في زمن تسعى فيه الدول إلى توحيد صفوف شعوبها، وبناء اتفاقات وشراكات تقوم على مبدأ "رابح-رابح"، لا تزال الجزائر تُطلّ علينا بعسكرها المتعجرف، متحدثة عن حق الشعوب في تقرير المصير، وكأنها وصيٌّ على القانون الدولي أو حارس أمين لمبادئ الأمم. والمفارقة المدهشة أن الخطاب الذي ظلّ جنرالات المرادية يجترونه ضد المغرب طيلة نصف قرن، يعود ليرتدّ عليهم داخل بيتهم، في جبال جرجرة وصخور منطقة القبائل، حيث تُرفع الشعارات نفسها التي طالما نادت بها الجزائر لغيرها: الحرية، والاستقلال، وحق الشعوب في تقرير المصير. وهكذا ينقلب السحر على الساحر، ليكتشف المتابع أن ما سُمّي يومًا "قضية الصحراء" ليس سوى مسرحية عبثية، أبطالها الحقيقيون داخل الجزائر ذاتها. وإنْ كان المغرب قد واجه تلك الادعاءات بالشرعية التاريخية، وبالبيعة الموثقة منذ قرون، إضافة إلى قرارات أممية لم تُقرّ يومًا بوجود كيان منفصل في الصحراء، فإن النظام الجزائري يغرق في تناقضاته .. بين خطاب يرفع شعارات الحق والحرية، وممارسة تسجن شعبًا بأكمله، يُدعى شعب القبائل. وهنا تبدأ المفارقة الساخرة: كيف لفاقدِ الشرعية أن يمنحها؟ وكيف لمن لم يعرف الدولة عبر المؤسسات الديمقراطية أن يتحدّث عن الديمقراطية والحرية؟ تقرير مصير .. أم "تكرير عصير" عندما تبنّت الجزائر شعار "تقرير المصير"، لم يكن ذلك حُبًّا في حقوق الشعوب، بل كان سلاحا سياسيا وُجّه بالأساس ضد المغرب قصد إلهائه عن المطالبة بحدوده الحقة. فمنذ صدور قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 1960 بشأن منح الاستقلال للشعوب المستعمَرة، أصبح هذا المبدأ مطيّة يركبها العسكر، ويلوحون بها في كل المحافل وكلما اقتضت المصلحة. لكن هذا المبدأ، في حد ذاته، لم يكن مطلقًا؛ إنما قُيد بالقانون الدولي: لا تقرير للمصير إذا كان على حساب وحدة الدولة الترابية، ولا استقلال حيث توجد روابط تاريخية موثّقة بين المركز والأقاليم. وهنا يتجلى الفارق بين وهم الجزائر وحقيقة المغرب؛ فالمغرب يستند إلى بيعة القبائل الصحراوية لسلطانه منذ قرون، وإلى مراسلات تاريخية بين الملوك المغاربة والقوى الاستعمارية، تؤكد أن الصحراء كانت دائمًا جزءًا لا يتجزأ من التراب الوطني. أما الجزائر، فلا تملك في ملف القبائل سوى القمع والاعتقالات، والإنكار الممنهج، دون أي سند تاريخي أو وثيقة شرعية تُبرر موقفها. هكذا يُصبح تقرير المصير في خطاب المرادية مجرد كذبة كبرى، أشبه ب"تكرير العصير" الذي فقد طعمه حتى صار فاسدا، فلا هو مشروب يُروى ولا هو دواء يُشفي. وكم هو مثير للسخرية أن من يوزّع الوهم على الآخرين، يجد نفسه في نهاية المطاف أسير الوهم ذاته، لتنطبق عليه المقولة الشهيرة: "من حفر حفرة لأخيه وقع فيها". الشرعية الدولية بين النص والانتقائية إذا عدنا إلى قرارات الأممالمتحدة بشأن الصحراء المغربية، نجد أنها لم تتجاوز قط التأكيد على ضرورة التوصل إلى حل سياسي متوافق عليه، دون أن تنصّ، ولو مرة واحدة، على خيار الاستقلال. بل إن محكمة العدل الدولية، في رأيها الاستشاري بتاريخ 1/10/1975، أكدت وجود روابط قانونية وبيعية للمغرب مع صحرائه الغربية، وهو ما نسف الرواية الجزائرية من أساسها. ومع ذلك، لا يزال حكام الجزائر يلوكون شعار "تقرير المصير" وكأنه نصٌّ مقدس، متجاهلين أن هذا المبدأ يُطبّق في سياق واحد فقط هوإنهاء الاستعمار، لا تفكيك الدول ذات السيادة. والمفارقة الصارخة أن الجزائر التي تمنع مجرد النقاش حول هوية شعب القبائل أو أمازيغ الأوراس، تتجرأ على المطالبة ب"استفتاء" في صحراء لا تملك فيها أرضًا ولا بشرًا. هنا يتجلى التناقض الأكبر، فالأممالمتحدة نفسها لم تعترف يومًا بجبهة البوليساريو كحركة تحرر وطني، بل وصفتها طرفًا غير حاسم في النزاع. في المقابل، تعترف اليوم بجدية ومصداقية مقترح الحكم الذاتي المغربي، وتعتبره حلًا واقعيًا وعمليًا. أليس هذا وحده كافيًا لإسقاط كل الحُجج الجزائرية؟ وكيف لمن يعتقل نشطاء القبائل فقط لأنهم رفعوا علمًا ثقافيًا، أن يتحدّث عن "حرية الشعوب"؟ إنها المفارقة التي تجعل من خطاب المرادية نكتة سياسية لا تُثير إلا السخرية، بدل أن تُقنع بالحجج. المغرب دعامة التاريخ والشرعية لو لم يكن للمغرب حجته التاريخية، لربما وُضِع في موقف ضعف أمام ألاعيب الجزائر. لكن الحقائق ناصعة لا لبس فيها .. من معاهدات المغرب مع القوى الاستعمارية في القرن التاسع عشر، إلى وثائق البيعة التي قدمتها القبائل الصحراوية للملوك المغاربة، إلى الحضور الرسمي والدائم للمغرب في المحافل الدولية منذ تأسيس الأممالمتحدة، كلها شواهد تؤكد أن وحدة المغرب الترابية ليست مجرد موقف سياسي، بل حق تاريخي وقانوني غير قابل للنقاش. لقد أقرت محكمة العدل الدولية بهذه الروابط، وأكدت قرارات مجلس الأمن مرارا، أن أي حل يجب أن يحترم سيادة المغرب ووحدته الترابية. أما الجزائر، فما الذي تملكه في ملف القبائل؟ لا وثيقة، ولا بيعة، ولا اعتراف دولي. فقط قبضة عسكرية من حديد ونار، وسرديات فارغة لا تصمد أمام الوقائع. هنا تتجلى المفارقة الكبرى .. ما أرادته الجزائر للمغرب، سقطت فيه داخل حدودها. ف"القضية القبائلية" لم تعد مجرّد أصوات منفية، بل أصبحت حراكًا شعبيًا متصاعدًا، يتغذّى من تناقضات الخطاب الرسمي، ومن شعور عميق بالظلم والتهميش والحرمان. إن ما يعيشه المغرب من ثبات على حقه التاريخي، يقابله ارتباك جزائري يكشف أن الصراخ لم يكن إلا ستارًا هشًّا يُخفي عمق الأزمة الداخلية. وكأن التاريخ يعاد كتابته من جديد، فالمغرب الذي سعوا لعزله، أصبح رقمًا إقليميًا ودوليًا يُحسب له ألف حساب، والجزائر التي ادعت البطولة انكشفت عورة خطابها أمام شعبها قبل أن تنكشف على مسرح السياسة الدولية. في الختام، يتبين أن "تقرير المصير" يتحول إلى وهمٍ خطيرٍ عندما يُستعمل كسلاح سياسي، ويستعيد معناه الحقيقي فقط حين يُبنى على شرعية تاريخية وقانونية راسخة. المغرب في صحرائه يستند إلى بيعة القبائل والشرعية الدولية، في حين تواجه الجزائر، في ملف القبائل، فراغًا قانونيًا وحقيقة مُرّة. لقد انقلب السحر على الساحر، ووجدت المرادية نفسها أسيرة فخ صنعته بيديها. وبينما يكرّس المغرب مكانته كدولة ذات جذور تاريخية وامتداد قانوني مشروع، تغرق الجزائر أكثر فأكثر في مستنقع تناقضاتها الداخلية وخطابها المزدوج. تلك هي فلسفة الأحداث .. فمن أراد إضعاف غيره بقميص القانون، انكشف عريه يوم ارتدّ عليه القميص نفسه. وللتاريخ نقول: من يتاجر بالوهم، لا بد أن يشرب من كأسه المرّة.