عبور الحدود الجزائرية المغربية المغلقة منذ عام 1994 لا يشبه عبور الحدود بين الكثير من الدول الإفريقية. فقبل سنوات قليلة، لم يكن يشكل عقبة كبيرة أمام المهاجرين القادمين من دول إفريقيا جنوب الصحراء، الذين يطاردون "الحلم الأوربي". لم تكن هناك خنادق في الجانب الجزائري، ولا السياج في الجانب المغربي، كما هو الحال اليوم، حتى سار العبور هنا يشبه عبور "خط النار" الذي يتصارع فيه جيشان. رغم ذلك، فالعبور يتم في ظروف أكثر قسوة، وبكلفة مالية وجسدية، بل وفي كثير من الأحيان، يسرق العبور من بعض المهاجرين حياتهم إلى الأبد. دم على الحدود عندما كانت "أريان" ذات ال21 ربيعا، والمهاجرة القادمة من الكامرون، تهم بعبور الحدود، استرعى اهتمامها مشهد مهاجرة أخرى، لم تتذكر جيدا أي الجنسيات تحمل، لكن تفاصيل ما قاسته ذلك اليوم على الشريط الحدودي بقيت محفورة في ذاكرتها كأنها وقائع وقعت قبل ساعات. "تلك المهاجرة كانت الوحيدة، ضمن مجموعة من المهاجرين الذكور، وكانت آثار الاعتداء بادية عليها، بل كانت تنزف دما"، تقول أريان في تصريح ل"أخبار اليوم". أريان، التي تنتظر الرد من المفوضية السامية لشؤون اللاجئين بخصوص الطلب الذي تقدمت به للحصول على صفة لاجئة، عبرت الحدود رغم الخندق ورغم السياج، كان عبورها متيسرا على حد قولها، وساعدتها في ذلك بنيتها الجسمانية القوية. لكن المهاجرة التي اختارت أن يكون لسانها متحدثا باسمها، لم يكن كذلك، "عرفت منها أنها كانت ضحية اعتداء جنسي في التراب الجزائري، حملت نفسها بكل ما أتي لها من قوة، وعبرت أخيرا الحدود، لكن مباشرة بعد ذلك خارت قواها فاستسلمت للقدر". في اللحظة التي استسلمت لواقعها المزري، كانت دورية لحرس الحدود المغربي تجوب في الأرجاء على الحدود، على بعد حوالي 20 كلم من مركز مدينة وجدة، تدخلت الدورية وقدمت لها وفق "أريان" المساعدة، قبل أن تحال على المستشفى بوجدة، وهناك وجدت أيضا جمعية تعمل إلى جانب المهاجرين، تدعى جمعية "مغرب التضامن الطبي الاجتماعي"، قدمت لها الرعاية الصحية، وحتى المصاحبة النفسية، لتساعدها على تجاوز ما عاشته من تفاصيل مؤلمة في خط النار. الدماء لا تنزف هنا فقط بسبب الاعتداءات الجنسية، أو أي اعتداء يتعرض له المهاجرون الذين يهمون بعبور هذه الأمتار من الجغرافيا الملتهبة، فحتى وهم يتسلقون السياج الذي شيده المغرب على طول 110 كلم، قبل أربع سنوات تقريبا، يتعرضون لإصابات تعلق في أذهانهم.. هذا حال "ألكس"، وهو مهاجر في عقده الثالث، ينشط حاليا وسط المهاجرين ويوجههم في رحلة سعيهم للحصول على بعض الخدمات، عبر الحدود في زمن الأسلاك الشائكة، "هذا السياج صدّ زوجتي عن العبور، بسبب صعوبة تجاوزه وما يشكله ذلك من خطر عليها، ما عقد من مهمة عبورها هي ابننا الصغير الذي رافقنا في هذه الرحلة". بعدما حال السياج دون تمكن زوجة "ألكس" من العبور، وقعت هي الأخرى كما العديد من المهاجرين بين يدي حرس الحدود الجزائري، لكن زوجها وابنه تمكنا من العبور، "كنت أفكر في زوجتي، وكيف أن فشل عملية عبورها سيضعها في مأزق، سبق لي أن عشت مثله مرات عديدة. لقد وقفت أكثر من مرة أمام القضاء هناك، وكنت أتخيل هذا الوضع وكيف سيكون الموقف، لكن في النهاية وبعد عدة أشهر، تمكنت زوجتي من الالتحاق بنا، بعد الإفراج عنها". لعبة العبور هي أشبه بلعبة، لكن أقسى من ذلك، هكذا حاول المهاجر عبد الله جواي (22 سنة) أن يختزل لنا قصة عبوره عبر الحدود المغربية الجزائرية. "هامش التحرك ليس كبيرا في خط التماس"، يقول "عبد الله"، أو هكذا أراد أن يستبق تفاصيل القصة. في هذا الهامش الضيق، كان "عبد الله"، الذي خلق لنفسه حاليا في وجدة نشاطا تجاريا بسيطا، عبر شراء وبيع الهواتف النقالة المستعملة، مكلفا في فترة من الفترات "بتشتيت" انتباه حرس الحدود في الجانبين، "وقعت مرارا في يد الأمن، وفي كل مرة كنت أقتاد إلى مقر الثكنة العسكرية"، يضيف. لم يؤكد بشكل صريح بأنه كان يتلقى مقابلا من باقي زملائه الذين يتمكنون من العبور بسلاسة عندما يقوم بدوره، لكن هذا الدور حسب العديد من المهاجرين، لا يمكن أن ينفذ بدون مقابل، فهو يعرض صاحبه للعديد من المتاعب، ثم إنها الطريقة التي يتبعها بعضهم لضمان بعض النقود لتستمر الحياة عندهم، وليوفروا ما قد يحتاجونه في العبور الأخير من المغرب قبل معانقة الحلم الأوربي. "ألقي القبض علي في الجزائر مرارا، كنت في الحقيقة وجها مألوفا لديهم، لكثرة التوقيفات التي تعرضت لها، وفي كل مرة كنت أفقد ممتلكاتي بسبب هذه التوقيفات، حتى اخترت في النهاية العبور إلى المغرب"، يقول عبد الذي سئم من حياة الكر والفر، ودوره الذي لم يعد يجدي مع كثرة التوقيفات التي تعرض لها على طول الشريط الحدودي. لم ينس تفاصيل تلك المعاناة التي كان يقاسيها على الشريط الحدودي، وظلت عالقة في ذاكرته، كما لو أنه يتحدث عن أحداث وقعت منذ ساعات قليلة. لعبة العبور هذه كانت أيضا السمة التي طبعت رحلة "بابيل"، المهاجرة القاصرة ذات ال15 عاما، "كنت ضمن مجموعة تتكون من مهاجرين من مختلف الجنسيات، تمكنا من العبور عبر منطقة جبلية"، تقول "بابيل" التي لا نشاط لها في وجدة غير انتظار ما قد يجود به القدر من أخبار سارة ينهي مسار الرحلة بمعانقة "الحلم الأوربي"، في إشارة منها إلى منطقة جبل عصفور (إقليمجرادة)، التي أضحت في الفترة الأخيرة مكانا يستهوي المهاجرين للعبور. "في كل مرة كان أحد المهاجرين يحصل على الطعام ويمدنا به، لم أكن أعرف حقيقة من أين يأتي بالطعام"، تقول "بابيل"، وهي تتحدث عن هذه الشخصية المحورية في هذه الرحلة، والذي لم يكن سوى واحد من المهربين الذين اقتادهم إلى "خط النار" للعبور إلى الضفة الأخرى من الحدود. عندما بلغت "بابيل" الحدود، كان لزاما عليها أن تجرب حضها في العبور، في هذه المنطقة عند عبورها في نونبر الماضي لم تكن مسيجة، فعدد من الفلاحين المحليين كانوا يعارضون دائما أشغال السياج، لأن السياج يعزلهم عن مجموعة من أراضيهم الفلاحية، فكانت فرصة بأقل الأضرار. حتى الدفع للمهرين الذين يقتادونهم وفق المهاجرين الذين استطلعنا آراءهم لا يكون بمبالغ مرتفعة، فهي في حدود ال200 أو 300 درهم، (أي ما يقارب 20 و30 أورو)، لكن ذلك كان يتطلب القيام بمجهود زائد، والسير بمحاذاة الشريط الحدودي لعدة كيلومترات إضافية. "بابيل" وزملاؤها عمدوا طوال سيرهم بمحاذاة الشريط الحدودي، بعدما انتهت مهمة المهرب، إلى العمل بنظام إنذار تقليدي. لقد تناوبوا طوال المسار الذي قطعوه على مراقبة المحيط والطريق، "في كل مرة كنا نحس بأن عبورنا قد يكتشف، كنا نجلس على الأرض ونراقب الأمر حتى نتلقى الإشارة من المكلف بالمراقبة ونتابع المسير"، تقول المهاجرة التي تطمح إلى بلوغ الحلم الأوربي وتلقى العناية اللازمة لتحقق أحلامها. تيه في الحدود "أريان" في خضم سردها لتفاصيل العبور، وما قاسته تلك الشابة التي تعرضت لاعتداء جنسي ونزيف قبل الدخول إلى التراب المغربي، حكت تفاصيل مهاجرة أخرى كانت رفقة ابنها وحاولت العبور، لكن في لحظة العبور هذه وقع ما لم تتصوره. "لقد فقدت هذه المهاجرة ابنها في الحدود في لحظة تخبط وصراع من أجل العبور، فعبرت دون ابنها، ولم تستطع في تلك اللحظة العودة لاصطحابه من جديد"، تقول أريان. مكثت المهاجرة وقتا ليس بالقصير في وجدة، وفي كل هذه اللحظات التي قضتها، كانت تفكر في ابنها الذي فقدته في لحظة بحث عن الخلاص، فقررت أن تعود إلى الجزائر للبحث عنه. "أريان" تؤكد بأنها تتلقى باستمرار مكالمات من زميلتها المهاجرة التي تعيش حياة الضياع في الجزائر، بعدما فشلت إلى حدود الشهر الماضي من العثور على ابنها. مخاطر 2018 في متم السنة الماضية (2017)، رصدت الوكالة الأوربية للحدود وخفر السواحل المعروفة اختصارا ب"فرونتكس"، انتعاشا في الطريقة البحرية للمهاجرين القادمين من المغرب في اتجاه الضفة الأخرى من المتوسط. الأرقام التي قدمتها على مستويات الاكتشاف للمهاجرين تبرز اكتشاف 6668 مهاجرا، 2276 منهم مغاربة، وهناك طبعا- وهو ما تقر به الوكالة المكلفة بحماية الحدود البحرية الأوربية- العديد من الزوارق الكبيرة التي وصلت ولم تتمكن من رصدها. هذه الأرقام التي تبرز عودة انتعاش شبكات الهجرة على هذا الخط البحري، مقارنة مع ما تم تسجيله خلال السنوات التي سبقت 2017 إلى حدود 2014، تؤشر على عودة قوية للنشاط في هذا الخط. وإذا كان ارتفاع عدد المغاربة وبالخصوص المنحدرين من الشمال، يأتي في سياق الاحتجاجات التي عرفتها منطقة الريف، فإن العديد من المراقبين يتوقعون زيادة الضغط على هذه الطريق بما فيها "فرونتكس"، بالنظر إلى الوضع الذي يعيشه المهاجرون القادمون من دول إفريقيا جنوب الصحراء في الجزائر، وحتى في ليبيا. كرونولوجيا 2005 إلى 2013 تدفق المهاجرين على الحدود المغربية، لم يبدأ في 2005، بل قبل عدة سنوات من ذلك، لكن الفترة من 2005 إلى حدود 2013، كانت فترة مليئة بالأحداث التي قاسى خلالها المهاجرون العديد من المعاناة. رصدت الجمعيات النشيطة في مجال الهجرة، وبالخصوص الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، العشرات من التدخلات الأمنية، لإخلاء مخيمات المهاجرين في غابة سيدي معافة، وأيضا مخيم المركب الجامعي (داخل محيط كلية الحقوق بوجدة). اتسمت هذه الفترة بالعشرات من عمليات الترحيل نحو الحدود المغربية الجزائرية، كما اتسمت بترحيلات من وجدة في اتجاه مدن أخرى. 2013 إلى 2016 في أواخر سنة 2013، أعلن المغرب عن مبادرة استثنائية لتسوية وضعية المهاجرين، وهي العملية التي انطلقت في بداية سنة 2014 واستمرت إلى غاية نهاية السنة نفسها. في هذه الفترة، خفت بشكل كبير المضايقات الموجهة ضد المهاجرين، وبالتزامن مع إخلاء السلطات لهم من مخيماتهم التي كانوا يتخذونها أماكن للإقامة في وجدة بالخصوص، التحق العديد منهم ممن تقدموا بطلبات للتسوية للإقامة في منازل اكتروها لغرض الإقامة. بعد ذلك بسنتين تقريبا، أعلن المغرب عن مرحلة ثانية لتسوية وضعية المهاجرين انتهت السنة الماضية، حيث استفادت الآلاف من الإقامة بشكل قانوني في المغرب، لكن رغم ذلك لم تتوقف مداهمات أماكن تواجد المهاجرين، خاصة في الغابات المحيطة بمدينة الناظور والمجاورة لمليلية المحتلة. 2017 إلى 2018 استمر تدفق المهاجرين على المغرب، ومعهم عودة ملحوظة لتدفق اللاجئين السوريين، (نموذج السوريين الذين دخلوا عبر منطقة فكيك)، خلال السنة الماضية، ورغم أنه لا توجد أرقام رسمية، ولا أرقام محددة لدى الجمعيات النشيطة في مجال الهجرة، إلا أن الوضع الذي يعيشه المهاجرون الأفارقة، في الجارة الشرقية الجزائر، والمتسم بزيادة العداء لتواجدهم هناك، اضطر الآلاف من المهاجرين إلى عبور الحدود. عماري: العبور يتم بمساعدة مافيا الهجرة حسن عماري، الناشط في مجال الهجرة، والذي راكم تجربة تمتد لعدة سنوات، في رصد حركة الهجرة والعبور في الحدود المغربية الجزائرية، يميز في مقابلة مع "أخبار اليوم" بين مرحلتين طبعتا عمليات عبور المهاجرين للحدود. المرحلة الأولى، هي مرحلة ما قبل إنشاء التجهيزات الهندسية الجديدة في الحدود، من خنادق وسياج، والتي كان فيها العبور غير مكلف، كما هو الحال اليوم، "صحيح أن المهاجرين تعرضوا كما اليوم لمضايقات وأحيانا كانوا يكلفون بالقيام بأعمال التنظيف في الثكنات الجزائرية، وبالخصوص في الثكنات الواقعة بمنطقة مغنية القريبة من أماكن الاستوطان قبل محاولة العبور، ويتم الركض وراءهم على وقع أزيز الرصاص الذي يطلق في الهواء، لكن العبور حينها كان بأقل التكاليف ماديا وجسديا"، يقول عماري. مرحلة السياج والخنادق، وهي المرحلة الثانية التي يتحدث عنها عماري، "يحدث أن يكون العبور فيها مكلفا جسديا. كثيرا ما وقفت على حالات مهاجرين سقطوا في الخنادق، بل فيهم من فقد حياته فيها، وأيضا في الجانب المغربي، كثيرا ما طاردت عناصر حرس الحدود المهاجرين، ويضطرون إلى تسلق السياج ويصابون بجروح في مختلف أطراف جسدهم". العبور يكون مكلفا ماديا أيضا، وإذا كانت تصريحات عماري تتطابق مع بعض تصريحات المهاجرين الذين يقولون إن العبور من مناطق التابعة لإقليمجرادة أقل كلفة، حيث تتراوح حسب عماري بين 100 و300 درهم يدفعها المهاجرون للمهربين، فإن العبور في المناطق الشمالية للحدود، والتابعة لعمالة وجدة أنكاد، يتم بكلفة تتراوح ما بين 500 و1500 درهم.