ؟ ,أن الحياة المقبلة ستكون ميديا مبهرة , هذا ما يؤكده الصوت عبر جهاز التلفاز ... يدعو الناس بوعود المخلص في الرقي والتقدم ويطلب منهم الاطمئنان والسكينة والخلود إلى الراحة وإن الأيام القادمة ستأتي بالمن والسلوى لهم ويؤكد كذلك على أن الأيام القادمة سوف تثبت بأنه لا يوجد بعد الآن حاكم أو محكوم ، نحن نسير على طريق الحق بينما التلفاز لم تر فيه غير التشويش إذ يبقى على حاله حتى وإن أنفصل عنه التيار الكهربائي ، فنلاحظ إن معالجة الكاميرا نجحت في أن تجعل من الصوت خلفية لتحركها وأن بدا التشويش الذي يظهر بين فينة وأخرى نوعا من الاحتجاج المكبوت إلا إنه لم يفقد وحدة اتصاله في هذا البناء الهرموني بين ما يقال أو المسكوت عنه الذي رمز إليه المخرج بالتشويش الذي يظهر على شاشة التلفاز ، إن الرمزية التي تعالج في مثل هذه الأفلام وحسب ما ذكره المخرج الهولندي جوريس ايفانس إن الورشة الحقيقية للسينما في تقصي المعاني الساطعة هي أن تتحرى اللقطة صراع الواقع من دون أن تدخل في تفاصيله ، أي إن اللقطة وظيفتها مرتبط أساسا بالغرض الفني المؤسس لعملية التخليق التي تساهم في بلورة قضايا أو ما تسمى بؤر الواقع واستنطاقها على الأقل ذهنيا لدى المشاهدة وبهذا التصور كانت تتحرك كاميرا خليل وإن بدا لنا أن التركيز على الصوت كموجه مورفين مقنع إلى حد ما إلا إنه لا يتحمل باعتقادي مساحة الفيلم لو لم تنقذه مقاطع التشويش كإشارة لمقولة لا حياة لمن تنادي في تفادي انزياح رمزية الموضوع عن قيمته الإرسالية للمشاهد ، لتبقى صورة هذا الفيلم لها نكهة سينمائية تكمن في جدل السؤال .
سادسا / - فقاعة ثقافية - مدة العرض :5 دقائق سيناريو وإخراج ايفان سعدي .
موضوع الفيلم يتحدث عن شاب نرجسي يرتدي أفخر الثياب ويحمل حقيبة دبلوماسية راقية يدخل إلى المقهى ويجلس على إحدى الطاولات ، يفتح الحقيبة ويأخذ منها رزمة أوراق بيضاء ثم يبدأ الكتابة ، تحيط هذا الشاب من كل جانب نظرات مستغربة تشعل أحيانا فتيل الفضول لديهم حول معرفة منزلة هذه الشخصية التي حولت رزمة الأوراق إلى نفايات وتركتها على مضض فوق الطاولة ، للبحث فيها عقب المغادرة عن هذا اللغز وبعد ذلك يتضح إن الذي حل بينهم لم يعد سوى فقاعة ، إذ أن مخلفات الورق التي تركها لم تعد إلا لشخص مهووس بتصوره ومخدوع من الداخل بكبرياء زائف .
وجدت أن ايفان في هذا الفيلم أكثر قدرة على التعبير عن خواص الفهم السينمائي في معالجة الموضوع ، اللقطة الكبيرة متزنة الإيقاع وخصوصا في نقل تعابير الوجوه المحيطة بالشاب ، كذلك نقلت لنا الزاوية الحادة للكاميرا لحظات التأفف التي تحملها الشخصية النرجسية في مثل هذه المواقف ، الكاميرا والإضاءة والديكور والمؤثرات الصوتية أشبه بهرمون موسيقي متناغم إلى حد بعيد مع المشاهد وإن كانت قليلة نسبيا ولكنها استطاعت أن تحرك مشاعر المشاهد وأهم ملاحظة يمكن أن نسجلها عن الفلم استغناءه عن الحوار إلا في لقطة أو لقطتين ، فبدا لنا مشهد الفيلم بصورة عامة كأنه عرض صامت ( بانتومايم ) مما يوفر للفيلم فرصة مثاليه للتعبير عن لغة الصورة ، فهل حقق هذا الفيلم هذه الفرصة ، أعتقد أن أي محاولة جادة في طريق البناء الفني هي توصيف لخطوات لاحقة ومضنية تكلف المجتهدين دائما ولوج عوالم أكثر تعقيدا مما مضى وهذا بالضبط ما يدفعنا إلى أن نرى لإيفان أفلاما أخرى تتوسع فيها هذه الومضة التي حقا كنا فيها سعداء .
الخلاصة :
إن المحور الناظم للفيلم الوثائقي هو اجتراح تفاصيل غير تقليدية والإمعان في الحقائق من زوايا مختلفة , فإذا كان السرد يتقصى الواقع فأن الكاميرا تبحث فيه عن شراكة عضوية لا سبيل إلى عزلها عن الإبداع الذي يتيح للتجارب والخبرات أن تمارس دورها وقيمها الجمالية التي تسعى دائما إلى التحول ليس على حساب ما أنجز وإنما تكمن القوة فيما أسس , تلك الخطوة التي حملت بذرة المحاولة الأولى التي من غيرها لم يكن ثمة التحام أو تحفيز للقراءة المعقبة .. هذه القراءة التي انفتح فيها المنظور السينمائي على خصائص وأنماط فنية ومارست فيها عدة أساليب ومهارات من دون أن تغفل دورها التاريخي في موضوعة الاحتلال وتداعياته على البنى التحتية التي يرزح تحت مطرقتها الإنسان العراقي ..فهل من مدى أكثر اتساعا من لغة الصورة وهي تنقل الحقيقة غير المرئية للعالم ؟ .
المصادر والإحالات
1- مجلة السينما 1978 العدد الرابع إصدار الإتحاد الوطني لطلبة العراق .
2- أحدث فيلم – الفراولة البرية – للمخرج السويدي انجمار برجمان - ثورة في مسار الصورة , يجمع كادر واحد دون قطع الماضي والحاضر .
3- قام – بودوفكين – بتحديده وتميزه لأربعة اشكال توليفية / التناقض , التوازي , التماشي , التوليفية التي أثرت حتى على الرواية وبناءها السردي .
4- عبارة عن وجهة نظر ولدت نتيجة المشاهدات والمتابعات الشخصية التي توفرت عبر وسائل الانترنيت .
5- التزامن ومرونة الزمن السينمائي / دراسة معمقة , لجهاد عطا نعيسة , أكد فيها أن السرد السينمائي هو الدلالة التي ترسم إشارتها في الصورة كقيمة ومعيار فني / أدبي / أبداعي , ندوة القرين , منشورات المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب , الكويت 2004.
6- طاهر علوان مقال عن فيلم – وداعا بابل – مشاهداتي , موقع مدونات طاهر علوان ليوم السبت 7/5/2011.
7- عرض خاص في مؤتمر عينكاوا عن الأدب السرياني .
8- سينما اللقطة باختصار هو عرض حدثين وقعا في زمن واحد وعملية التلاعب بالزمن , الفنان والكاتب السوادني علي مهدي , مجلة إيلاف اليكترونية / مشاهداتي .
9- عرض هذا الفيلم في عدة محافظات / كربلاء , البصرة , بابل .
10- أشار المخرج المصري أسامة فوزي في تفسيره للتركيب البؤري للصورة قائلا عنه , هو اختزال وتكثيف وتركيز / مقابلة تلفزيونية .
• اعد البحث بالأصل لمهرجان بغداد السينمائي الدولي المنعقد للفترة من 3/10 إلى 10 /10/2011
عباس خلف علي
خاص ب: ''الفوانيس السينمائية'' نرجو التفضل بذكر المصدر والكاتب عند الاستفاد


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.