رئيس الحكومة: الانسجام السياسي القوي للأغلبية وراء المنجزات المرحلية للحكومة    أخنوش: نصف الولاية شهد ثورة اجتماعية غير مسبوقة في تعميم التغطية الصحية    السياسة الخارجية الجزائرية: أزمة المحددات والأشخاص    صديقي : تحويل النظم الغذائية يتطلب حلولا شاملة ومنهجية    خبراء مغاربة ودوليون يناقشون في الرباط إشكالية انبعاث الكربون من المركبات    خارجية أمريكا: التقارير عن مقابر جماعية في غزة مقلقة    إستعدادُ إسرائيل لهجوم "قريب جداً" على رفح    الكاف يعتبر نهضة بركان فائزا بثلاثية على اتحاد العاصمة والإياب في موعده    أمن طنجة يعلن الحرب على مقرصني المكالمات الهاتفية    أخنوش: الحكومة دأبت منذ تنصيبها على إطلاق مسلسل إصلاحي جديد وعميق يحقق نهضة تربوية وثورة تعليمية    "تسريبات" مدونة الأسرة.. أبلال يحذر من "إفراغ" المرأة من بعدها الإنساني    جهة طنجة تناقش تدابير مواجهة الحرائق خلال فصل الصيف    المغرب سيكون ممثلا بفريقين في كأس العالم للفوتسال    عاجل.. الكاف يعتبر نهضة بركان فائزا بثلاثية على اتحاد العاصمة والإياب في موعده    غرفة الجنايات الاستئنافية بفاس تؤخر ملف البرلماني البوصيري ومن معه    أيام قليلة على انتهاء إحصاء الأشخاص الذين يمكن استدعاؤهم لتشكيل فوج المجندين .. شباب أمام فرصة جديدة للاستفادة من تكوين متميز يفتح لهم آفاقا مهنية واعدة    هل سيتم تأجيل النسخة ال35 من كأس إفريقيا للأمم المقررة بالمغرب سنة 2025؟    تهديدات بالتصعيد ضد ّبنموسى في حالة إصدار عقوبات "انتقامية" في حقّ الأساتذة الموقوفين    إسرائيل تعلن بدء تنفيذ "عملية هجومية" في جنوب لبنان    سنطرال دانون تسلط الضوء على التقدم المحقق في برنامج "حليب بلادي" لفلاحة مستدامة ومتجددة    الملتقى العالمي ل 70 امرأة خبيرة إفريقية مناسبة لتثمين الخبرة والكفاءة الإفريقية    ما قصة "نمر" طنجة؟    فساد في الموانئ: الناظور بين المدن التي شهدت إدانات بالسجن لمسؤوليها    مجلس الرئاسة الليبي يجهض مخطط الجزائر بإقامة تكتل مشبوه في الفضاء المغاربي    الحكم على مغني راب إيراني بالإعدام بتهمة تأييد الاحتجاجات    مجلس النواب يفضح المتغيبين بتلاوة أسماء "السلايتية" وتفعيل الاقتطاعات    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الخميس    الولايات المتحدة تنذر "تيك توك": إما قطع العلاقات مع بكين أو الحظر    برنامج دعم السكن.. معطيات رسمية: 8500 استفدو وشراو ديور وكثر من 65 ألف طلب للدعم منهم 38 فالمائة عيالات    الفوائد الصحية للبروكلي .. كنز من المعادن والفيتامينات    دراسة: النظام الغذائي المتوازن قد يساهم في تحسين صحة الدماغ    ارتفاع حصيلة العدوان الإسرائيلي على غزة إلى 34 ألفا و262 شهيدا منذ بدء الحرب    جنيف .. تحسين مناخ الأعمال وتنويع الشركاء والشفافية محاور رئيسة في السياسة التجارية للمغرب    مدير المنظمة العالمية للملكية الفكرية : الملكية الفكرية تدعم جميع جوانب الحياة في المغرب، بما في ذلك الزليج    أفلام متوسطية جديدة تتنافس على جوائز مهرجان تطوان لسينما البحر الأبيض المتوسط    إعلان فوز المنتخب المغربي لكرة اليد بعد انسحاب نظيره الجزائري    مقترح قانون لتقنين استخدم الذكاء الاصطناعي في المغرب    دراسة: تناول الأسبرين بشكل يومي يحد من خطر الإصابة بسرطان القولون        مبادرة مغربية تراسل سفراء دول غربية للمطالبة بوقف دعم الكيان الصهيوني وفرض وقف فوري للحرب على غزة    اختتام فعاليات الويكاند المسرحي الثالث بآيت ورير    دراسة تبيّن وجود صلة بين بعض المستحلبات وخطر الإصابة بمرض السكري    الموت يفجع شيماء عبد العزيز    جلسة قرائية تحتفي ب"ثربانتس" باليوم العالمي للكتاب    في شأن الجدل القائم حول مدونة الأسرة بالمغرب: الجزء الأول    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    أسعار الذهب تواصل الانخفاض    صدور رواية "أحاسيس وصور" للكاتب المغربي مصطفى إسماعيلي    "الراصد الوطني للنشر والقراءة" في ضيافة ثانوية الشريف الرضي الإعدادية بعرباوة    إقليم فجيج/تنمية بشرية.. برمجة 49 مشروعا بأزيد من 32 مليون درهم برسم 2024    "نسب الطفل بين أسباب التخلي وهشاشة التبني"    كأس إيطاليا: يوفنتوس يتأهل للمباراة النهائية على حساب لاتسيو    توفيق الجوهري يدخل عالم الأستاذية في مجال تدريب الامن الخاص    بطولة انجلترا: أرسنال ينفرد مؤقتا بالصدارة بعد فوز كبير على تشلسي 5-0    لقاء يستحضر مسار السوسيولوجي محمد جسوس من القرويين إلى "برينستون"    الأمثال العامية بتطوان... (580)    الإيمان القوي بعودة بودريقة! يجب على الرجاء البيضاوي ومقاطعة مرس السلطان والبرلمان أن يذهبوا إليه    كيف أشرح اللاهوت لابني ؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ظاهرة الخوارج الجدد و إشكالية العنف و اللاعنف.. مساهمة في نقد الفكر الديني عند الحركة الاسلامية المغربية
نشر في التجديد يوم 04 - 06 - 2004

إن ظاهرة الخوارج المعروفة في التاريخ الإسلامي وهم إفراز معركة صفين حين حسم مصير العالم الإسلامي، باتجاه وراثة الملك و توديع حياة الشورى، و رأى الخوارج أن إعادة الحياة الراشدية هي بالسيف، و كان حزب الخوارج يضم نموذجا لا ينقصه الإخلاص أو التضحية، بقدر حاجته للعلم و الفقهب و اليوم يعيد الشباب المتحمس إحياء مذهب الخوارج من جديد، و لا أحد ينتبه إلى أن أبا حمزة الخارجي أصبح بين ظهرانينا 114ص115 -الدرس الأفغاني -خالص جلبي.
هكذا بدأت فرق طلبت الحق و أخطأت الطريق إليه، فشهد العالم الإسلامي أجمع في هذا العصر، حالات من اللاسلم، و تعددت الانفجارات، و انطلقت أيادي الموت و الرعب تظهر من هنا و هناك، وتداعت علينا ظواهر فكرية ثقافية اجتماعية و سياسية جديدة، تتجه بمنطق القوة و الشوكة أكثر فأكثر نحو ترسيخ مفاهيم و تصورات للتعامل مع الأوضاع العالمية، فكما برزت حركات البيئة لمحاربة أعداء البيئة، و خرجت فرق لمناهضة العولمة، و انتشرت عبر العالم أفكارها، و أصبحت مستعدة للإنزالات الجماعية في أية منطقة يعقد فيها مؤتمرا أو لقاء داعم لفكرة العولمة أو الأمركة في أي جهة من جهات الأرض الأربعبفكذلك نزلت على العالم فرق أضلت روح العصر، و ربما أخطأت زمنها و تاريخها أيضا ، إن لم نقل هي من إفراز تراكمات اجتماعية و دينية و سياسية معينة، فأوجدت عندنا أقطاب مختلفة، كقطب التشدد و التنطع، وعقليةالقروسطوية، و روح تقديس زمان و تاريخ معين، و أشخاص معينين، و الأكثر جاذبية وشائعة، حتى أنه يمكن تقريب الصورة أكثر و إسقاطها على (المثال التالي) المغناطيس العالي الفعالية الذي يجذب إليه كل شيء تتوافق مكوناته مع القوة المستقبلة ومركزالجاذبية،
فأصبحوا كحاطب ليل، يختزلون الدين و التدين و التراث و التقاليد والأعراف و حتى الأشخاص، في منهج و شكل طقوسي و شعائري مقدس، فتشكل لديهم بناء فكري مهم، و رصيد مادي و معنوي يثير الانتباه و الدهشةبفما كان من أي أحد دخل دائرة هذا النسق الرفضوي مهما كان مبلغ علمه، و درجات يقظة روحه، و توازن معارفه مع عدالة بصيرته، إلا أن يدافع و ينشر فكر جماعته الدينية (يمكن أن تكون أي جماعة غير تلك) وثقافتها أكثر مما يتوجب عليه أن يصحح المسار، و ينتقد بل يتجاوز بعض مظاهر التنظيم المرضية و السلبية، ومن الملاحظ أن هذه الإشكالية أي إشكالية النسق العام أو ما يمكن نعته و تسميته بديكتاتورية المسار الجماعي،الذي يتطلب استحضار الفرد عقله في ظل الثلة، فهي آفة الجماعات البشرية، فما يميل أحد في ظل تلك المنظومة المنغلقة عن المسار الجماعي إلا حكم عليه من طرف الأغيار (في قلبه غيرة على النسق العام)، بالنبذ و الإقصاء، (هذا هو تعاملهم منذ الأزل، فكذلك عومل الأنبياء و المصلحين و العلماء و التاريخ يشهد على ذلك. و تعامل الأغيار يقف دائما أمام تجديد المسيرة، و يتهم كل من يأخذ شعلة الحركة الفكرية بالشذوذ و غير ذلك من الأوصاف )، و
بطبيعة الحال فإن أي فرد يدخل تلك المنظومة إلا أصبح نسخة من نسخ الفكر الديني المنغلق،(إلا من رحم ربك)، بدل كونه دما جديدا في إطار الفكر الديني المتسامح و المنفتح ( و الفرد النسخة بقوة ديكتاتورية المسار الجماعي هو فقط مثال مطبق على ظاهرة الخوارج الجدد و الفكر الديني المنغلق و يمكن إسقاط هذا التطبيق على أي تنظيم ).فنشأت بذلك حركات سرية متشددة و متطرفة، حيث إن السرية كما يقول خالص جلبي تتعانق مع العمل المسلح في زواج غر شرعي تحت الأرض(كما أنه يحصر الصراع في بعده السياسي) و السرية كمفهوم خطير في علم السياسة، و هي شذوذ في علم النفس كما هي مرض في العلاقات الإنسانية في علم الاجتماع و هي في الطب بؤرة قيحية، ص,66 فبذل أخذ هذه الحركات بالعمل العلني تحت مسمع و مرأى الجميع معلنة اعتدالها بتخليها عن أسلوب الثورة المسلحة برفع السلاح في وجه النظام و المجتمع و ان تكون عاملة في إطار المشروعية بدل اللامشروعية.
التحيز المعرفي و مشكل المنهج
قد يقع التنازع في المنهج و الرؤى، و المذهبية، و التي تحاول تفسير ظاهرة الخارجي حيث يرى المتتبع أن أغلب الباحثين الذين يحاولون قراءة موضوع حركات الإسلام السياسي، أو الجماعات الدينية، أو الحركات الإسلامية، يتورطون في مقاربات لا علمية، و استنتاجات لا موضوعية، فهم أيضا ضحايا خندقهم الفكري و مذهبيتهم الضيقة كما قد وقع الطرف الآخر عند تفسيره للخطاب القرآني، في حالة من الانسداد في دائرة من دوائر الزمان البائدة التي لا حرج في تجاوزها.
فيأخذ المهتم -كمتتبع جيد لمثل هذه القضايا - على المتخصص سقوطه أيضا في دوامة التحيز المعرفي أو التحيز المذهبي، فعندما يحلل هذا الأخير، فإنه لا يبقي خلفياته المعرفية و المذهبية، بعيدة عن الموضوع المتناول، حتى تكون زاوية نظره موضوعية مقبولة لا إجحاف فيها. و القضية التي يجب الانتباه إليها بشكل أو آخر، هي حالة البون الشاسع التي بين المثقف- المتخصص و بين المجتمع، الذي يمكن أن يفسر العلاقة التي تربطهم بشكل تواصلي خطير، جعلت هذه الفئة المتميزة تتخلى عن الدور المنوط بها و بعدت عن الاحتكاك بفئات المجتمع و النتيجة الحاصلة تعاطي المثقف -المتخصص لإشكالية العنف في عقيدة الحركات السرية أو حتى الحركات الاجتماعية في موضوع أو مقال متواضع غير دقيق بل أكثر ما يكون ناقص الأهمية والقيمة العلمية، حيث لا ينظر بنظرة الناقد والمتفحص والمدقق في شتيجوانب القضية الموضوع، و كثيرا ما يترك الساحة لشخص ناقص الأهلية المعرفية (تجارب و تراكمات معرفية معينة)بفيصعب عليه هضمها بشكل طبيعي، إذن التوصية الموجهة إلى الباحث والمثقفب هي أن يتخلص من حالة القبض المرضية التي تعتري إنتاجه الفكري، فقضية التطرف و التشدد لا يجب أن
تناول في موضوع أو مقال بقدر ما يجب تناولها في كتابات متعددة، تبين قدرته على تتبع أمراض المجتمع و إصلاحها، وتوضح مدى إحساسه بهول المسؤولية التي تقع على عاتقه.
الحركة الإسلامية و تحديات المرحلة:
قال الإمام علي كرم الله وجهه عن الخوارج ليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه، طلب العلم فريضة على كل مسلم، فكذلك التفقه والاجتهاد واجب على كل من يمتلك آلياته، فإذا أصاب الحق فله أجران، و إن أخطأه فله أجر، و لكن ماذا يمكن أن نقول عن الخوارج الجدد بالإضافة إلى قولة الإمام علي رضي الله عنه.
هل نقوم بالدعوة لهم للرجوع إلى طريق الهداية و الصواب فقط أم أن نضيف العمل على خلق بناء بنية فكرية ودينية معتدلة تسد الطريق على التطرف و أشكال التدين العنيف أو التفكير الديني العنيف فعندما ما طلبوا إقامة التدين في المجتمع كما يتصورونه و الذي ينظر إليه إلى أنه يكون أكثر مثالية وأتيوبية من جمهورية أفلاطون، فهذا اجتهاد أخطأ الصواب، فالدين لا يقام بالإكراه: إكراه الناس عليه دون أن تكون لديهم قابلية حقيقية لذلك، ثم عندئذ نعلن لهم أن الفضيلة التي جاؤوا بها يجب أن توضع لها حدود، كما قال مونتيسكيو في روح القوانين عن التوجه الأخلاقي الأكثر مثالية، يقول : إن الفضيلة نفسها في حاجة إلى حدود. و بعد هذا كله ومن زاوية أخرى.
لا يجب أن ننسى أن الضغط المادي و الرمزي مورس بشكل أو آخر على كل من يميل إلى خطاب الحركات الإسلامية، بل ذهبت -قبل حدث الدار البيضاء المأساوي-مخيلة البعض إلى افتعال معارك هلامية، و إطلاق تحذيرات غير مقبولة و لا أساس لها إطلاقا من الصحة لتزكية منطق الصراع والتصادم، و الأخطر من ذلك كله الخلفية و البعد الذرائعي البركماتي الذي يوجه به البعض إلى الرأي العام المغربي هذا الخطاب، حتى يكون لديه قابلية للنفور و الاشمئزاز من أي فكرة أو خطاب يأتي في سياق الحركات الإسلاماوية و الماضوية و الظلامية ، بمختلف الأشكال و التلاوين السياسية والثقافية التي تمثلها هذه الحركات الإسلاميةب و مع ذلك فإن الذكاء التاريخي الذي توارثه الشعب المغربي العريق، و التجربة السياسية الناجحة التي يسير عليها وينهجها المغرب.
كل هذه العوامل ساعدت على إفراز خطابات متمايزة (لكل شرعة و منهاجا، برجالاته و أنصاره) ونعني أنصار الاعتدال، دون غيرهم في ممارسة التجربة الثقافية و السياسية في العلن أمام الكل، و لأنه ليس في صالح أي أحد تصور عكس ذلك، و التاريخ لا زال يحتفظ ضمن أرشيفه و ذاكرته بمعطيات تأكد ما قلناه، أو كما يقال ليس بعد العيان بيان.
و أريد أن أخلص إلى أنه على الذين يجرون الأمور إلى أوسطها-الحركة الاسلاميةب- و هذا صعب جدا و يحكمون بمنطق الاعتدالية، و هذا هو الأشد والأعقد، عندما يوضعون في سياق واحد و قفص واحد (و هذا استبعده إلى حد ما لأنها ستكون دعابة يائسة لا معنى لها) دون تمييز و لا تمحيص، سواء برفع شعارات أنكرها - ليس في القنافذ أملس - سيسبب ذلك آلاما و جراحا و صداعا مؤلما لهم و لكل الذين يعلقون عليهم ما بقى من أمل و طموح إلى تقديم النموذج السليم في العمل السياسي والاجتماعي و الثقافي ب و الوضع الآن لا يسمح لبعض الذين يرفعون شعارات التقدمية والعلمانية و الحداثيةب بإعادة الكرة مرة أخرى لرمي كل الأطراف الفاعلة في الساحة السياسية و غيرها، بالرجعية و الظلامية و الماضوية، و لأن الحكمة تقتضي ألا ينصب نفس الميزان بدون وجه حق و لا عدل، و يؤخذ بنفس العقلية المعيارية القديمة، وبنفس المنطقية القياسية في التعامل مع هذه الوضعية و المرحلة ، فلا تزر وازرة وزرأخرى، و لكل نفس ما كسبت.
تجديد التفكير الديني كحاجة ملحة
فيما يخص كل الذين يعملون في مجال العمل الإسلامي المنظم و غير المنظم، فنقول لهم بلسان الحال، إن المرحلة الراهنة تحتاج إلى تكثيف الجهود لتجديد التفكير الديني، وطرح نظرة جديدة تصحيحية للمنظومة الفكرية، بعقلية نقدية طبعا، فالعقل ينمو من خلال آلية النقد الذاتي لأن المراجعة تفرض التصحيح و هذا يعني النمو، و في جو الممارسة و التصحيح يزداد التراكم المعرفي و هذا لا نهاية
له، ومن هنا يجب أن نميز بين عقليتين في بنية العقل العربي-المسلم، العقل النقدي و العقل النقلي، فيمتاز العقل النقلي بثلاث أمور، تمرير الأفكار بدون فلترة و نشر الأفكار بحماس و إخلاص دون الوعي بها، و تبريرها و الدفاع عنها بضراوة، والدخول في صراعات جدية مع الأفكار الأخرى بدون علم و لا هدى و لا كتاب منير. والذي يخضع لمثل هذه العقلية يستطيع أن يفعل أي شيء بحماس و ثقة زائدة بل يرتاح ضميره لذلك العمل الذي قدمته يداه لأنه -في نظره- الأصلح والأصوب.
أما العقل النقدي، بالمقابل فيمتاز بثلاث: مراقبة الأفكار دون ملل، و إدخال التصحيح على الخطأ، والتحرر من المعصومية -التي تزكي دائما أقوال الأنا و تقصي الإستماع للغير- و تكوين آلية نقدية تعمل ذاتيا (النفس اللوامة) فعندما يفرق أبناء الصحوة بين النهجين اللذين بينهما برزخ لا يبغيان، لا من حيث الطرح و لا النتيجة، عندئذ تتحقق ولادة جديدة للعقل المسلم، ص 109 -الدرس الأفغاني -خالص جلبي بتصرف.
و من جهة أخرى هذا لا يعني أن اسنن الكونية ستحابي أحدا، لتحافظ له على مكانته ضمن السياق الحاضر -حتى لا يصاب أي أحد بهلوسة الأنا و هستيرية الذات المغرورة - بما يتوفر عليه من شعبية سياسية طامحة، و ممارسة أخلاقية مشرفة، و منهج وسطي معتدل، بل إن الأمر يخضع أيضا لقانون نفس السنن الكونية فالكل متغير، و يبقى وجه ربك ذو الجلال و الإكرام، لتدور دائرة التدافع و التنازع بين اتجاهين إسلاميين في الغالب، الأول تقليدي تراثي نقلي متشدد عنيف منفصل عن التاريخ والثاني عقلاني مستنير متصل بالعالم و سلامي متسامح، و الورقة المركزية والحاسمة بين الاتجاهين هي قابلية الأمة و الشعوب الإسلامية لتقبل أيا من هذه الرؤى والمناهج، و من رأيي أن هذه القابلية يعود تشكلها إلى الأوضاع الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية لأي بلد، حيث يجيء أجل كل شيء فللحركات الإسلامية كتجربة بشرية أجلها أيضا.
المقاربة الإصلاحية
يعاني حقيقة -اغلب- المسلمين من غياب القدرة على التوفيق بين الشرع و الفكر من ناحية و بين عناصر الإنسان و الزمان من ناحية أخرى، أي التوفيق بين الأصالة والمعاصرة و الوطن، و يقترن مدى نجاح عملية الإصلاح على القراءة الصحيحة للمرجعيةالدينية بمنظار معاصر و فهم عميق لإفرازات الواقع و مشكلاته و ظروف و هموم البيئة والوطن المحليين (ص 137 رسالة الإصلاح)، وعلى كل من يساهم في بناء هذه المقاربة أن يدفع بما استطاع من جهد و مال و عمل فكري و غيره لتشجيع كل مبادرة تسير نحو خلق بنية ثقافية مرنة غير جامدة، تتجاوز و تنسخ ما عليه نسقنا الفكري و الديني الحالي، فالأفق ما زال يغشاه سراب دامس، و الرؤية الواضحة و الواسعة والمستشرفة ببشارة الخير تحتاج إلى شروط و من الشروط، إعادة صياغة الأرضية التي نقف عليها أو على الأقل مراجعتها، لأن أغلب الذين يأخذون بالمرجعية الدينية -كمثال- يجعلون ما يمكن أن يعتبر مستأنسا به أصلا على الأصول و وسيطا سلبيا -(سواء كان هذا الوسيط عبدا أو كتابا) -سواء بينه و بين الخطاب القرآني أو النصوص الحديثية، ثم علينا أن نعرف أن إعادة نقل تجربة الأوطان و البيئات المختلفة وتنزيلها في بيئة معينة
أخرى لا يقبله شرع و لا منطق - فثقافة المشرق ليست هي ثقافة المغرب، وتاريخ المنطقتين مختلف تماما مع ادعاءات البعض أن الدولة الإسلامية عبر مختلف العصور الماضية كرست تجربة تاريخية و جغرافية موحدة-، و تجاهلوا أن للأوطان رجالات و خصوصيات ثقافية وتاريخية الدافعة بسنة التمايز و الاختلافب والأصل- في اعتقادي - أن يفهم الناس و يمارسوا تدينهم حسب فهمهم، و يجتهدوا ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا حسب بيئتهم وعقلهم وحاجتهم لهذا الاجتهاد، و السيرة النبوية تعلما عندما تتحدث عن مدرسة محمد صلى الله عليه و سلم، والتربية التي تربى في ظلها الصحابة الكرام، فمثلا -تدين عمر ليس كتدين عثمان و تدين الاثنين ليس كتدين أبي ذر الغفاري و معاوية و تدين الجميع ليس مثل تدين عائشة وحسان بن ثابت وعلي بن أبي طالب، فالأسوة الحسنة بالنبي صلى الله عليه و سلم، في التدين النموذجي فهذا أفضل و أزكى، و من رغب عن سنته صلى الله عليه و سلم فليس من المسلمين في شيء، و إلا فإن نهج الفوضويين والعبثيين -من أفراد و جماعات- في إنزال نموذجهم الذي ارتضوه بالقوة والغلبة، و تطبيق نظريتهم التشريعية كما يتصورونها و يحلمون بها، في كل وقت و حين سيدفع
إلينا بخارجي جديد أو متنطع جاهل يمارس الوصاية والرقابة الدينية بغير وجه حق على الجميع ، بما أوتيه من قلة علم وعمل، بحسن نية أو غيرها ، وقتئذ تكون العواقب وخيمة ، فنعيش -لا قدر الله- في دائرة مغلقة من التوترات غير المقبولة ، فينبذ التفكير و الحرية ...بدعوة المحافظة على شكل معين من التدين ، ويرمى كل مطالب بتجديد التفكير الديني بالكفر و الزندقة، ويرهق أفراد المجتمع بالتبديع والتضليل بفيقطع دابر هؤلاء ، بدفع شرهم بوسائل و طرق حضارية أكثر فاعلية ، و بإيجاد حلول تستهدف بناء ثقافة التسامح و الحوار وأحقية الاختلاف ب وكل هذه المبادئ شورية و ديمقراطية بل ودستورية أيضا. وفي المقابل لا يجب أن نترك لبعض الأحداث الارهابية -مع ما خلفته من آلام و جراح فبقلوبنا وقلوب المغاربة جميعا- المجال لتمس بالمكتسبات الديموقراطية والحقوقية وبالحريات العامةب و ذلك باستعمال ذريعة محاربة الإرهاب.
يوسف محمد بناصر
كلية الشريعة آيت ملول


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.