في الحديث الصحيح الشهير، المعروفِ باسم «حديث جبريل»، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم -حين سئل عن الإسلام- قال: (... الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وتقيمَ الصلاة، وتؤتيَ الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا...). ففرائض الإسلام الأساسية خمس وهي: الشهادتان والصلاة والزكاة والصوم والحج، وهي التي سماها العلماء «أركان الإسلام الخمسة». وعلى هذا، فالحج هو الركن الخامس من هذه الأركان. ورغم أن حديث (بني الإسلام على خمس) جاء في بعض رواياته تقديم الحج على الصوم، فإن جماهير العلماء تجمع على أن الترتيب الصحيح للأركان الخمسة هو تقديم الصوم وتأخير الحج. ومما يشهد على صحة هذا الترتيب ما جاء عن عبد الله بن عمر -وهو راوي حديث (بني الإسلام على خمس)- من أنه كان ينكر رواية تقديم الحج على الصوم؛ ففي صحيح مسلم عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: «بُني الإسلام على خمسة: على أن يوحد الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، والحج»؛ فقال رجل: الحج، وصيام رمضان؛ قال: لا، صيام رمضان، والحج. هكذا سمعته من رسول الله، صلى الله عليه وسلم. فهذه هي الرواية التي لا غبار عليها، أما رواية تقديم الحج على الصوم، فالظاهر أن الحديث ورد فيها بمعناه لا بلفظه، أي أن القصد فيها كان مجرد ذكر الأركان الخمسة لا ترتيبها. ومما يؤكد صحة الترتيب المعتمد للأركان الخمسة، حيث الحج هو الأخير، أن الحج هو الركن الأقل ممارسة وتطبيقا في حياة المسلمين؛ فالشهادة تؤدى في كل وقت وحين، والصلاة تؤدى عدة مرات في كل يوم وليلة، وهي واجبة على جميع المكلفين، والزكاة تتكرر مرة أو أكثر في السنة الواحدة، لكل من وجبت عليه، والصوم يتكرر كل سنة على عامة المكلفين، بينما الحج لا يجب إلا على نسبة محدودة من المكلفين (مَنِ استطاع إليه سبيلا)، ومن وجب عليه فإنما يجب عليه مرة واحدة في العمر، وهذه المرة الواحدة تؤدى مناسكُها في أيام معدودات... وبهذا، فالحج هو الركن الأخير من أركان الإسلام، كما أن وقته يقع في الشهر الأخير من السنة الهجرية، حيث يأتي مسبوقا بشهر الصوم (رمضان)، ومسبوقا -قبل ذلك- بشهر «محرم» الذي يفضل كثير من الناس اتخاذه موعدا لأداء الزكاة، ومسبوقا بركن الشهادة وركن الصلاة، اللذين يكونان في كل يوم وفي كل وقت. ومع هذا كله، فإن الحج في هذه الأيام، وأمثالها من كل سنة، يرتقي من المرتبة الخامسة إلى المرتبة الأولى أو الثانية، حيث يصل الانهماك في الحج والانشغال به ذروته في يوم عرفة، اليوم التاسع من شهر ذي الحجة، وهو اليوم الموصوف بيوم الحج الأكبر. ففي هذا اليوم العظيم الجليل يقف ملايين المسلمين في ساحة واحدة وساعة واحدة، وعلى هيئة واحدة، متجهة عقولهم وأفئدتهم إلى جهة واحدة، إلى رب واحد يوحدونه ويعظمونه، يدعونه لأنفسهم ولأمتهم، لأقاربهم وأحبائهم، لعامة المسلمين وخاصتهم. وبعد نهاية هذا اليوم المشهود -يوم عرفة- يتدفق هؤلاء الملايين ذاكرين شاكرين، سائرين في طريق واحد، وإلى مقصد واحد، ليكملوا مناسك ركنهم الخامس، الذي أصبح الآن هو الركن الأول. ومعلوم أن هذا العدد الذي يحج كل سنة يمكن أن يرتفع إلى أضعاف مضاعفة، لو سمح لكل الراغبين في الحج بأن يحجوا. وأما بقية المسلمين عبر العالم فليسوا غائبين ولا بعيدين عن مشاهد الحج ووقائعه وأجوائه؛ فما من مسلم في العالم إلا وله هناك قريب أو صديق أو جار أو زميل، فهو يتطلع إلى أخباره وأطوار حجه ويتشوف إلى عودته ولقائه والاحتفاء به وتهنئته؛ وما من مسلم إلا وهو هناك بقلبه وروحه وأشواقه، ويتطلع ويتمنى أن لو كان هناك بكليته. وبفضل البث المباشر لوقائع الحج على كثير من الفضائيات والإذاعات، أصبح مئات الملايين يتابعون كل مناسك الحج ويتفاعلون مع أطوارها لحظة بلحظة. كما أن أعدادا لا تحصى من المسلمين يستحضرون الحجاج وما هم فيه، ويشاركونهم ويلتحمون بهم -على ما بينهم من فراق جسدي وبعد مكاني- بطريقة أخرى، هي صيامهم ليوم عرفة، وذلك عملا بقوله صلى الله عليه وسلم «صيام يوم عرفة أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله، والسنة التي بعده».