زخات رعدية مصحوبة بهبات رياح مرتقبة اليوم الأحد بعدد من مناطق المملكة (نشرة إنذارية)    الملك: علاقات المغرب وأرمينيا متينة    إسرائيل تعيد إغلاق معبر الملك حسين    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الإثنين    أخنوش: أتفهم أن هناك من يريد استثمار وجود هذه الحكومة لحل جميع المشاكل بشكل آني ومستعجل وسنحاول ذلك قدر المستطاع    عملية بئر لحلو.. إنزال عسكري مغربي مباغت يربك "البوليساريو" ويفضح تورطها مع شبكات التهريب    بريطانيا والبرتغال تستعدان للاعتراف رسميا بدولة فلسطين قبل قمة الأمم المتحدة    اختبار صعب لبركان أمام كارا الطوغولي وسهل نسبيا للجيش الملكي ضد بانجول الغامبي    المنتخب المغربي ل"الفوتسال" يهزم الشيلي 5-3    عضو في حكومة القبائل يكتب عن فضيحة فرار الجنرال الجزائري ناصر الجن    حملة استباقية لتنقية شبكات التطهير السائل استعداداً لموسم الأمطار    المضيق-الفنيدق تطلق ورشات مواكبة لحاملي المشاريع الشباب في إطار برنامج 2025 للمبادرة الوطنية للتنمية البشرية    نشرة إنذارية.. زخات رعدية مصحوبة بهبات رياح مرتقبة اليوم الأحد بالمغرب    الصويرة: نساء من المغرب وخارجه يطلقن نداء دوليا من أجل السلام    الدرك الملكي بالواليدية بحجز معدات كانت معدة لاستعمالها في عمليات مشبوهة    "اقطيب الخيزران" تدشن موسمها الفني بمسرح المنصور بالرباط    استخدام الهواتف الذكية يهدد الأطفال بالإدمان    فريق يتدخل لإنقاذ شجرة معمرة في السعودية    نقابة: لن نقبل بالتفريط في مصالح البلاد وحقوق العمال بشركة سامير    بطولة إنكلترا: ليفربول يحافظ على بدايته المثالية ويونايتد يعبر تشلسي    ميلوني تأمل حكومة فرنسية محافظة    اتحاد طنجة لكرة القدم الشاطئية ينهي المرحلة الثانية بانتصار ثمين ويحافظ على صدارة الترتيب    جريمة قتل تهز جماعة العوامة ضواحي طنجة إثر شجار دموي        رئيس "الفيفا" يعاين تقدم أشغال ملعب طنجة الكبير ويُشيد بالكفاءات المغربية    الكاف يحدد موعد ومكان السوبر الإفريقي بين بيراميدز ونهضة بركان    ريال مدريد يحقق حلم الطفل أوحيدا    أخنوش: قطاع الصحة يتصدر الأولويات .. وسنواصل تنزيل المشاريع الكبرى        النادي المكناسي يهزم الفتح بهدفين        اضطرابات في مطارات أوروبية بسبب خلل إلكتروني أصاب أنظمة تسجيل الركاب        بورتريه: أندري أزولاي.. عرّاب التطبيع الصامت    الشرادي يتغنى بالصحراء المغربية في قلب موريتانيا    "الغد كان هنا" منجية شقرون تقيم معرضا شاعريا بين الذاكرة والضوء    المقاطعة الثقافية لإسرائيل تتسع مستلهمة حركة مناهضة الفصل العنصري    مالي تضع النظام العسكري الجزائري في قفص الاتهام أمام محكمة العدل الدولية    الانبعاثات الكربونية في أوربا تبلغ أعلى مستوى منذ 23 عاما (كوبرنيكوس)        هجوم سيبراني يربك حركة السفر في عدة مطارات أوروبية رئيسية    حموشي يجري زيارة عمل إلى أنقرة بدعوة رسمية من السلطات التركية (بلاغ)    "على غير العادة".. بريطانيا تفتح المجال لتجنيد جواسيس حول العالم بشكل علني    وزير خارجية الصين: المغرب كان سبّاقاً لمدّ الجسور معنا.. وبكين مستعدة لشراكة أوسع وأعمق        دراسة.. النحافة المفرطة أخطر على الصحة من السمنة    قيوح يجتمع بنظيره الدنماركي لتعزيز شراكة تتعلق بالنقل البحري    انفصال مفاجئ لابنة نجاة عتابو بعد 24 ساعة من الزواج    بورصة البيضاء تنهي الأسبوع بارتفاع    الرسالة الملكية في المولد النبوي    مساء اليوم فى برنامج "مدارات" : صورة حاضرة فاس في الذاكرة الشعرية    تقنية جديدة تحول خلايا الدم إلى علاج للسكتات الدماغية        تسجيل 480 حالة إصابة محلية بحمى "شيكونغونيا" في فرنسا    الذكاء الاصطناعي وتحديات الخطاب الديني عنوان ندوة علمية لإحدى مدارس التعليم العتيق بدكالة    مدرسة الزنانبة للقرآن والتعليم العتيق بإقليم الجديدة تحتفي بالمولد النبوي بندوة علمية حول الذكاء الاصطناعي والخطاب الديني    رسالة ملكية تدعو للتذكير بالسيرة النبوية عبر برامج علمية وتوعوية    الملك محمد السادس يدعو العلماء لإحياء ذكرى مرور 15 قرنًا على ميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التكافل كأحد أركان الثقافة العملية للحركة المجتمعية للتنمية‎
نشر في التجديد يوم 10 - 08 - 2005

انتهى المقال السابق المعنون ثقافة الحركة المجتمعية إلى أن ثقافة الحركة التي تطبقها عمليا تحكمها قيم ست هي: التكافل، صلة الرحم، توفير الحاجيات، استثمار الأموال، المساواة وديمومة الإنتاج، وأن لنا عود فيها وتفاصيل، وهنا يتم تخصيص الحلقة إلى أولى هذه القيم الاقتصادية/الإنسانية وهو التكافل.
utilisional ونذكر أن الثقافة العملية، أو ذات القابلية للتحقيق العملي، هي الثقافة التي تحتوي على مضمون عمليoperationel، وفي ذات الوقت استعمالي دون أن ينقصها في ذات الوقت المحتوى الجمالي أو الجانب الروحي. وأن ما تسعى إليه الحركة المجتمعية هو تحويل هذه الثقافة العملية إلى ثقافة مجتمعية إلى جميع أفراد المجتمع، يأخذ كل منهم منها على قدر طاقته وحاجته بنصيب، دون أن يؤثر ذلك على عموميتها، واشاعاتها، و تداولها، أي أنها لا تقتصر على نخبة معينة متخصصة دون غيرها، وإنما يتمثلها الجميع وإن تخصصت طائفة ببعض فروعها العلمية الممتدة من أصلها العام.
واتخاذ القيم الإسلامية سالفة الذكر مرجعية عامة للحركة وثقافتها، وخاصة في أصولها العامة، إنما يستهدف ضمان طهارة المنبع، والذي لايمنعها في ذات الوقت من إمتلاك كليات وجزئيات العلم الحديث، وتحفيز التجديد والاجتهاد والإبداع، خاصة في مجال التطبيق العملي، الذي يستهدف تحقيق المنافع للناس في حياتهم الدنيا، وراحتهم الأبدية في حياتهم الأخرى، مع تأهيلهم في ذات الوقت لتحقيق التقدم الحضري، من مراحل كل منها أفضل من سابقتها مثل كل الأمم التي تقدمت، وامتلكت أقصى ما في استطاعتها من القوة الهادية والمعنوية والرمزية، دون حاجة الى استنساخ نموذج حضاري معين، ودون الانغلاق أيضا عن الإثارة من أي نموذج جيد قائم، وإنما بانفتاح على كافة النماذج الحضارية، شرقا و غربا بهدف إقامة نموذجها الخاص، والذي لا يمكن تحديده مسبقا، دون خوض تجربة البناء، بكل ما تتطلبه من جهد ومعاناة وصبر وعلم و حكمة.
التكافل في التنمية الشاملة
إن استخدامنا للتكافل هنا يتجاوز مفهومه السائد كقيمة أخلاقية تتمظهر في سلوكيات اجتماعية يغلب عليها طابع الإحسان، وتحث عليها قيم أخلاقية أخرى مثل المحبة والرحمة والشفقة وما إليها، إذ ننظر إليه بصفته نظاما للعمل الاجتماعي، يشارك فيه جميع أفراد وأسر وعائلات ومواطني حيز جغرافي أو مكاني واحد، من أجل نفع مشترك يعود على الجميع بالخير والثراء دون إسراف، والرفاهية دون ترف، والقوة بدون طغيان، ويحقق اقتصاديا وفرة الإنتاج وعدالة التوزيع، أي أننا نوظفه كقيمة إنتاجية واقتصادية أكثر منها أخلاقية أو دينية فحسب، ونقيم على أساسه، ووفق مفهومه الجديد البنية التنظيمية للحركة المجتمعية للتنمية، وأحد أسس فلسفتها المتحققة عمليا في واقع نشاطها الاقتصادي أو خلق تراكمها الثقافي الذي يتطلبه نشاطها الاقتصادي، أي التنمية البشرية التي يحتاجها النشاط الاقتصادي.
ويعتمد نظام التكافل اقتصاديا على استمرار لمفهوم أيضا متجاوز للفهم التقليدي السابق للآية الكريمة: (خذ العفو وامر بالعرف واعرض عن الجاهلين)، بحيث تؤسس هذه الآية الكريمة لممارسة الحركة المجتمعية عمليا للتكافل اقتصاديا و ثقافيا، أو تتخذ منها الأصل الذي تتفرع منه سياستها في تطبيقها للتكافل.
وإذا كانت الآية الكريمة: (المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض) (التوبة 71) تضفي الشرعية على التوجه نحو التكافل وتجعله واجبا ربانيا، فإن آية: (خذ العفو وامر بالعرف واعرض عن الجاهلين) ، تعتمد سياسة الحركة المجتمعية للتنمية على حث وتنظيم وتعظيم العفو واستمراره في إنتاج الخيرات و الثروات، وينطبق ذلك على العفو بأنواعه، سواء كان عفو مال أو عفو جهد بدني، عفو جهد ذهني، وفي ذات الوقت الأخذ بالعرف والأمر به والعمل به، كمعرفة عالية وذات جدوى اقتصادية مؤكدة، وسواء كان العرف مما هو معهود لدينا، مؤخوذ من تراثنا الحضاري أو مازال معمولا به في مجتمعاتنا الحاضرة، أو عرف مشهود و منشود، مشهود لدى غيرنا، و منشود لنا، ومفقود في ذات الوقت لدينا، ونحتاج إلى الأخذ منه، والعمل بما يفيدنا منه، وفي أخذنا للعفو، وعملنا بالعرف، نعرض عن نجوى جهل وجدل جاهلين، لو خضنا معهم فيه لأضلونا عن سوء السبيل، وأضعنا الوقت عما هو أجدى وأنفع.
أولا: حشد العفو واستمراره وتعظيمه
أ عفو المال: يتطلب الاستفادة من عضو المال واستثماره وتعظيمه تحفيز الأسر المشاركة في الحركة على الحد من الاستهلاك والإسراف إلى أدنى حد بالنسبة لكل أسرة لكي تتمكن من تحقيق وفر نسبي او مدخرات، تزيد عن إحتياجاتها النسبية، و التي قد تختلف من عائلة إلى أخرى اعتبارات اجتماعية شتى، وبحيث تتمكن من استمرار هذا العفو داخل المؤسسات الاقتصادية للحركة المجتمعية بما يعود عليها بالنفع في حاضرها، ويؤمن دخلائها ولأولادها في مستقبلها، بالإضافة الى ما يستوجب عليها شرعا توجيهه لصالح الفقراء والمساكين وأبناء السبيل وذوي المقاوم وغيرها من مصارف الزكاة أو مستحقي الصدقات مما قرره الشارع في مجال التكافل الإسلامي الواجب.
ب عفو البدن: تتم الاستفادة من عفو البدن كما وكيفا عن طريق ما يلي:
1 توجيه الطاقة البدنية المتاحة لبذلها في العمل المنتج والنافع وادخاره له، عوض إنفاقه فيما لا نفع فيه، مع التماس الاعتدال في إنفاقه فيما دون إرهاق أو إسراف، ودون تقتير أيضا أو ركون إلى كسل، إذ لا يكلف الله إلا وسعها، لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت، بجوارحها وجهودها.
2 من حيث الكيف: تحسين الصفات الوراثية السلبية، مستعينين بكافة الأساليب العلمية في هذا الشأن، بالإضافة إلى تأمين و تحسين التغذية لتفي باحتياجات الجسم، وسبل الوقاية من الأمراض والعلاج منها، وتقوية الأبدان بالرياضات البدنية المناسبة، بما يزيد من حجم الجهد المبذول في الإنتاج.
ج عفو الجهد الذهني: إن الإمكانات الذهنية تقاس بالكيف، أكثر مما تقاس بالكم، و أكثر ما يملكه الفرد منها، ويزيد عن حاجة حياته الخاصة، يعد عفوا يحتاجه العمل الجماعي التكافلي الاقتصادي والثقافي، ويحتاج تنظيم العفو الذهني من حيث الكيف إلى إتاحة الوسع للفرص المتكافئة نطاقا للإفادة من المعرفة العملية التي يستفيد منها الفرد في حياته الخاصة والمهنية، وكذلك في استثمارها من نطاق العمل الجماعي، وكذلك الارتقاء بمستوى التربية والتعليم إلى الحد الأقصى الممكن وتحفيز الإبداع والابتكار والبحث العلمي التقني لتأمين تقنيات ملاءمة في جميع القطاعات و الميادن الإنتاجية.
ثانيا: الأعراف المأمور بها
إن الامر بالعرف في مفهوم و نهج الحركة المجتمعية للتنمية يتمثل في كيفية توصيل العفو أو الفضل أو المدخرات سابقة الذكر في الإنتاج بما هو معروف لدينا أو معروف لدى غيرنا من وسائل ثبت بتجربتها أهميتها و جدواها في حقل العمل الذي اتخذته الحركة مجالا لنشاطها.
ويمكن القول إن من حسن الحظ أنه ما زال لدى مجتمعاتنا الإفريقية أعراف متوازنة تعد تطبيقا عمليا معهودا لمبدأ التكافل بمعنى العمل الجماعي، وعلى سبيل المثال لا الحصر، نجد في السودان ما يعرف بالنفير، وهو نداء تنشره إحدى العائلات في القرية لاستفسار وحشد جميع قوى العمل الحية في القرية لمعاونتها في أعمال الحرث و البذر أو السقي أو الحصاد حسب حاجاتها الموسمية، فيلبي الجميع النداء، ويقضون في ضيافة العائلة التي استنفرتهم يوما أو بعض يوم أو أكثر في قضاء حاجتها، وفي اليوم التالي تطلق عائلة أخرى النفير، وهكذا دواليك، إلى أن تقضي كافة العائلات في القرية حاجاتها.
وتوجد أمثلة أخرى معهودة لدى العديد من مجتمعاتنا، خاصة القروية منها، تتكافل فيه جميع عائلات القرية في المناسبات المرتبطة بالفرح والترح، لتخفيف العبء على العائلة التي لديها عرس أو وفاة أو ما شابه ذلك، ففي المناسبات المفرحة تنفر جميع العائلات لتقديم الهدايا والمساعدات الممكنة لكي تمر المناسبة في أحسن الظروف.
وفي الحالات الحزينة والمرتبطة غالبا بحالات الوفاة، وحيث يتوافد على أهل المتوفى من القرى القريبة والبعيدة أقاربهم وأصهارهم ومعارفهم للعزاء، ويكون أهل المتوفى مشغولين بمصابهم بما يحد من قدرتهم على قرى الوافدين عليهم، فإن كل أهل بيت القرية يرسلون أحدهم حاملا صفحة طعام لبيت المتوفى، حيث يدعو كل منهم بعض الضيوف لمشاركة الطعام.
بل كنا نرى هذه الظاهرة أحيانا، عندما يأتي إلى إحدى الأسر في القرية ضيفا من قرية أو من مدينة نائيا لزيارتها ، فيتسابق أهل القرية لدعوته إلى الغذاء أو العشاء حتى لا تكاد تنتهي مدة زيارته إلا ويكون قد دخل جميع منازل القرية وقوبل فيها بكل كرم وحفارة.
والنظام التعاوني الإنتاجي أو الاستهلاكي، هو في واقع أمره نظام تكافلي، وكذلك المزارع الجماعية في الدول الاشتراكية السابقة.
وهذه الصور التكافلية المعهودة في بعض مجتمعاتنا الإفريقية والمعمول بها منذ القدم، والتي تمثل في ذات الوقت ثقافة مجتمعية عملية أو انتروبولوجية اجتماعية وثقافية في آن واحد، يمكن تطويرها وفق متطلباتنا الجديدة أو العصرية و الإفادة منها، وتعميمها وتوسيع نطاقها، وبعثها من جديد في المجتمعات التي أهملتها أو تراخت في الأخذ بها وتطبيقها، رغم أنها مازالت في أمس الحاجة اليها.
ويأتي بعد ذلك الأعراف المشهود بصلاحيتها لدى الغير، وينقصنا الإفادة منها والعمل بها، رغم توافقها مع قيمنا وثقافتنا وحاجتنا إليها لتنمية اقتصادياتنا ومجتمعاتنا، بعدما أثبتت في المجتمعات الأخرى كفاءتها ومزاياها، سواء كانت تلك المجتمعات آسيوية أو أوروبية، من المجتمعات التي تقدمت اقتصاديا وحضاريا في القارتين، وفيها الكثير خاصة الآسيوية منها ما يوافقنا.
وعندما نبدع نسقا إنتاجيا تكافلا يستفيد من هذه الأعراف الأجنبية، لا يعني أننا ندخل في سياق تجريب مجهولة نتائجه، التي يفضي إليها، وإنما يعني أننا وفرنا عوامل النجاح للنسق، الذي أبدعناه بما يكفل تحقيق كل أو معظم ما ننشده منه، طالما أن هذا النسق المنفتح، المتعددة مشاربه، يجمع أفضل ما لدى الغير وأقومه سبيلا.
إن القيم والعادات والتقاليد الفاسدة المستحدثة أو الموروثة عن أزمنة الانحطاط الحضاري، لا تدخل ضمن الأعراف التي تستوجب منا الأخذ بها أواحترامها أوالعمل بها، فهي لا تدخل ضمن أعراف العارفين بالله وبالحق، بل يتعين علينا نبذها وتخليص مجتمعاتنا منها، واستبدالها بالأعراف الصالحة التي تمكن مجتمعاتنا من التوصل بها إلى التقدم المنشود.
ثالثا: الإعراض عن الجاهلين
الجاهلون في ثقافة الحركة المجتمعية للتنمية لا ينحصرون في الأميين أبجديا، بل قد يتوفر لبعض الأميين أبجديا، أو من لهم حظ قليل من التمدرس من لديهم من المعرفة المفيدة، والإيمان والتقوى الفطرية ما لا يتوفر لسواهم، بينما نجد من الجاهلين بعض الذين تلقوا تعليما في المدارس والجامعات، أو من حصلوا على ألقاب علمية، أو يحسبون في عداد المثقفين والكتاب أحيانا، بينما هم في واقع أمرهم ليسوا أكثر من دجالين ومنافقين، لا يتوفرون على علم أو ثقافة مفيدة، ومنهم من ينطبق عليه المثل القرآني: مثل الحمار يحمل أسفارا، دون أن يستفيد مما يحمله أو يفيد.
إن الثقافة العالمة التي تتبناها الحركة وتعول عليها، هي تلك القادرة على نقل المجتمع من الفقر إلى الثراء، ومن التخلف إلى التقدم الحضاري، ومن البقاء إلى هامش الإنتاج إلى الاندماج والمساهمة الفعالة فيه.
منذ انتهاء الحقبة الاستعمارية، اتسع نطاق التعليم في كافة الدول الإفريقية، ومنها ما كاد يتخلص من الأمية، ومنها ما بقى نصف السكان فيها يرزح فيها، إلا أنه في جميع الحالات دخل المذياع والتلفزة إلى كل بيت تقريبا، ونشطت المطابع تخرج كل يوم كتبا أو صحفا أو مجلات، فضلا عما تشهده بعض هذه الدول من ندوات ومهرجانات ومؤتمرات توصف بالثقافية من حين لآخر... ورغم هذا التزاحم من تبادل في الأفكار أو استهلاكها، وتعدد وسائل البث والنشر لها، ظلت أوضاع البلدان الإفريقية تزداد سوءا وفقرا وتخلفا وتبعية، واستمر أمنها مكشوفا وثرواتها منهوبة، وانتشر في أرجائها الفساد والجريمة والبطالة وجميع الموبقات، وما نفعها فكر متداول، أو تعليم في المتناول، أو ثقافة مرعاة، بل يمكن القول إن ثقافة النهب والأنانية والرذيلة، هي التي سارت فيها على جميع المستويات، وأضحت هي الثقافة المجتمعية المسيطرة على سلوكيات النخب والعامة سواء بسواء،
والتقييم المنصف لحصاد العقود التي أعقبت الاستقلال، والنقد التالي النزيه لما آلات إليه أوضاع العديد من الدول الإفريقية، ينتهي إلى الحكم بأن الثقافة الشائعة في هذه المجتمعات، هي في حقيقة أمرها ثقافة جاهلة، وتساهم في التغييب والتجهيل وتغييب وعي الجماهير بما يصلح حاضرها وينفعها في مستقبلها، حتى وإن ارتدت هذه الثقافة ثوبا عصريا زائفا، وأكثرت من الحديث عن الحداثة والديموقراطية وحقوق الانسان و المواطنة وحقوق الانسان والطفل، وهي أحاديث أدمنتها النخب دون وجود إرادة جادة وحقيقية لتطبيقها عمليا، وليس الاكتفاء بالثرثرة أواستعمالها للمزايدة بها لتحقيق مكاسب ذاتية أو فئوية.
إن الحاضر في الثرثرة والغائب عن الواقع هو إيجاد مشروع مجتمعي عملي تلتقي حوله الشعوب وتقوم بتنفيذه، وهذا الغياب هو الذي يفرض الحركة المجتمعية ذات الثقافة المغايرة لكي تحقق على أرض الواقع المشروع المجتمعي المفتقد والمنشود في ذات الوقت، والذي يعد حضوره لملء الفراغ هو في ذات الوقت بمثابة إعراض عن الجاهلين، وتحرر من جهلهم وغيبهم وضلالهم وتضليلهم.
وإن امتناع شعوبنا المتزايد عن المشاركة السياسية أو عن اقتناء الكتب والصحف والمجلات، والذي يعتبره مرتزقة السياسة والثقافة والإعلام ظاهرة سلبية، نعتبره ظاهرة ايجابية تدل على اجماع شعبي على الإعراض عن الجاهلين، وسيزداد هذا الإعراض، دون حاجة إلى الدعوة إليه، عندما تجد الشعوب نفسها في خضم سياسة وثقافة واعلام ينشد المعرفة العلمية الصالحة للتطبيق العملي النافع لها، والتي تجد له مردودية سريعة مباشرة وغير مباشرة تصلح من أحوالها، وخاصة في المجال الاقتصادي الذي تتوفر له مقوماته ومدخلاته وأهمها الثقافة العالمة والعالمة التي يتبناها تعليم واعلام جديد، يدل أن الحداثة الحقيقية، هي تحديث للبنيات الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، ليس بالشعارات وإنما بالعمل المنتج المثمر ذي العائد النافع، والمتسم بالجدية والاستقامة والديمومة والأمانة والإخلاص والإيثاروكافة المتطلبات التي لا غنى عنها للعمل الجماعي التكافلي الذي يسخر الجميع من أجل الجميع ولخير الجميع ومن أجل إعمار الأرض واستخلافهم فيها على النحو الذي أراده الله لهم، وليس على النحو الذي أرادته أقلية جاهلة متحكمة فيهم ومن حاضرهم ومستقبلهم وأرزاقهم وتحجب
عنهم رحمة الله .
والإعراض عن الجاهلين لا يعني مقاطعتهم أو استنصالهم أو نبذهم، أو الدخول في صراع مفتوح معهم، وإنما الابتعاد عن لغوهم وجدالهم وما يشغلون به الناس من قضايا زائفة عن قضاياهم الحقيقية، أو مشاركتهم فيما يخوضون فيه حتى ينتهون منه، وذلك إعمالا لقوله تعالى: (وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا، وإذا خاطبهم الجاهلون قالو سلاما) أي مهما استفزهم الجاهلون واعتدوا عليهم، ورموهم بالإفك، او استخدموا معهم فحش القول وأرذله، حافظ عباد الرحمن معهم على السلم الاجتماعي، ولم يستجيبوا لاستفزازهم، أو يعبأون بترهاتهم، وهذا هو المقصود بالإعراض عنهم، فالحركة المجتمعية للتنمية هي ثورة سلمية، تنحصر ثوريتها في التغيير السلمي والهادئ لأحوال المجتمع مما هو سيء إلى ما هو حسن وجيد ومفيد، مع وعي كامل، وإدراك تام، من أنه بدون زيادة مناخ الاستقرار والسلم الاجتماعي لا يمكنها أن تحقق أهدافها.
التأليف بين الاقتصاد والاعتقاد
وتجمع الحركة على هذا النحو بين متطلبات الاقتصاد وسلامة الاعتقاد، وبين المادة والروح، وعن الدنيا وثواب الاخرة، حيث كل ما ينفع الناس هو في سبيل الله ومنه وإليه، وهي الثقافة المجتمعية ذاتها التي كان عليها أجدادنا من الصابئة الفراعنة، أو من المسلمين في العصور الوسطى التي ازدهرت فيها الحضارة الإسلامية بينما كانت أوربا غارقة في الظلمات.
وهذه التوليفة من ثقافة الحركة المجتمعية بين الاقتصاد والاعتقاد، تستمد مشروعيتها أيضا من كتاب الله، حيث يبدو ذلك في آيات كثيرة منها قوله تعالى: (وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج، ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى، وأنه على كل شيء قدير، وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور) ( الحج 7,6)، ويقول الله تعالى أيضا: (وهو الذي يرسل الرياح نشرا بين يدي رحمته، حتى إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت، فأنزلنا به الماء، فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون) (الأعراف57)، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم معززا لهذه الآيات: ولو توكلتم على الله حق توكله لرزكم كمايرزق الطير تغدوخماصا وتروح بطانا


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.