لم يكن يخطر على بال عدد ممن انتظموا في المسيرة التي نظمها سكان منطقة سيدي يوسف بنعلي بعد صلاة يوم الجمعة الماضي للاحتجاج على غلاء فواتير الماء والكهرباء أن هذه الخطوة الاحتجاجية التي اعتادوا على تنظيمها منذ شهر نونبر من السنة الماضية ستنقلب إلى «حرب» سيسقط فيها العشرات من رجال الأمن والمواطنين جرحى، وسيتم اعتقال حوالي 30 من الشباب المتظاهرين، وستصير خلالها منطقة سيدي يوسف بنعلي بؤرة توتّر، بعد أن أصبحت القنابل المسيلة للدموع تتطاير في سماء المنطقة والحجارة تتهاوى من فوق السطوح في اتجاه أفراد قوات حفظ الأمن والتدخل السريع، وبالتالي تصبح المقاطعة ساحة حرب دامية.. خرج المتظاهرون إلى ساحة المصلى من أجل المشاركة في المسيرة التي دعا إليها عدد من الأشخاص المعروفين بقيادتهم الوقفات والاحتجاجات على فواتير الماء والكهرباء، لكنّ خروجهم لم يجد الطريق معبَّدة، إذ إنه بمجرد أن بدأ حشد من الشباب والنساء والشيوخ يتجمع وسط طريق المصلى، القريب من فرع الوكالة المستقلة لتوزيع الماء والكهرباء، حتى خرج عدد من قوات الأمن من داخل السيارات التي كانت مرابطة في عدد من النقط الحساسة في المنطقة.. شعر المحتجّون بأنّ الوضع غير طبيعيّ، ويشّر على أنه سيتم تفريق مسيرتهم لأول مرة منذ ما يزيد على السنة من انطلاق هذه الاحتجاجات.. ليعمدوا إلى تأكيد أنّ مسيرتهم لا تعدو كونها «سلمية، هدفُها التنديد بفواتير الماء والكهرباء ليس إلا»، كما قال حسن، وهو واحد من المشاركين في هذه الوقفة. صفارة الإنذار في مواجهة «سلمية» «سلمية سلميّة، لا حْجرة لا جْنويّة».. شعار بحّتْ به حناجر الأفراد المشكلين للواجهة الأمامية للمسيرة، لكنّ هذا لم ينفع في إقناع أحد عمداء الشرطة كان يتكلم في مكبّر صوت محذرا المحتجّين من مغبة التدخل الأمنيّ في حقهم إذا لم يفُضّوا مسيرتهم وينصرفوا إلى حال سبيلهم.. ازداد أحساس المتظاهرين بأن السلطات الأمنية عازمة على تفريق مسيرتهم بالقوة، ليقرروا إشهار ورقة «حصانتهم» في وجه العصيّ والهراوات وكذا الدراجات النارية التي كان على متن كل واحدة منها عنصرا أمن، حيث صدح المحتجّون بعبارة «عاش الملك»، قبل أن يطلبوا تدخل الملك محمد السادس وحمايتهم من ناهبي المال العامّ، عندما رفعوا شعار «يا ملكْ الفقرا، ما بغيناشْ الشّفّارة».. وغيرَها من الشعارات التي تطلب تدخل الملك في رفع معاناتهم.. وما هي إلا دقائق قليلة من ترديدهم الشعارات المؤكدة لسليمة المسيرة وإخبارهم من قِبَل المسؤول الأمنيّ بعدم قانونية مسيرتهم، التي يتوجّب فضّها طوعا أو بالقوة.. لم يُبالِ المحتجّون الغاضبون الذين كانت جباههم تتصبب عرقا، وشرارة الغضب تتطاير من أعينهم.. لتتراجع عجلات الدراجات النارية التابعة للمصالح الأمنية، يتبعها حاجر أمنيّ على شكل عشراتٍ من أفراد قوات حفظ الأمن، يحملون ذروعا واقية من الحجارة، لم تكن لتصُدّ عنهم كل الذي سيأتي بعد لحظات.. بدأ الزحف الأمنيّ نحو المتظاهرين وبدأ معه الشباب الغاضبون في التتّراجع إلى الخلف وصفارات الإنذار «تزغرد» من داخل سيارات الأمن، بعد أن أعطى عميد الشرطة شارة تدخل قوات الأمن بالقوة لتفريق المحتجين.. لتتحوّل «سلمية» المسيرة إلى مواجهات عنيفة ودامية لم تشهد مثلَها شوارعُ مدينة مراكش منذ زمن بعيد، مع العلم أنّ الحي الجامعي عرف في الأسبوع الماضي أحداثا مماثلة، بعد أن اندلعتْ مواجهاتٌ بين طلبة قاطنين هناك.. أياد ناعمة تشعل الفتيل خرجت المسيرة التي نظمها سكان منطقة سيدي يوسف بنعلي بعد صلاة يوم الجمعة الماضي عن طابَعها السلميّ المعتاد بمجرد أن أقدم الطرفان المتواجهان على خطوتين اثنتين: الأولى قرار منع المسيرة التي يعتزم آلاف المتظاهرين تنظيمها احتجاجا على غلاء فواتير الماء والكهرباء، كمؤشر يوحي بأن إصرار السلطات المحلية على منع المسيرة وتفريق المتظاهرين بالقوة سيحوّل ساحة المصلى إلى ساحة وغى.. ثم إن الحجارة الأولى التي وُجِّهت صوب قوات حفظ الأمن وانطلقت من يد أحد الأطفال، والتي تلتها حجارة رَشقتْ بها امرأة من المتظاهرين الحاجزَ الأمنيّ الذي نُصب وسط الشارع، كانتا مؤشرا على انطلاق المواجهات الدامية، التي أصيب إثرها أزيد من 27 من رجال الأمن وتم اعتقال 30 متظاهرا، أطلق سراح 20 منهم بينما تم الاحتفاظ ب10 آخرين، من المفترض أن يكونوا قد عُرضوا على أنظار النيابة العامة صباح أمس الاثنين لتحديد وضعيتهم القضائية. انطلقت حجارة «paver» من يد «صغيرة» (الطفل) وأخرى من يد «ناعمة» (المرأة) لتتبعها العشرات، انطلقت من أيادٍ «خشنة» هذه المرة، خرج أصحابُها في سعيٍ إلى إطفاء «لهيب» فواتير الماء والكهرباء لشهري يوليوز وغشت.. وبدأتِ الحجارة تتطاير من أيدي الأشخاص المتواجدين في الصفوف الأمامية، صوب الرؤوس في الحاجز الأمنيّ الذي شُكل من قِبل بعض أفراد قوات حفظ الأمن، ليبدأ الزّحف نحو المتظاهرين.. ما أثار غضبَ عدد من الشباب، الذين كانت أفواههم تتلفظ بكلام نابٍ، وهم يقذفون الحجارة صوب قوات الأمن.. فبدأ الوضع يشي بأنّ الأحداث ستتطور إلى أحداث عنف دامية، حين توجّه عدد من المتظاهرين صوب إعدادية «يعقوب المنصور»، القريبة من ساحة المصلى، من أجل «إخراج» التلاميذ وإشراكهم في المواجهات.. وهو الأمر الذي تم بالفعل، لينخرط قاصرون، بدورهم، في أعمال العنف.. شرطيّ في قبضة المتظاهرين لم يكن تحرُّك المجموعات الأمنية صوب جموع المتظاهرين محسوبا ومنظما، مما جعل الهجوم الأمني ينتهي ب»فرار» عناصر الامن من قبضة المتظاهرين الغاضبين الذين صار أحد أفراد الأمن في قبضتهم.. فشرعوا في رشقه بالحجارة، قبل أن يتدخل بعض الشباب ويوقفوا اعتداء المتظاهرين على الشرطيّ بالحجارة، ويوفروا له حماية ووجدوا له «مخرَجا» لينجوّ بجلده ويعود إلى قاعدته، حسب ما أظهره مقطع فيديو تتوفر «المساء» على نسخة منه.. حميّ وطيس «الحرب» التي اندلعت في منطقة سيدي يوسف بنعلي، وصار «معسكر» المتظاهرين يرشق قوات الأمن بالحجارة، بينما اكتفت القوات العمومية بتفادي ال»بافْيي»، قبل أن تحضر تعزيزات أمنية كبيرة شرعت في إطلاق القنابل المسيلة للدموع صوب المتظاهرين، محاولة الزحف نحوهم.. صار المشهد رهيبا ومخيفا، خصوصا بالنسبة إلى السكان الذين صارت ممتلكاتهم وأرواحهم تحت رحمة بعض المحتجّين الذين استغلوا الفوضى النّاتجة عن المواجهات الدامية ليعيثوا إفسادا في ممتلكات الغير.. فقد أدى التراشق بالحجارة بين المتظاهرين وقوات الأمن، التي لجأت بدروها إلى الحجارة للرد على المحتجّين، إلى تكسير زجاج وواجهات بعض السيارات التي كانت مركونة في ساحة المواجهات وإلى تخريب واجهات بعض المحلات، التي كانت مفتوحة أثناء انطلاق شرارة الاشتباكات، قبل أن يغلقوا أبواب محلاتهم وينصرفوا إلى حال سبيلهم، إنقاذا لحياتهم وحفاظا على ممتلكاتهم.. واكب توافدَ التعزيزات الأمنية تعزيزُ آليات المواجهة مع المتظاهرين، حيث قامت السلطات بجلب خراطيم المياه واستعمالها في إبعاد المحتجّين عن الساحة وإجبارهم على مغادرة المكان، «لكنْ كأنك تصبّ الماء في الرمل»، كما قال أحد شهود عيان ل»المساء».. ليتم تقسيم التعزيزات الأمنية إلى مجموعات تطارد كل واحدة منها مجموعة من المحتجّين، الذين توجهوا صوب الدروب القريبة من الساحة، كشارع المصلى ودرب الكبص، درب العساس ودرب السعديين وشارع حمان الفطواكي.. متظاهرون يختفون ويظهرون.. لم يكن المرور نحو هذه الدروب والأزقة التي كان يحتمي فيها المتظاهرون بالأمر السهل، خصوصا بعد أن نُصبت متاريس عبارة عن حاويات للأزبال تم إضرام النار فيها، لكنّ خراطيم المياه ستنفع قوات الأمن هذه المرة في تسهيل مهمة مطاردة المحتجّين، إذ تخلصت قوات التدخل السريع من المتاريس، وتقدمت نحو الدروب والأزقة التي يحتمي بها المتظاهرون، لكن المهمة هناك لن تكون سهلة، بعد أن كان المطاردون يختفون فجأة، قبل أن يظهروا فوق السطوح وفي الدروب، حيث كان عدد من سكان هذه الأحياء يفتحون الأبواب ويسمحون للمُطارَدين بالدخول إفلاتا من قبضة الأمن، وهو الأمر الذي جعل مهمة المصالح الأمنية تزداد صعوبة.. أضحت منطقة سيدي يوسف بنعلي منطقة محظورا الولوج إليها أو الخروج منها، بعد أن اشتدت المواجهات الدامية، ما انعكس سلبا على حياة السكان برمّتهم، حيث لم يعد بإمكانهم اقتناء حاجياتهم الضرورية نظرا إلى إغلاق جل المحلات الموجودة في المنطقة، ونظرا إلى أنّ الوضع صار غير آمن.. ومما زاد في معاناة الأسر القاطنة في منطقة سيدي يوسف بنعلي «المحاصَرة» أن عددا من الأمهات والآباء صاروا يجهلون مصير أبنائهم وأقاربهم، سواء الذين شاركوا التظاهرات أو الذين كانوا في مدارسهم أو في أماكن عملهم خارج المنطقة المتوترة. كان «محمد ب.» واحداً من الذين تلقوا اتصالا هاتفيا من أحد أقاربه يسأله ما إذا كانت لديه معلومات عن شاب كان ضمن المشاركين في هذه الاحتجاجات. نفى «محمد»، القاطم ب»الوحدة الرابعة» في منطقة الداوديات البعيدة عن سيدي يوسف، علمه بمصير الشاب، طالبا من إحدى قريباته الاتصال بالشخص الذي تبحث عنه، لكنّ هاتفه مغلقا ما جعله يرجّح أن يكون الشخص في مقر الشرطة القضائية في باب الخميس، رفقة الموقوفين في هذه الأحداث، والذين بلغ عددهم حوالي 30 شخصاً.. وضعت «الحرب» أوزارها في حدود الساعة السابعة من مساء يوم الجمعة، ليبدأ الطرفان في عد خسائرهما وتفقد «جنود» معسكريهما.. فكانت الحصيلة إصابة أزيد من 27 عنصرا من قوات حفظ الأمن والتدخل السريع إصابات متفاوتة الخطورة، نقلوا إثرها إلى المستشفى لتلقي العلاجات الضرورية، حيث أصيب عدة عناصر من الأمن بجروح ورضوض في الوجه والأطراف جراء الحجارة التي كانت «تتهاطل» عليهم.. فيما أصيب عدد من المتظاهرين، لم تحدد أعداهم نظرا إلى رفض بعضهم التوجه صوب المستشفى لتلقي العلاجات خوفا من الاعتقال.. كما اعتُقل 30 شخصا، أغلبهم من المتظاهرين، أطلِق سراح 20 منهم بعد تعميق البحث معهم، فيما تم الاحتفاظ ب10 آخرين، من المُفترَض أن يكونوا قد عُرضوا على أنظار النيابة العامة لتحديد وضعيتهم القانونية. غياب المنصوري عن اجتماع عاجل عقد محمد فوزي، والي جهة مراكش تانسيفت الحوز، لقاء على وجه السرعة في مقر الولاية، يوم السبت، مع عدد من البرلمانيين وممثلي بعض الأحزاب السياسية للوقوف على تطورات الوضع في منطقة سيدي يوسف بنعلي وإيجاد طريقة لاحتواء الوضع ومنع تفاقمه. وهكذا التقى الوالي محمد فوزي بكل من المحاميين عمر بنيطو ويونس بنسليمان، البرلمانيين عن حزب العدالة والتنمية، ومحمد أمين العمراني، القيادي في حزب التقدم والاشتراكية، وأحمد البنا، عضو المجلس الوطني لحزب الاتحاد الدستوري، إضافة إلى محمد فؤاد الحوري، ممثلا عن حزب الأحرار، وكذا زكية المريني، عن حزب الأصالة والمعاصرة.. لكن غياب فاطمة الزهراء المنصوري، عمدة مراكش، والبرلمانية التي فازت بالمقعد الثالث عن دائرة سيدي يوسف بنعلي خلال انتخابات 25 نونبر ما قبل الماضي، عن هذا الإجتماع وغيابها عن هذه الأحداث جعل الأمر «غريبا ومريبا»، خصوصا بعد أن توجه المحتجّون -قبل حوالي أسبوع من هذه الأحداث- صوب مقر البلدية، مُحمِّلين رئيسة المجلس الجماعي للمدينة الحمراء مسؤولية ارتفاع فواتير الماء والكهرباء وتردي الوضع الاجتماعيّ لساكنة سيدي يوسف بنعلي. وقد كثف برلمانيو حزب العدالة والتنمية لقاءاتهم مع سكان منطقة سيدي يوسف بنعلي في محاولة لاحتواء الوضع المحتقن، خصوصا بعد الهدوء الذي طبع المنطقة «البُركانية»، كما وصفها أحد المراكشيين..
