سيكون من المفيد الانتباه إلى ما يجري في الحياة السياسية والثقافية من عمليات استقطاب لقطاع معتبر منه اليسار من أجل التحول إلى وقود في مشروع الحزب الجديد الذي يقوده الوزير السابق في الداخلية، وهي العمليات التي ترتكز على ثلاث مقولات، أولاها فعالية الحزب الجديد في تشكيل عنصر توازن انتخابي في مواجهة الإسلاميين بعد أن فشل الرهان على الأحزاب التقليدية، والتي أنهكت بالصراعات الداخلية والمشاركة الحكومية في السنوات العشر الماضية، وثاني هذه المقولات أن هذه الحزب الجديد استطاع ملء فراغ استقالة الأحزاب اليسارية من الدفاع عن الحريات الفردية، وأنهم يشكل طوق النجاة الأخير في مواجهة ما يعتبر عندهم فكرا متطرفا، أما الثالث فهو الحيوية السياسية التي أبان عنها هذا الحزب في تجاوز والأحزاب الإدارية السابقة، وفي المقابل تأجيج التناقض الموهوم بين المؤسسة الملكية والتيار الإسلامي المعتدل. ويذهب الخطاب الاعتذداري الجديد أبعد من ذلك عندما يحول خطابه هذا إلى أماني وتكهنات تتحول إلى ما يشبه الإملاءات حول ما قد يصدر عن الفاعلين في القرار السياسي في مواجهة تيار المشاركة السياسية الإسلامية، ومن هذه الإملاءات والشروط تسريع الحسم مع الخلط القائم -بحسب زعمهم- بين السياسة والدين عند هذا التيار، وأن هذا الحسم سيكون بمثابة الخطوة الثانية بعد الحسم الذي تم مع المتلاعبين بالوحدة الترابية للمغرب. مشكلة هذا الخطاب الاعتذاري أنه يريد أن يقنع ضميره بالتحول إلى شريك ومحرض في الانقلاب على التطور الديموقراطي للمغرب؛ مثل ما قام به أمثاله في تونس في بداية التسعينيات، وكانت النتيجة ردة ديموقراطية سوداء لم تخرج منها تونس إلى غاية اليوم، والأكثر من ذلك أن يحشد الغث والسمين لتبرير خطابه الاعتذاري، ومن ذلك قوله بأن هذا الحزب كان حاضرا في قضية حركة مالي الخاصة بالحق في الإفطار في رمضان، وكلنا نذكر المقالة الشهيرة لأمينه العام محمد الشيخ بيد الله، والتي صدرت في شتنبر الماضي بيومية المساء تحت عنوان الوطن والمؤامرة ، وكانت صريحة في مناهضة الفكر الجديد المستغل للحريات الفردية، وكان صريحا في القول: فأما الاحتجاج بمبرر الحرية فلا يستقيم في هذا المقام، فالحريات ليست حقوقا مجردة أو طبيعية (كما يدعي أنصار نظرية العقد الاجتماعي)، بل تمارس في إطار مقتضيات قانونية وتنظيمية، تكفلها وتضمن إمكانية ممارستها، لكن أيضا في المقابل، تقيدها، وتحدد أشكال إعمالها وترسم لها حدودا حتى لا تمس حرية الغير.، ونفس الأمر فيما يخص قضية الخمر، إذ كان موقف رئيس جمعية بيت الحكمة واضحا في رفض الربط بين موقف الجمعية والحزب، على الرغم من أن ذلك الحزب تحدث في بيانه عن موضوع الفتوى، أما في السابق وبالرغم من أن تلك الجمعية أصدرت نداءا للحريات الفردية بمناسبة قضية الشذوذ الجنسي للقصر الكبير، فقد رفضت أن يكون استقبالها للمنسق المزعوم لجمعية كيف كيف لشواذ المغرب بمثابة إعلان عن دعم نشاط هذه الجمعية، وهي مواقف نذكرها ليس دفاعا عن هذا الحزب وإنما لتبيان تهافت هذا الخطاب الاعتذاري الجديد، والذي تعددت الشواهد على استغلاله الانتقائي والمسييس لقضية الحريات الفردية.. أما المقولات الثلاث، فتكفي العودة إلى مجريات المجالس الجماعية المنتخبة لإبراز التهافت الميداني لتلك المقولات، لكن سنتوقف عند المقولة الثالثة، والتي يسعى البعض لتحويلها إلى مسلمة، وهي أسطورة التناقض الموهوم بين المؤسسة الملكية سواء مع حركة التوحيد والإصلاح أو مع حزب العدالة والتنمية، ففضلا عن كون هذه المقولة مجرد ادعاء يتم استغلاله منذ حوالي ثلاثين سنة لدفع المغرب نحو الصدام بين الحركة الإسلامية والنظام، خاصة بعد تمكن الحكم في المغرب من تجاوزه رغم أحداث إدخال السلاح من الجزائر في صيف 1984 وقبلها توزيع بيانات البيضاء في يناير من تلك السنة دعوة لثورة إسلامية أو في أطلس أسني في 1994 بل وبعد تفجيرات 16 ماي والتي وقف أثناءها رجال كبار وباحثون أجانب في مواجهة النزعة الاستئصالية الجديدة التي تريد تحويل المغرب إلى تونس جديدة، ففي كل تلك المحطات كان واضحا أن الحركة الإسلامية المعتدلة هي مؤسسة من مؤسسات دعم مرتكزات هذا البلد ممثلة في الإسلام والملكية القائمة على إمارة المؤمنين وأن خصوصية المغرب الناجمة عن ذلك والتي شكلت جوهر رؤية الحركة في الثمانينيات تتيح له شق طريق مختلف عن غيره البلدان، طريق قائم على الاستيعاب الإيجابي وليس السلبي، وهو الطريق الذي نرى أنه قدر المغرب وبه سيتمكن من اجتياز المؤامرات الجديدة لإعاقة تطوره الديموقراطي وتعزيز انفتاحه الإيجابي على التيار الإسلامي المعتدل.