كلما تراجعت المشاركة الانتخابية، تقلّص وزن الإرادة الشعبية، وتحوّلت المؤسسات المنتخبة إلى هياكل بلا روح. وفي المغرب، حيث تتقاطع إصلاحات كبرى مع انتظارات اجتماعية متزايدة، يصبح العزوف مؤشراً أخطر مما يبدو؛ فهو يعكس فجوة تتسع بين المجتمع والسياسة، ويكشف عن الحاجة إلى مشروع ديموقراطي متجدد يعيد ترتيب العلاقة بين المواطن والدولة على أساس الثقة والمسؤولية. من هذا المنظور، تعتبر المشاركة اليوم رهاناً سياسياً بامتياز، وليست مجرد واجب انتخابي. 1. المشاركة الانتخابية... شرط استعادة هيبة المؤسسات وإنجاح الإصلاحات من منظور اتحادي، لا يمكن بناء دولة عادلة وقوية بدون مؤسسات منتخبة ذات شرعية واسعة. فالتجارب السابقة أكدت أن المجالس التي وصلت بنسب مشاركة ضعيفة ظلت عاجزة عن تنفيذ رؤى تنموية حقيقية، وظل أداؤها رهيناً بهشاشة تمثيلها. وفي الاستحقاقات الأخيرة، ورغم تسجيل نسبة وطنية في حدود 50%، فإن المدن الكبرى—مواقع النبض المجتمعي—شهدت مشاركة متدنية أثّرت في طبيعة التمثيل، وفتحت الباب أمام اختلالات في الحكامة المحلية. إن السياسات العمومية، مهما بلغت جودتها، تحتاج إلى سند اجتماعي كي تتحول إلى واقع. ولا يمكن مطالبة المجالس بالجرأة في القرار ولا بالقدرة على مواجهة اللوبيات المحلية دون قاعدة انتخابية واسعة تمنحها القوة. ولهذا، فإن تعزيز المشاركة ليس مطلباً تقنياً، بل شرطاً سياسياً لإنجاح الأوراش الوطنية الكبرى، من تعميم الحماية الاجتماعية إلى إصلاح الصحة والتعليم، إلى الاستثمار في الجهات. من هذا المنطلق، يصبح التسجيل في اللوائح—ثم التصويت—إحدى الركائز الأساسية لاستعادة قوة المؤسسات ومنحها القدرة على مواجهة تحديات المرحلة. 2. أزمة التمثيل... حين يبتعد المجتمع عن السياسة وتفقد الديموقراطية بوصلتها تشير الأرقام الرسمية إلى أن حوالي 70% من الشباب يرون أن أصواتهم لا تُحدث فارقاً في السياسات العمومية. هذا الإحساس بفقدان التأثير لا يأتي من فراغ، بل من تراكم خيبات سابقة، ومن أداء انتخابي لا يعكس دائماً انتظارات المواطنين. لكن الخطر الأكبر ليس في هذا الشعور ذاته، بل في نتائجه: اتساع فراغ سياسي تستفيد منه خطابات تبسيطية أو شعبوية، بينما تتراجع الوساطة الحزبية والنقابية. في غياب المشاركة القوية، تتراجع جودة التمثيل، فتضعف القدرة على إدارة المجال العام، وتكثر القرارات غير المفهومة، ويتعمق الشعور بأن المؤسسات بعيدة عن المواطن. وهنا تبدأ حلقة الانفصال التي تهدد التماسك المؤسساتي والمجتمعي. وعلى خلاف ديمقراطيات أوروبية تمكنت من مواجهة أزمة التمثيل عبر إصلاحات عميقة، فإن السياق المغربي يتطلب يقظة أكبر، لأن هشاشة الثقافة السياسية تمتد داخل فئات اجتماعية واسعة، ما يجعل إعادة بناء الثقة أولوية وطنية لا تحتمل التأجيل. يُظهر هذا الواقع أن الديمقراطية لا تتقدم إلا بوجود ديمقراطيين، وأن شرعية المؤسسات لا تُبنى إلا بمشاركة واسعة، وأن غياب الجمهور يفتح الباب أمام انزلاقات خطيرة في التمثيل واتخاذ القرار. 3. المشروع الاتحادي: إعادة الثقة إلى السياسة وربط المشاركة بالمواطنة الفاعلة من موقعه التقدمي، يطرح الاتحاد الاشتراكي رؤية واضحة: الديمقراطية ليست مجرد آلية انتخابية، بل تعاقد متجدد بين الدولة والمجتمع. ولتحقيق ذلك، لا بد من معالجة الاختلالات التي أدت إلى تراجع الثقة: – تقوية استقلالية القرار الحزبي وإعادة الاعتبار لدور الوساطة؛ – ضخ نخب جديدة تملك الكفاءة والنزاهة؛ – ضمان عدالة مجالية حقيقية تجعل التنمية غير محصورة في مراكز محدودة؛ – مواجهة الريع السياسي والإداري بشجاعة؛ – ربط المسؤولية بالمحاسبة وفق قواعد واضحة وشفافة. كما يؤكد المشروع الاتحادي أن الدولة الاجتماعية التي ينشدها المغرب لن ترى النور إلا عبر مشاركة واسعة، تضمن أن السياسات العمومية تعبّر عن الجميع، لا عن أقلية انتخابية. فكلما توسعت المشاركة، قويت المؤسسات، وارتفعت جودة القرارات، واتسع أثر الإصلاحات على الواقع المعيش. إن بناء الثقة في السياسة لا يتم عبر الوعود، بل عبر إشراك المواطن في صناعة القرار. والمشاركة الانتخابية هي أول خطوة في هذا الطريق، وهي الآلية التي تجعل المؤسسات مرآة لنبض المجتمع لا امتداداً لتوازنات ضيقة. الخلاصة – المشاركة ليست رقماً... إنها قرارٌ يحدد اتجاه الوطن تكشف مؤشرات المشاركة الضعيفة عن أزمة بنيوية في علاقة المواطنين بمؤسساتهم، لكنها في الوقت نفسه فرصة لإعادة التفكير في المشروع الديموقراطي برمّته. فالمغرب يدخل مرحلة حاسمة من الإصلاحات، ويحتاج إلى مؤسسات قوية تستند إلى إرادة شعبية واسعة، لا إلى حضور انتخابي محدود. في الرؤية الاتحادية، لا يمكن تحقيق دولة عادلة ومتوازنة دون مشاركة حقيقية، لأن الديمقراطية لا تستقيم إلا حين يلتقي صوت المواطن مع مسؤولية الدولة، وتتقاطع الإرادة الشعبية مع القرار العمومي. ولهذا، فإن تعزيز المشاركة الانتخابية ليس مجرد دعوة ظرفية، بل رهان على المستقبل، وضمانة لنجاح الإصلاحات، وحماية للمسار الوطني من مظاهر الضعف والارتجال. إن وطن المستقبل يحتاج إلى مؤسسات قوية... وهذه المؤسسات تبدأ من قوة المشاركة.