الملك: "الأطلسي" تعزز التعاون الإفريقي    رويترز: قطر قد تغلق المكتب السياسي لحماس في الدوحة كجزء من مراجعة أوسع لوساطتها بحرب غزة    دياز يقرب ريال مدريد من لقب "الليغا"    لقجع يكشف سبب إقالة خليلوزيتش قبل أشهر من انطلاق كأس العالم 2022 وتعيين الركراكي    ربحو بطولة الصبليون: دياز توج بأول لقب مع ريال مدريد    الدور السري لنجم المنتخب المغربي في إقناع لامين يامال باللعب للأسود    تعاون مغربي إسباني يحبط تهريب الشيرا    افتتاح معرض يوسف سعدون "موج أزرق" بمدينة طنجة    حكومة أخنوش في مرمى الانتقاد اللاذع بسبب "الاتفاق الاجتماعي"    برلمانية تجمعية تنوه بدور "فرصة" و"أوراش" في الحد من تداعيات كورونا والجفاف على التشغيل    فرنسا.. قتيل وجريح في حادث إطلاق نار في تولوز    ابتدائية مراكش تصدر أحكامها في قضية وفاة فتاة بإحدى الفيلات الراقية والجمعية تستنكر الأحكام المخففة    استيراد الأضاحي سيفيد المنتجين الاوروبيين اكثر من المستهلكين المغاربة    ارتفاع حركة النقل الجوي بمطار الداخلة    سمرقند تحتضن قرعة مونديال الفوتسال    بونو يقترب من رقم تاريخي في السعودية    "دعم السكن" ومشاريع 2030 تفتح صنابير التمويل البنكي للمنعشين العقاريين    تونسيون يتظاهرون لإجلاء جنوب صحراويين    مادة سامة تنهي حياة أربعيني في تزنيت    تعيينات جديدة فال"هاكا".. وعسلون بقى فمنصب المدير العام للاتصال    كأس الكونفدرالية الافريقية .. طاقم تحكيم كيني يدير مباراة نهضة بركان ضد الزمالك    تتويج الفائزين بالنسخة الثانية من جوائز القدس الشريف للتميز الصحافي في الإعلام التنموي    تحديات الذكاء الإصطناعي.. وآليات التوجيه    هل تبخر وعد الحكومة بإحداث مليون منصب شغل؟        توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأحد    الوكالة الحضرية لتطوان تواصل جهود تسوية البنايات غير القانونية    العصبة المغربية لحقوق الإنسان تدعو لحماية الصحفيين وتوسيع مجال الحرية    106 مظاهرات في عدة مدن مغربية لدعم غزة والإشادة بالتضامن الطلابي الغربي    صناديق الإيداع والتدبير بالمغرب وفرنسا وإيطاليا وتونس تعزز تعاونها لمواجهة تحديات "المتوسط"    عبد النباوي كيطالب من المحامين باش يساهموا فمكافحة جرائم "غسل الأموال" وبغا يكون التزام أخلاقي ومهني على تقييم المخاطر    سيناريو مغربي ضمن الفائزين بالدعم في محترفات تطوان    كنوز أثرية في تطوان.. فيسفاء متولوجية وأمفورات ونقود قديمة    بطل "سامحيني" يتجول في أزقة شفشاون    صندوق الإيداع يشارك في اجتماع بإيطاليا    مهرجان الدراما التلفزية يفتتح فعاليات دورته ال13 بتكريم خويي والناجي (فيديو)    وزير العدل طير رئيس كتابة الضبط بالمحكمة الابتدائية فتاونات بعد فضيحة اختلاس 350 مليون من الصندوق    صديقي يزور مشاريع تنموية لقطاع الورد العطري بإقليم تنغير    انتهى الموضوع.. طبيب التجميل التازي يغادر سجن عكاشة    بمشاركة مجموعة من الفنانين.. انطلاق الدورة الأولى لمهرجان البهجة للموسيقى    وزيرة المالية تجري مباحثات مع أمين عام منظمة "OECD"    مؤجل الدورة 26.. المغرب التطواني في مواجهة قوية أمام نهضة بركان    إلغاء الزيادات الجمركية في موريتانيا: تأثيرات متوقعة على الأسواق المغربية    الصين تطلق المركبة الفضائية "تشانغ آه-6" لجمع عينات من الجانب البعيد من القمر    تقرير أمريكي يكشف قوة العلاقات التي تجمع بين المغرب والولايات المتحدة        كيف تساعد الصين إيران في الالتفاف على العقوبات الدولية؟    أزيلال.. افتتاح المهرجان الوطني الثالث للمسرح وفنون الشارع لإثران آيت عتاب    خبير تغذية يوصي بتناول هذا الخضار قبل النوم: فوائده مذهلة    الأمثال العامية بتطوان... (589)    دراسة… الأطفال المولودون بعد حمل بمساعدة طبية لا يواجهون خطر الإصابة بالسرطان    المغرب يسجل 13 إصابة جديدة بكورونا    دراسة تربط الغضب المتكرر بزيادة خطر الإصابة بأمراض القلب    العقائد النصرانية    الأمثال العامية بتطوان... (588)    جامعيون ومتخصصون يحتفون بشخصية أبي يعزى في ملتقى علمي بمولاي بوعزة        الطيب حمضي ل"رسالة24″: ليست هناك أي علاقة سببية بين لقاح أسترازينيكا والأعراض الجانبية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التكامل النفسي والأخلاقي في التطبيقات النبوية
نشر في هسبريس يوم 24 - 06 - 2009


المجال النفسي وعكس الأفق الكوني ""
تساؤل قد يرد في ذهن الباحث المبتدئ في علم النفس وسيبقى دائما موضع الطرح جيلا بعد جيل مضمنه هو :ما هي الامتدادات التي قد تطالها الدراسات النفسية عند الإنسان وما هي الحدود التي تقف عندها، وهل هذه الحقول قد تهم الجانب الجوهري في النفس أم الجانب العرضي،المتمثل في ظواهرها كنافذة وحيدة يمكننا من خلالها الاطلاع على قيمتها وتساميها وصحتها أو علتها؟...
إن النفس قد تمثل الإنسان في حد ذاته. ولكن ما هو هذا الإنسان،هل هو تلك الصورة المرئية التي تشخص بتحديد البصر الحسي وتلمس وتسمع حركاتها وأصواتها،أم أن النفس هي مزيج مشترك بين هذا المظهر الحسي وعنصر آخر مغاير لما ألفته قواه المادية وحكمت عليه القوى النظرية تحديدا وتعريفا ؟...
للإجابة عن هذه التساؤلات فقد يلجأ المرء إلى عدة تفسيرات وتبنّي عدة مناهج للوصول إلى الحقيقة،منها ذات المنبع الديني المعتمد على النص ومنها ذات المذهب الشخصي المرتكز على الأدوات المعرفية العادية وهي :العقل والحس والشعور الوجداني .
وبما أن الموضوع خاص بالحديث عن قضايا النفس في القرآن فإننا سنعرض للإجابة عن هذه التساؤلات من خلال النص الديني القرآني خصوصا،حيث يقول الله تعالى عن الشخصية الإنسانية وتكوينها:"وإذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين " .
إذ في هذا النص قد يحدد لنا القرآن بنية الإنسان وطبيعة كينونته،فهو مخلوق من طين ثم مضاف إليه نفخة بعد التسوية كما يقول الله تعالى مخاطبا ملائكته "فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين" وهذه الإضافة الروحية إلى الله تعالى قد جاءت بالمعنى الذي يليق بتنزيهه عن المماثلة والمشابهة مع روح هذا الإنسان ،كما أنه بعد هذه النفخة قد أصبح كائنا كريما أمر الله الملائكة بالسجود له ،مع العلم بأن هؤلاء الملائكة كائنات حية ولها وعي تام ومجرد عن العوارض المادية ولها أرواح خاصة بها ،في حين أننا لم نجد ذكر نفخ الروح في غير هذا الإنسان،:ولئن سمي بعض الملائكة روحا كما في قول الله تعالى:"تتنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر " فإن هذا الوصف إن أخذناه على ظاهره فقد يمثل شطرا من شخصية الإنسان التي هي الروح المضافة إليه بعد تكوين الجسد،كما أن هذه التسمية لجبريل بالروح قد تكاد تميل بنا نحو القول بأحادية الشخصية الملائكية وتجردها الكلي،لكن الرأي سرعان ما يتغير من خلال استدعائنا لآيات أخرى تبين لنا أن :"كل نفس ذائقة الموت" والملائكة قد يدخلون تحت هذه الكلية كما قد وردت أحاديث بأن آخر ملك قد تنزع روحه هو ملك الموت نفسه الذي قد يسمى بعزرائيل والذي سيخرجها من ذاته بنفسه.
فالموت إذن لدى بعض الكائنات غير الإنسان قد يتمثل في نزع الروح من ذات أو محل معين،وبهذا أمكن القول بحسب ظواهر النصوص أن من المخلوقات غير الإنسان قد جعلها الله تعالى مركبة من عنصر روحي محرك وآخر مغاير له قد يمثل الهيكل الذي تنصب فيه ويخضع في حركته لتلك الروح الأساس ،والله أعلم بحقيقة ذلك، لأنه أمر غيبي قد لا يقاس بالمقاييس العقلية والحسية المحدودة الإدراك.
لكن خصوصيات الروح المتعلقة بالإنسان هي أنها قد اتسمت بنفخ إلهي لا ندري ما حقيقته ومعناه،بل قد يبقى في مقام التنزيه بلا كيف ولا تمثيل،فلا ينبغي أن يؤخذ النفخ بالمفهوم الإنساني المتداول،كما أن الروح الإنسانية لا ينبغي أن يعتقد فيها بأنها تمثل جزء أو نسبة إلى روح الله سبحانه وتعالى،إذ أن مثل هذه التصورات فيها تشبيه وخروج عن عقيدة التوحيد الخالص ،بل المنهج الأسلم في تحديد المفهوم الحقيقي لهذه العملية هو الوقوف عند ظاهر النص مع تفويض المعنى إلى الله تعالى، وذلك لعجز الأداة العقلية ذات المستند الحسي عن الوصول إلى عمق القضية وتفسيرها باللغة المتداولة .
ونظرا لصعوبة هذا المرتقى ووعورته فقد كان الجواب في القرآن الكريم واضحا كل الوضوح في وضع حد لهذا الفضول العلمي مع عدم الإقرار ضمنا بالاستحالة الكلية لفهم أسرار الروح لدى بعض الراسخين في العلم والمعرفة ،وذلك في قول الله تعالى :"ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا" .
بهذا الجواب يكون القرآن قد فصل في القضية وحسم في أمر معرفتها،فلا مجال إذن للتوسع في دراسة هذه الذات من الوجهة النظرية المحضة .
لكن كيف يمكن الصبر عنها وهي موجودة بين جنبينا ،أوليس الإنسان مطالبا بالعلم والمعرفة وخاصة بنفسه كما في قول الله تعالى :"وفي أنفسكم أفلا تبصرون" ؟فإلى أي مدى يمكن له أن يذهب إلى معرفة هذه الروح التي عليها المعتمد في كينونته وتحقيق سعادته وبها قد استحق ذلك التشريف الذي حباه الله تعالى به؟ .
إن القرآن سيوجهه إلى معرفة نفسه بفتح الباب أمامه على أوسع نطاق،قد يصل إلى حدود الكون نفسه،فتكون معرفته بنفسه موازية لمعرفته بالعالم الخارجي،ومن ثم فسيكون لديه توازن في سلوكها وتصوراتها،قد تظهر هذه المعاني في قوله تعالى :"سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبن لهم أنه الحق " ويقول:"أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السموات والأرض إلا بالحق وأجل مسمى" .
وحينما نتدبر هاتين الآيتين نجد أنهما قد تربطان بين العالم الأكبر وهو الكون الخارجي وبين العالم الأصغر وهو النفس الإنسانية،وفي هذا الربط مغزى قد يمكننا استخلاصه وهو:أن الدراسات النفسية واسعة الآفاق وطويلة النفس بالنسبة لباقي العلوم ،وهي الدراسة الوحيدة التي لها القابلية لإيراد الاكتشافات والمفاهيم الجديدة الواحدة تلو الأخرى من غير انقطاع.
إذ بقدر اتساع آفاق الكون بنفس ما يكون اتساع آفاق النفس وتجدد ظواهرها المواكبة لتجدد معارفها الكونية المادية والمعنوية...ولهذا فعلم النفس هو علم مساير لكل العصور ومتشكل بأشكالها وامتداداته واسعة.
فالاكتشاف الكوني له صلة وثيقة بالاكتشاف النفسي عودا وبدء،وما تحديد المناهج العلمية والطرق العقلية للوصول إلى الحقائق المعرفية الكونية إلا نموذج من نماذج صلة التقدم النفسي بالاكتشافات العلمية المادية ،لأن تلك المناهج في حقيقتها ما هي إلا معرفة نفسية في حد ذاتها ،وهو ما يمكن لنا تلمسه في قول الله تعالى :"أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السموات والأرض إلا بالحق وأجل مسمى" .
وعند الحديث بمصطلح النفس فلا ينبغي أن يفهم منه ذلك العنصر الذي قد سبق تحديده وهو الذات المستقلة غير المرئية في الإنسان والتي هي مصدر سرية شخصيته ، قد وصفها الله تعالى بقوله:"ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها" .
فالاستنتاج الذي قد يمكننا أن نخلص به من خلال تدبرنا للآيات التي مرت بنا هو:أن العالم الأكبر مواز للعالم الأصغر وهو النفس في أسرارها ومظاهرها،كما أن إدراك هذه الحقيقة رهين بالحضور الواعي للإنسان بنفسه حتى تنطبع فيه صورة هذا الكون فتكون نفسه بمثابة مرآة عاكسة ،وفي حالة شهوده لهذا الانعكاس تتبين له آيات الله تعالى وتمتزج الذات بالموضوع في نظام واحد فيجد الإنسان ضالته ،ومن ثم فقد يطمئن إلى الحق تحقيقا وإدراكا واعيا.
فلقد أصاب الشاعر حينما قال:
وتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر
فالمجال النفسي في الإسلام قد يأخذ بعدا مترامي الأطراف ولا يقف عند دائرة محددة وإنما هو مجال سعته قد تساوي سعة الآفاق ،إذ بقدر اعتراف علماء الطبيعة بعجزهم عن حد مساحة هذا الكون الرحب بقدر ما يكون اعتراف النفسانيين بعجزهم عن حد سماع وعمق الكون النفسي.
الشخصية النبوية ومبدأ التشارط النفسي والأخلاقي
حينما يعرض القرآن الكريم للنفس وظواهرها فإنه في أغلب الأحيان قد يتناولها وهي مسبوقة أو متبوعة بوضعية أخلاقية توجيهية مع تبيين أسباب الصحة النفسية وخلفيات المرض لديها وطرق علاجها،وهذا ما قد يفهم منه بأن السلامة النفسية والأخلاقية قد تمثل الانعكاس المتبادل بين النفس وأخلاقها،فلا غنية إذن للنفس عن الأخلاق في تحقيق كمالها كما لا تحقيق للأخلاق في غياب سلامة النفس الكفيلة بتمكينها من الثبات والاستقرار.
فالقرآن قد يجمع بين الذات والموضوع وبين خاصية الجوهر والعرض في آن واحد من غير فصل أو حد وسط.فإذا كانت النفس هي جوهر الإنسان فإن أعراضها هي أخلاقها الواردة والصادرة عنها ،وبقدر ما كان هذا الجوهر قويا في بنيته ومتماسكا في نظامه بقدر ما كانت الأعراض واضحة ومعبرة عن القوة الخفية لعنصره.
وبما أن العرض خارجي مظهرا فإنه قد يلاقي عرضا آخر خارجيا مثله ربما يتفق معه أو يتصادمان، بحسب مبدأ التناسب في قضايا وأوجه متنوعة،ومن ثم فيكون بروز هذا الجوهر إما عاملا في حد ذاته على تقوية الجوهر أو سيسعى إلى تهديمه وإعاقة نموه وحركته.
هذا المفهوم بالإمكان استخلاصه من بعض النصوص القرآنية التي قد يبدو سياقها محتملا له كما نجده في قول الله تعالى:"ن والقلم وما يسطرون ما أنت بنعمة ربك بمجنون،وإن لك لأجرا غير ممنون ،وإنك لعلى خلق عظيم" ."ونفس وما سواها فألهما فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها " .
إذ من هاته الآيات قد يمكن لنا فهم وإدراك أن هناك رابطة بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون،وأن ما ينبغي أن يكون ليس إلا انعكاسا لما هو كائن أو لازما له لزوم العرض للجوهر.
وإذا وقفنا عند الآيات الأولى فسنجد قوله تعالى :"ما أنت بنعمة ربك بمجنون "وقوله :"وإنك لعلى خلق عظيم"قد يشير على مغزى عميق يبين الوشائج والروابط المتينة القائمة بين الحالة النفسية التي تتصف بها الذات والناتج عن هذه الحالة .
فالتعقل الكامل هو مفرز الخلق العظيم،وغياب هذا التعقل سيتبعه بالضرورة غياب ذلك الخلق النموذجي المنصوص عليه،إذ الجنون قد لا يورث نظاما وثباتا واستقرارا ،وإنما هو مصدر الاضطراب والخروج عما يلتزمه العقل والذوق السليم الرفيع.وهذا الجنون قد تتفاوت درجاته ،فهو: إما جنون جزئي وإما عتَه أو سفه عقلي ومالي أو جنون موسمي وظرفي طارئ...كما قد يصل بصاحبه في بعض الأحيان إلى درجة الحمق والجنون المطبق بشتى أنواع الهلوسة والهذيان والذي قد يتأذى به الشخص المجنون ذاته ومعه المجتمع تبعا...
ومراتب هذا الجنون بكل أنواعها إذا وجد منها نوع لدى شخص ما فإنه سيجعله محل شبهة وتعيير لدى العقلاء وموضع الرفض و التشكيك في سلامة مبادئه وغاياته السلوكية.ومن ثم فإن أخلاقه ستكون محل الرفض والريبة عموما.
بحيث أن الاعتدال النفسي الضابط للثبات الأخلاقي عموما مفقود أو معرض للفقد بين الفينة والأخرى بحسب اعتدال أو اضطراب مزاج صاحبه.ومن هنا فالقرآن الكريم حينما أراد أن يبين المستوى الخلقي عند النبي صلى الله عليه وسلم فقد بناه على مستوى بنيته النفسية وقوته الروحية بالتوازي مع قدرته الفائقة على التحمل والأداء،وبالتالي الثبات على سلوك منتظم ومحدد الغايات قد كان من أعظم مظاهرها كما ورد في السيرة :"لا يزيده سفه السفيه –عليه- إلا حلما".
وبما أن النبي صلى الله عليه وسلم هو مكلف بتبليغ الرسالة العظمى وإرشاد الخلق نحو الفضيلة المسعدة لهم ونهيهم عن الرذيلة المشقية فإنه من الضروري أن يكون أعقل الناس وأسلمهم بنية حتى يصير القدوة الكاملة التي قد لا تتأثر بالظروف والحيثيات أو قد يتغير سلوكه بضعف البنية النفسية التي قد يتحكم فيها الانفعال.
فالتوازن النفسي عند النبي صلى الله عليه وسلم وسلامة و قوة بنيته قد تظهر في أخلاقه التي هي معجزة له وحجة برهانية عملية على الخلق بالإقرار والأدلة.لأن كل من يدرس السيرة النبوية الشريفة فلابد وأن تبهره عظمة هذا النبي وأخلاقه ويتذوقها إن كان له إحساس وشعور بالفضيلة وسلامة الفطرة ،حتى إنه قد تذرف عيناه شوقا إلى رؤيته صلى الله عليه وسلم ،وهو الذي قد ظهرت ورشحت عنه هذه الأخلاق المذكورة توثيقا متواترا في السيرة وكتب الحديث والتاريخ عموما.وهذا ما أثنى به عليه الله سبحانه وتعالى ،موشحا ومصدرا له أعظم أوسمة الخلود والكمال والاستحقاق:"وإنك لعلى خلق عظيم"،فكان النبي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يمثل بهذا الإنسان الكامل في عالم الغيب والشهادة ،في بنيته النفسية والخلقية على حد سواء.
وعند الآية الثانية التي استشهدنا بها فقد نجد نفس المعنى الذي حملته الآيات الأولى ،إذ أن سلامة البنية النفسية هي أساس الاستبصار والإدراك الواعي لحقائق الأمور وصوابها.
فالنفس سوية في مبدئها،وبهذه الصفة فقد أصبحت قادرة على فهم الخير والشر وإدراك الفضيلة والرذيلة والتقوى والفجور ذاتيا وبصورة مجملة.بحيث قد صارت حينئذ مدركة للشيء وضده،وهي بين خيارين،وبهذا فقد أعطيت لها الإرادة لتحديد مصيرها امتحانا من الله تعالى.
فالفلاح لمن ساهم في تطهيرها وتجلية مرآتها باكتساب الفضائل حتى تحتفظ بصحتها الأولى من قبل انحدارها إلى ميدان الشهوات والنزعات المختلفة التي قد تشكل عقبات أمام هذا المطلب الأخلاقي الشريف.
أما الذي قد يميل إلى هذه الشهوات وينطوي على ذاته بممارسته للرذائل بأنواعها ومراتبها فإن المصير سيكون حتما هو الدس والإخفاء لمقومات النفس السوية.بحيث قد تصير ملبدة بسحب الأهواء والمستحثات الغريزية المفرطة وبالتالي فقد تصبح غير قادرة للحفاظ على التوازن الذي هو سبب سلامتها وميزان العدل فيها:"ويل يومئذ للمكذبين الذين يكذبون بيوم الدين وما يكذب به إلا كل معتد أثيم إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين،كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون،كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون" ."ويقول الذين آمنوا لولا أنزلت سورة،فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت،فأولى لهم طاعة وقول معروف،فإذا عزم الأمر فلو صدقوا الله لكان خيرا لهم،فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم،أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم،أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها" .
من هنا فقد يتبين لنا أن المرض الأخلاقي ما هو إلا انعكاس للمرض النفسي الناتج عن عدم الاستقرار العقدي السليم في البواطن والقلوب.ومن ثم فإن السلوك الصادر عن هؤلاء هو سلوك غير سليم وذلك لأن بنيتهم مختلة في العمق،واختلالها هذا مؤلم بالنسبة لمن يعانون من هذا المرض،وهذا ما سيدفعهم إلى القيام بأعمال تخريبية أو إفسادية سادية ونرجسية وهستيرية ...وذلك لأن بواطنهم فاسدة ومنحلة ،وهذا ما يمكن فهمه من خلال قول الله تعالى :"فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم".
فهذا دليل على أن الطبيعة العدوانية لدى الإنسان مصدرها واقع البنية النفسية المكونة لشخصيته الداخلية مصدر القرار والتوجه،كما أن اختلال هذه البنية ناتج عن غياب اعتناقه للعقيدة السليمة الموجهة له،أو قد يكون السبب هو التشكك في العقيدة الملتزم بها سطحيا،وبذلك فقد يبقى دائما في اضطراب وصراعات وعدم التزام بالفضيلة المطلوبة لتحقيق العدل والسعادة الإنسانية.
يقول الله تعالى:"لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين ،إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون" .
وهذا الارتياب والتردد سوف لن يبقى مستورا في الباطن بل سيظهر بكل وضوح على ظاهر الإنسان وسيتشكل سلوكه بحسب محتواه، بل إن حركاته الجسمية ونبراته الصوتية سوف تحمل رواسب هذا السلوك وسيكشف أمره بوضوح لدى من يتمتع بفراسة ونفس سليمة وواعية بالحالات النفسية الدقيقة خفيها وجليها.
يقول الله تعالى :"أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول،والله يعلم أعمالكم" ."وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون" .
وحينما يذكر الله تعالى سلوك قوم ونتائجه المترتبة عنه فقد يحيله على الحالة النفسية الداخلية لدى الإنسان سواء كان فردا أو جماعة ومجتمعا عاما ،وذلك لأن مرض الباطن كما قلنا مرارا وعدم توازنه هو سبب التصرفات الطائشة ومدخل استحقاق العبد للمقت من الله تعالى.فكان هذا التنبيه من القرآن الكريم بمثابة الدعوة إلى تحقيق الاستبطان النفسي ومراجعة الذات في خللها بشكل منتظم وممنهج،لأنه بقدر إهمال النظر في الحركات النفسية الداخلية والتغافل عنها بقدر ما تكون النتيجة جد سيئة وغير أخلاقية وأبعد ما تكون عن ميدان الفضيلة وثمراتها الذهبية.وهذه النتيجة سوف لن تبقى محدودة بالمستوى الفردي أو الشخصي كما قد يحلوا لبعض زاعمي الحرية الشخصية الوهمية ،بل قد تعم المجتمع ككل بسبب العدوى السلوكية والنفسية كما يقر بذلك الطب النفسي والاجتماعي الحديث،ومن هنا فسيكون مآل هذا المجتمع الموبوء هو الاضطراب والهذيان الشهوي والغضبي وستحل به أيضا الحيرة في حل الإشكالات المطروحة على الساحة العامة وهي متشابكة الخيوط والخطوط ومعقدة إلى أقصى مستوى التعقيد ،وبالتالي حصول الانهيار في مرافقه العامة ،كنموذج الأزمة المالية العالمية في عصرنا والتي فى ذوقنا الخاص وبعيدا عن التحاليل الاقتصادية والسياسية أن سببها الرئيسي هو الإساءة إلى مصدر الأخلاق ومنبعها بل مصدر كل خير ورخاء في العالم ألا وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم الرحمة المهداة ،وتجرؤ بعض الخبثاء من الكفار الغربيين وغيرهم بألسنتهم الملطخة بالقاذورات وأقلامهم الجافة والمتسخة على مقامه الشريف والعالي في الآفاق والذي لا يمكن أن ينال منه ولا أن ترمقه تلك النفوس الخبيثة والراقدة في مقام الحضيض نفسيا وأخلاقيا .
بحيث مهما عملت أمة على وضع المخططات للخروج من المآزق التي تتخبط فيها من خلفيات وخلل سلوكي وأخلاقي فإنها قد لا تصل إلى العلاج الكامل والجذري لأمراضها الاجتماعية إلا إذا عملت بشكل جماعي على مراجعة الأنفس استبطانا وملاحظة خارجية وذلك بالعمل على تغيير النهج الذي تعودت عليه خطأ هذه النفوس أو تلك،يقول الله تعالى :"إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم،وإذا أراد الله بقوم سوء فلا مرد له وما لهم من دونه من وال" .
التلازم النفسي والخلقي في التطبيق الشرعي النبوي
وإذا كان القرآن يربط بين السلوك والحالة النفسية الداخلية للإنسان فإن سلوكه هذا سوف يتشكل بشكل النفس واستعداداتها البنيوية للتحمل والأداء:"لا يكلف الله نفسا إلا وسعها" .
فهذا الوسع أو التحمل قد يكون مشتركا بين كل الناس لأن بعض الأحكام الشرعية قد لا تسقط عن المكلف مهما كانت الظروف وتفاوتت الاستعدادات،كما أنه قد يكون خاصا وظرفيا على حسب مستوى الإنسان النفسي من حيث الإدراك والوعي والسلامة البدنية...
علاج الضعف بين واقع الوالدية والمولودية
يقول الله تعال:"الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة،يخلق ما يشاء وهو العليم القدير" .
فهذه المراحل العادية لنمو الإنسان سيعالجها الإسلام من حيث علاقتها بالأخلاق وبحسب مستوى النفوس التي تتحدد من خلالها،إذ الصغير له سلوكه الخاص به نحو نفسه ونحو من هو أكبر منه سنا ،وكذلك سلوك الكبير بالتشارط،والذكر له أخلاقياته الخاصة بالنسبة إلى الأنثى،والأبناء قد يعاملون الآباء والأمهات معاملة خاصة وبأخلاق معينة متصاعدة أو متنازلة،وكذلك الآباء والأمهات مطالبون بسلوك خاص وأخلاق متميزة حسب وضعهم في السلم الأسري.
وكنموذج على هذا التقسيم لأنواع المعاملات حسب النفوس واستعداداتها قد نجد قول الله تعالى:"ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير" ."وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا" .
فمن خلال هاتين الآيتين قد تتضح لنا بعض التطبيقات لموضوع الصلة بين النفسيات والأخلاقيات،إذ في الآية الأولى نرى أن الله تعالى يوصي بالوالدين من دون تحديد نوع أو صفة التوصية وفترتها.بحيث قد أبقى الاجتهاد لدى الابن في تحقيقها والالتزام بها على قدر المستطاع وبحسب ما تتطلبه حالة الوالدين النفسية والمادية والصحية،كما نرى أن هذه التوصية قد شملت في شطرها الأكبر جانب الأم أكثر من الأب وذلك لأنها هي الأضعف في كل مراحل تكوين شخصيتها،وأيضا فهي التي قد تحملت متاعب ومشاق أكثر في إنجاب هذا الولد محل الأمر،ومن ثم فهي قد تنتظر في قرارة نفسها وغريزيا حظها من الجزاء والتعويض والذي مهما كان مستواه من حيث البذل والعطاء فإنه سوف لن يؤدي لها ثمن لحظة ألم واحدة عند تحركه في أحشائها أو أثناء ولادتها له وإخراجه مكتمل الخلقة إلى هذا الوجود المرئي.
وبهذا فإن الأخلاق والمعاملة الحسنة ستكون تجاه الأم أكثر قوة واهتماما مما يتطلبه جانب الأب وذلك كاستجابة لما توقعته الأم في نفسها من نتائج حملها وولادتها لابنها...
أما بالنسبة للآية الثانية فإنها قد تضمنت توصية للابن نحو والديه لكنها قد حددت الفترة اللازمة لتحقيقها بكل فقراتها الموصوفة وبما تتضمنه من صور ومظاهر وأحوال،وهي الكبر أو الضعف الشامل الذي قد يمثل المرحلة الأخيرة من مراحل عمر الإنسان ...
فالوالدان في هذه اللحظة قد يكونان مترقبين جَنْي ثمرة جهودهما التي قد أفرغاها في تنشئة هذا الولد حتى صار ذا قوة ومستوى مرموق في المجتمع .بحيث لم يعد عاجزا عن القيام بمتطلبات الحياة من العمل النشيط والحركة والكسب...إذ الولد يعتبر أهم المكاسب للوالدين ومن ثم فقد يكون من الواجب عليه إحسان معاملتهما لكي يشعرا بالقوة اللازمة التي كانا يتمتعان بها في مرحلة من مراحل حياتهما ومن قبل أن يصيبهما الكبر والعجز الضروري بحسب السن والصحة والتي قد يأملانها في ابنهما الذي يعتبر جزء جوهريا منهما.
ولهذا فحينما أتى رجل ومعه أبوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:إن لي أبا وله مال وإن أبي يريد أن يأخذ مالي ! قال له النبي صلى الله عليه وسلم:"أنت ومالك لأبيك" .
إذ أن مسألة معاملة الابن لأبيه وأمه لم تعد مقصورة على توفير الغذاء لهما أو معاملتهما معاملة عادية ومتكلفة فقط ،ولكن القضية في عمقها هي تلبية غريزية ونفسية لدى الأب والأم نحو ابنهما والمتحددة في الشعور به أنه هو هما وأنهما هما هو !هذا مع اعتبار ملكيتهما له مهما استقل عنهما لأن :"الولد سر أبيه"،فعلى الوالدين الأمر وعلى الولد الطاعة إلا في حالة واحدة وهي الأمر بمعصية أو ضرر وظلم لا يقره الشرع وما يتضمنه من حقوق الحق والخلق "وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا واتبع سبيل من أناب إلي ثم إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون " .ويقول النبي صلى الله عليه وسلم "لا طاعة في معصية إنما الطاعة في المعروف" .
نفسية النشوز وخلق التواصل في الحياة الزوجية
كما قد نجد نموذجا آخر من بين الصور المتعددة التي قد تبرز فيها الإجراءات الممتزج فيها الجانب النفسي بالجانب الأخلاقي على سبيل التلازم في موضوع نشوز الزوجة ،يقول الله تعالى:"واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن،فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا ،إن الله كان عليا كبيرا" .
فالنشوز فقها هو استعصاء الزوجة على زوجها وعصيانها له وخاصة في حقوقه الخاصة والضرورية في بناء بيت الزوجية،وهو قد يكون لأسباب معلومة ومجهولة غير شعورية قد جعلتها تقوم بهذه التصرفات السلبية اتجاه زوجها.
فعلاج هذه الظاهرة السلبية قد يتم على مراحل وبمستويات.فإذا كان السبب عارضا أي بمعنى أنه ظرفي وناتج عن أخطاء قد صدرت من الزوج أو عدم تفاهم حول مسألة خاصة فإن هذا الخلاف من الممكن معالجته في الحال وذلك بمجرد الوعظ والتذكير وعلى سبيل المودة والنصيحة ومحاولة إصلاح الخطأ من طرف الزوج إن كان هناك خطأ واضح من جانبه،وعندئذ فإن هذا النشوز سوف يتوقف في الحين وتعود الحياة إلى مجاريها الطبيعية،لأن المسألة لم تكن عميقة ونفسية في حد ذاتها بل هي أخلاقية وسلوكية مكتسبة وسريعة التعديل والمراجعة.
فإذا لم يفعل الوعظ أثره في الحين فإن العلاج قد يتدرج إلى مستوى تأديبي آخر متصاعد،وفي هذه الحالة سوف يحاول الزوج جس نبض نفسية زوجته عاطفيا وألفة،ومن ثم فسيكون الإجراء امتحانا نفسيا والذي قد ينحصر في الهجر والامتناع عن التواصل الجنسي والعاطفي والمعبر عنه شرعا بالهجر في المضاجع.
إذ المقصود به ليس هو غياب الزوج عن زوجته كشبح وشخص ومساكنة وإنما كنفس وسلوك ومعاملة، بل قد يكون واجبا عليه أن يبقى في منزله و ينام على نفس فراش زوجته وفي نفس الوقت قد يوليها ظهره تأديبا واختبارا لكي يتحدد له مستوى كراهيتها له ومدى عمق نشوزها.
فإذا استمر الأمر على هذه الحالة والتي قد تقدر مدتها بشهر على الأكثر من دون ملاحظة أي تحسن أو تقدم ولو طفيف في علاج الموضوع فإن المسألة ستكون حينئذ قد أخذت بعدا متجذرا في نفسية تلك المرأة من حيث كراهيتها لزوجها أو تعقد أدوات التواصل لديها معه والتي ربما ستكون قد قبعت في أعماق اللاشعور مما سيستدعي مرحلة الإيقاظ والاستخراج بالمنبه المناسب للحالة.
بحيث أن الكراهية أو القطيعة قد أصبحت حقيقية وثابتة وليست سطحية أو عابرة،كما سيقاس الأمر بأن المرأة المحبة لزوجها والمحترمة له قد لا تتحمل كبح غرائزها وخاصة العاطفية والجنسية وهي مباشرة له في نفس الفراش أو في المنزل ككل.فإذا حصل عدم رد فعل إيجابي لديها مع هذا العلاج الفعال فإن ذلك قد يعني أن الزوجة ربما بلغت مستوى خطيرا من الاشمئزاز النفسي وعسر التواصل مع زوجها.
بعد هذا العلاج الذي قد لا يؤدي إلى النتيجة المرجوة في بعض الحالات المتقدمة من النشوز لدى بعض الزوجات فقد يتاح للزوج لأن ينتقل من مستوى العلاج النفسي والإيحائي إلى الوسائل المادية المتمثلة في إحداث الألم الجسدي المحدود والمقيد بمناطق غير معطبة ولا شديدة الحساسية بواسطة الضرب، والذي ينبغي أن يكون غير مبرح بالمرة ولا مكسر لعضو أو جارح له أو تارك لكدمات ملحوظة على ظاهر الزوجة.
إذ المقصود هنا ليس البدن الذي هو أصلا محل اللذة والاستمتاع بين الزوجين ولكن النفس وتهديدها هو الغاية من هذه العملية الاستثنائية في علاج النشوز كالكي باعتباره آخر الدواء !!!.
فمحاولة الضرب والشروع في تنفيذه وافتعال أجوائه الساخنة توعدا وتهديدا محدودا ربما قد يعمل على إثارة التنبيه والتخويف بجدية الموقف وصرامته التي قد تؤثر على نفسية المرأة وتوقظها لتدارك موقفها أو غفلتها التي حصلت لها لأسباب لاشعورية فتحكمت في سلوكها نحو زوجها بتلك الصورة السلبية التي ظهرت عليها.
فقد يحدث هذا إذا كان المرض ما زال له قابلية للاستئصال،خاصة وأن التخويف له دور مهم وفعال في العلاج النفسي لردع كثير من الناس عن أخطائهم وتحدياتهم، كما هو فاضح للبعض عما يدعونه بألسنتهم وما هو ليس بمتجدر أصلا في نفوسهم أو قلوبهم.
يقول الله تعالى"قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلا أشحة عليكم،فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت،فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد أشحة على الخير،أولئك لم يؤمنوا فأحبط الله أعمالهم وكان ذلك على الله يسيرا" ."وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم"."ذلك يخوف الله به عباده يا عبادي فاتقون" .
فإذا لم يعمل التخويف عمله ولم يتراجع الإنسان عن طغيانه وعصيانه فذلك يعني أن نفسه اتجاه الموضوع المأمور به أو المنهي عنه قد طبعت على ذلك العصيان بالتحدي وأصبحت مريضة وتعمل ضدا على مصلحتها بالإصرار والتعنت مع عدم القابلية للشفاء"ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا " .
لهذا فبالنسبة إلى الزوجة إذا لم يعمل الضرب والتخويف عمله المرجو فإن ذلك قد يعني أن العلاج الشخصي بواسطة الزوج نفسه غير قادر على تحقيق وظيفته فيلجأ بعد ذلك إلى العلاج الجماعي الذي هو أكثر تخويفا وتنبيها وذلك برفع المسألة إلى القضاء حيث سيلحق بالقضية أطرافا آخرين كمحاولة لحل النزاع بالإصلاح والوفاق والتحكيم،فتكون حينئذ هذه آخر مرحلة للعلاج في هذا الباب وذلك للإبقاء على الحياة الزوجية مستمرة ومستقرة وإلا فسيكون الزوج عند الإخفاق بين خيارين وهما :
إما تحمل هذا النشوز والعيش في كنفه على مضض وقلق واضطراب،وهذا مقام الصابرين والمجاهدين لأنفسهم، وإما أن يلجأ إلى فراق زوجته كأبغض الحلال:"وعاشروهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف"،والذي قد يبقى الحل الوحيد للخروج من المأزق المستعصي في حالة استحالة استمرار المعاشرة بالتي هي أحسن.
كما أن موضوع الضرب الذي ذكرناه قد يخضع بدوره إلى مقياس أخلاقي ودعوة للتخلي عنه عند أولي العزم وذوي الصبر والحكمة من الرجال الخيار كما عبر ونصح بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله:"لن يضرب خياركم" لأن النساء -كما وصفهن صلى الله عليه وسلم- قوارير قابلات للكسر المعنوي والمادي بسرعة، فهن أحوج إلى الرفق العام،ولقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم هو خير الناس والخلق أجمعين ولم يرد في أي خبر أنه قد ضرب أو آذى امرأة بيده ولسانه !،فليقتد به في هذا من يدعي أنه يطبق سنته ويسعى إلى التقرب منه بدل الانشغال باللحى والتشدق اللفظي والصخب الوعظي من غير ذوق ولا أخلاق !، بل قد نهى عن الضرب المؤذي للزوجة في نفسيتها ورغبتها الغريزية والجنسية خاصة ،بأن"لا تضرب الوجه ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت"و"لا يجلد أحدكم زوجته جلد العبد ثم لعله يعانقها ويجامعها من آخر اليوم"،ومن ثم فما"أكرمهن إلا كريم وما أهانهن إلا لئيم"و"استوصوا بالنساء خيرا"كآخر وصية متواترة أوصى بها حبيبنا ورسولنا الكريم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم صحابته وأمته في خطبة الوداع ،جامعا فيها بين الواقع النفسي والوصف الخلقي الحميد في ضبط التعامل والتواصل الاجتماعي العام والأسري الخاص وبالأخص مع المرأة.
هذه هي إذن بعض ملامح ربط الجانب النفسي بالخلقي في القرآن الكريم والسنة النبوية،ولو تتبعنا كل ما ورد ي فيهما بخصوص هذا الموضوع فقد لا نخلص إلى إتمام الحديث عنه في كتاب أو مجلد بل أحمال من المجلدات لأنه قد يمثل جوهر القضية النفسية في تلازمها مع الأخلاقية.بحيث لا قيمة لنفس دون أخلاق ولا أخلاق إلا عن طريق السلامة النفسية،وعن هذا المفهوم أخذ المسلمون واستمدوا أفكارهم وسلوكهم ونسجوا في بحوثهم ،فكان الأثر القرآني والتطبيقات النبوية العملية الرفيعة واضحة في كل دراساتهم السلوكية وخاصة في ربط الصلة بين النفس والأخلاق.
جامعة القرويين - كلية أصول الدين
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.