أتذكر المشهد بكل تفاصيله، وأنى له أن يغيب عن ذاكرتي وقد تداعى بعده التفكير يسبح في تأملاته العميقة. أيكون من العبث أن نلزم أنفسنا بصناعة القانون ثم نعود عليه بالإبطال إذا خالف أهواءنا وبعضا من مصالحنا. في شارع محمد السادس الشهير، وعلى مقربة من قصر السلطان، كان الشرطي واقفا بكل احترام يؤدي واجبه المهني بصدق كبير، لسعات الشمس بادية على وجهه ومحياه، وملامح التعب ربما أخذت منه كل مأخذ، لكن الرجل حيثما كان موضعه، يتصرف بمهنية عالية. ومن غريب الموافقات أن اتفق له أن يوقف رجلا من الشعب مر علنا وبدون شبهة في الضوء الأحمر، كان حزم الرجل وصرامته باديا لكل من مر بذلك المكان، غير أن المشهد هذه المرة أخذ أبعادا أخرى، فالسائق رفض أن يسلم أوراق سيارته ورفض أن يخرج سيارته من وسط الطريق، ورفض أن يتكلم مع الشرطي... حتى إذا طال رفضه تكلم الشرطي بلغة بليغة: سيدي.. أنا لم أطلب منك سوى ما يطلبه القانون ، لقد ارتكبت مخالفة لا شبهة فيها. أجابه السائق بلغة فجة فيها كبرياء عظيم: ومن أدراك أني في مهمة كبيرة تستدعي أن أرتكب أكبر من هذه المخالفة. إن القانون الذي تتحدث عنه نحن الذين نشرعه! بادر الشرطي بحكمة كبيرة بالجواب: إذا كان الأمر كذلك ،فمن باب أولى أن تلتزموا به وتعطوا للناس القدوة في ذلك. أخرج الرجل ورقة شخصية تشير إلى صفته البرلمانية، وصار يتوعد الشرطي ويقول: أتظن أني إذا سلمتك رخصة السياقة، ستصل إلى رئيسك أنا الآن أحذرك، وأقول لك، إذا كنت ستفرح رئيسك ببضع رخص سياقة تحتجزها من الناس لتؤكد نزاهتك ومثابرتك في عملك، فبعد هنيهة أكون مع رئيس رئيسك الذي تصدر منه التعليمات التي تلتزمون بها. كان الرجل يومئ بكلامه إلى وزير الداخلية، ويستنجد بما يتمتع به من امتيازات لتبرير انتهاك القانون. كرر الشرطي مرة أخرى طلب أوراق السيارة وقال بأدب: يمكن أن أتفهم أني ينبغي أن أسهل لك مأموريتك غير أني لست مكلفا بالتغطية عليك إذا خالفت القانون. صدمت هذه الكلمة الرجل البرلماني، وحرك سيارته بعنف ومضى بكل عناد واستكبار، بينما أمسك الشرطي قلمه وسجل رقم السيارة ونوع المخالفة ومضى يكمل عمله بكل جد واحترام. أتذكر المشهد جيدا، وأتذكر مشهد السائقين في مدينة قرطبة وغرناطة ومدريد وهم يتوقفون بكل احترام ليس فقط أمام الضوء الأحمر ولكن أمام المارة، لا فرق في ذلك بين كبيرهم وصغيرهم، ساستهم وعامتهم قيادتهم وقاعدتهم كلهم يحترمون القانون ويجلونه، ويحتجون على من يخالفه ولا تجدهم يبررون مخالفته بقضاء مصلحة أو خدمة وطن، إذ إن القانون هو الذي يحقق المصلحة ويخدم الوطن أما الأشخاص فهم مواطنون ملزمون باحترام ما يتفقون عليهم من قوانين وأعراف.