مستشارو جلالة الملك يترأسون اجتماعا لتحيين مبادرة الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية    بوريطة يعلن قرب عقد اللجنة العليا المغربية السنغالية تمهيدًا للقاء الملك محمد السادس والرئيس فاي    تنصيب عمر حنيش عميداً جديدا لكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية السويسي بالرباط    الرايس حسن أرسموك يشارك أفراد الجالية أفراح الاحتفال بالذكرى 50 للمسيرة الخضراء    الفريق الاشتراكي: الاعتراف الدولي بسيادة المغرب على الصحراء ليس مجرد موقف شكلي بل تتويج لمسار دبلوماسي    أخنوش يستعرض أمام البرلمان الطفرة المهمة في البنية التحتية الجامعية في الصحراء المغربية    إطلاق سراح الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي وإخضاعه للمراقبة القضائية    مئات المغاربة يجوبون شوارع باريس احتفاء بالذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء المظفرة    أخنوش: الحكومة تواصل تنزيل المشروع الاستراتيجي ميناء الداخلة الأطلسي حيث بلغت نسبة تقدم الأشغال به 42 في المائة    رسميا.. منتخب المغرب للناشئين يبلغ دور ال32 من كأس العالم    المعارضة تقدم عشرات التعديلات على مشروع قانون المالية والأغلبية تكتفي ب23 تعديلا    تداولات بورصة البيضاء تنتهي "سلبية"    ندوة حول «التراث المادي واللامادي المغربي الأندلسي في تطوان»    أخنوش: "بفضل جلالة الملك قضية الصحراء خرجت من مرحلة الجمود إلى دينامية التدبير"    مصرع شخص جراء حادثة سير بين طنجة وتطوان    أمن طنجة يُحقق في قضية دفن رضيع قرب مجمع سكني    كرة أمم إفريقيا 2025.. لمسة مغربية خالصة    نادية فتاح العلوي وزيرة الاقتصاد والمالية تترأس تنصيب عامل إقليم الجديدة    انطلاق عملية بيع تذاكر مباراة المنتخب الوطني أمام أوغندا بملعب طنجة الكبير    "حماية المستهلك" تطالب بضمان حقوق المرضى وشفافية سوق الأدوية    المنتخب المغربي لأقل من 17 سنة يضمن التأهل إلى الدور الموالي بالمونديال    المجلس الأعلى للسلطة القضائية اتخذ سنة 2024 إجراءات مؤسسية هامة لتعزيز قدرته على تتبع الأداء (تقرير)    لجنة الإشراف على عمليات انتخاب أعضاء المجلس الإداري للمكتب المغربي لحقوق المؤلف والحقوق المجاورة تحدد تاريخ ومراكز التصويت    "الإسلام وما بعد الحداثة.. تفكيك القطيعة واستئناف البناء" إصدار جديد للمفكر محمد بشاري    تقرير: احتجاجات "جيل زد" لا تهدد الاستقرار السياسي ومشاريع المونديال قد تشكل خطرا على المالية العامة    تدهور خطير يهدد التعليم الجامعي بورزازات والجمعية المغربية لحقوق الإنسان تدق ناقوس الخطر    صحة غزة: ارتفاع حصيلة شهداء الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزة إلى 69 ألفا و179    ليلى علوي تخطف الأنظار بالقفطان المغربي في المهرجان الدولي للمؤلف بالرباط    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الثلاثاء    باريس.. قاعة "الأولمبيا" تحتضن أمسية فنية بهيجة احتفاء بالذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء    ألمانيا تطالب الجزائر بالعفو عن صنصال    82 فيلما من 31 دولة في الدورة ال22 لمهرجان مراكش الدولي للفيلم    قتيل بغارة إسرائيلية في جنوب لبنان    200 قتيل بمواجهات دامية في نيجيريا    رئيس الوزراء الاسباني يعبر عن "دهشته" من مذكرات الملك خوان كارلوس وينصح بعدم قراءتها    برشلونة يهزم سيلتا فيغو برباعية ويقلص فارق النقاط مع الريال في الدوري الإسباني    إصابة حكيمي تتحول إلى مفاجأة اقتصادية لباريس سان جيرمان    الحكومة تعلن من الرشيدية عن إطلاق نظام الدعم الخاص بالمقاولات الصغيرة جداً والصغرى والمتوسطة    مكتب التكوين المهني يرد بقوة على السكوري ويحمله مسؤولية تأخر المنح    الإمارات ترجّح عدم المشاركة في القوة الدولية لحفظ الاستقرار في غزة    الركراكي يستدعي أيت بودلال لتعزيز صفوف الأسود استعدادا لوديتي الموزمبيق وأوغندا..    الدكيك: المنتخب المغربي لكرة القدم داخل القاعة أدار أطوار المباراة أمام المنتخب السعودي على النحو المناسب    لفتيت: لا توجد اختلالات تشوب توزيع الدقيق المدعم في زاكورة والعملية تتم تحت إشراف لجان محلية    العالم يترقب "كوب 30" في البرازيل.. هل تنجح القدرة البشرية في إنقاذ الكوكب؟    كيوسك الإثنين | المغرب يجذب 42.5 مليار درهم استثمارا أجنبيا مباشرا في 9 أشهر    توقيف مروج للمخدرات بتارودانت    ساعة من ماركة باتيك فيليب تباع لقاء 17,6 مليون دولار    دراسة تُفنّد الربط بين "الباراسيتامول" أثناء الحمل والتوحد واضطرابات الانتباه    وفاة زغلول النجار الباحث المصري في الإعجاز العلمي بالقرآن عن عمر 92 عاما    الكلمة التحليلية في زمن التوتر والاحتقان    الدار البيضاء: لقاء تواصلي لفائدة أطفال الهيموفيليا وأولياء أمورهم    وفاة "رائد أبحاث الحمض النووي" عن 97 عاما    سبتة تبدأ حملة تلقيح جديدة ضد فيروس "كورونا"    دراسة: المشي يعزز قدرة الدماغ على معالجة الأصوات    بينهم مغاربة.. منصة "نسك" تخدم 40 مليون مستخدم ومبادرة "طريق مكة" تسهّل رحلة أكثر من 300 ألف من الحجاج    وضع نص فتوى المجلس العلمي الأعلى حول الزكاة رهن إشارة العموم    حِينَ تُخْتَبَرُ الْفِكْرَةُ فِي مِحْرَابِ السُّلْطَةِ    أمير المؤمنين يأذن بوضع نص فتوى الزكاة رهن إشارة العموم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تسطير التاريخ بين توهُّمات الفِكْرى وتقريبات العلم
نشر في هسبريس يوم 29 - 06 - 2010

لقد صار من ٱلشائع أن يُقال إن «ٱلتاريخ يَكتُبه ٱلْأقوياء». ويبدو أن هناك كثيرين ممن يظنون أن هذه ٱلعبارة تُعطي خلاصة تامة وواضحة ل"فلسفة ٱلعلم ٱلتاريخي". لكن تلك ٱلعبارة في مفهومها لَا تقول جديدا، بل إن ٱلحركة ٱلفعلية للِاجتماع وٱلتاريخ ٱلبشريين تقول ذلك ببلَاغة لا تُضاهى: إذ متى كان ٱلضعفاء وٱلمستضعفون يصنعون ٱلتاريخ حتى تكون لهم فرصة في كتابته؟ فالتاريخ ٱلبشري كان ولَا يزال (وسيبقى حتما) مسرحا لكل ٱلمآسي وٱلمفاجع ٱلتي تُجلِّي تنازُع ٱلْإرادات وتَغالب ٱلقُوى، تنازع وتغالُب يكون فيهما ٱلضعفاء وٱلمستضعفون تارة أدوات، وتارة أخرى ضحايا، وفي ثالثة هما معا. فهل من سبيل لِانبثاق عصر يَنقُل ٱلضعفاء وٱلمستضعفين من هوامش ٱلتاريخ إلى عمق مُتُونه بحيث تُسطَّر لهم صفحات كاملة تحكي، على ٱلْأقل، مَنَاحِي (ومَنَاوِح) ضعفهم وٱستضعافهم؟
لعل كثيرين ممن يُردِّدون عبارة أن «ٱلتاريخ يَكتُبه ٱلْأقوياء» يطمعون في أن يُجيبوا، في يوم من ٱلْأيام، عن ذلك ٱلسؤٱل بالإثبات فيستبدلون بتلك ٱلعبارة أخرى تُؤكد أنه: «يجب على ٱلضعفاء/ٱلمستضعفين أن يكتبوا ٱلتاريخ!» أو «ينبغي أن يُكتَب ٱلتاريخ من منظور ٱلضعفاء/ٱلمستضعفين!» أو «ينبغي أن يُكتَب تاريخ ٱلضعفاء/ٱلمستضعفين!». ويبدو أن مثل هذه ٱلعبارات مُبهِجة إلى حدّ ٱلِانتشاء بالنسبة للضعفاء وٱلمستضعفين أو للمقهورين وٱلمضطهدين! لكن كُلا من ٱلمؤرخ وٱلفيلسوف لَا يملك إلّا أن ينزعج عند تلقِّيها، وفي أحسن ٱلْأحوال قد يَرُدّ عليها متسائلا بسخرية لاذعة: وهل كُتِب شيء في ٱلتاريخ لا يعبر عن أنواع ٱلضعف ٱلبشري؟! أليس كونُ ٱلتاريخ يَكتُبه ٱلْأقوياء خيرَ تعبير عن حقيقته ٱلعميقة ٱلتي تُفيد أنه لا مجال فيه للضعفاء/ٱلمستضعفين؟!
وفيما وراء ذلك، فإن ٱلعبارة ٱلأقرب إلى مقاصد ٱلمشتغلين بالدراسة وٱلكتابة ٱلتاريخيتين لهي أن يُقال: «ٱلتاريخ يَكتُبه ٱلغالِب/ٱلمسيطر»، وهي ٱلعبارة ٱلتي تؤكد -في خطوة أولى- أن أحداث ٱلماضي ٱلبشري لا يمكن أن تُستعاد، بالنسبة للأجيال ٱللاحقة، إلا وَفْق ما يسمح به "ٱلمِنظار ٱلمُتحيِّز" لمن عَمِلوا (ويعملون) على تدوينها من موقع ٱلقوة (قوة ليست حصرا "مادية")، لِأن هذا ٱلتدوين يرتبط بإكراهات ٱلواقع ٱلمعيش ٱلذي ينزل بثقله ٱلسياسي وٱلِاقتصادي وٱلثقافي على كل أعمال ٱلناس ٱلتي من بينها ٱلكيفية ٱلتي يُكتَب بها "ٱلتاريخ". ولذا، لا يتردد بعضهم عن ٱلجزم بأن أي معرفة بالتاريخ ٱلبشري، إن جزءا أو كلا، غير ممكنة إلا على شاكلة "ٱلفن" أو "ٱلأدب" أو "ٱلفلسفة"، وليس مطلقا على شاكلة "ٱلعلم" (ٱلرياضي أو ٱلطبيعي)، إلَّا أن يصير التاريخ -بمقتضى ٱلتخريج ٱلبعدحداثي- داخلا في إطار "ٱلقَصَص ٱلوَعْظي" مثل ٱلأنواع ٱلأخرى. ولو صحّ أن هذه هي حقيقة "ٱلتاريخ"، لصار ممكنا في هذه الحالة أن يكتبه ٱلضعفاء/ٱلمستضعفون فيحكون -هم أيضا- حكاياتهم ٱلخاصة (وربما "ٱلصغرى") إلى جانب حكايات ٱلأقوياء وٱلمستكبرين كحكايات "عظمى"!
غير أن ذلك ٱلمعنى ٱلذي يتبادر إلى ٱلذهن من عبارة «ٱلتاريخ يَكتُبه ٱلغالب/ٱلمُسيطِر»، رغم صحته ٱلجزئية، لا يُمكِّن من إدراك واقع ٱلصيرورة ٱلتاريخية كما يُعانيها فعليّا ٱلناس ٱلعاديون، ولا كما يُواجهها ٱلعاملون على بناء فهم و/أو تفسير موضوعي لها. فإذا كان "ٱلغالب/ٱلمسيطر" هو ٱلذي يكتب "ٱلتاريخ"، فإن ما ينبغي تبيُّنه في ذلك، ليس فقط كون "أحداث ٱلماضي" تُعدّ موضوعًا للتحريف وٱلتلاعُب، بل أيضا وأساسا وُجود ضرورة ٱجتماعية (و، من ثم، تاريخية) مرتبطة بالتجربة ٱلمعيشة للناس تقف وراء ذلك كله و، بالتالي، كون "ٱلمشكلات ٱلتاريخية" تُمثِّل في الواقع صعوبات "ٱلحاضر" أكثر مما تُمثِّل صعوبات "ٱلماضي". ومن هنا، فإن كون ٱلناس يُؤخَذُون ضمن ٱلضرورة ٱلمُلازِمة لواقعٍ خاضعٍ للغَلَبة/ٱلسيطرة على كل ٱلمستويات هو ٱلذي يُعطي لتلك ٱلعبارة معناها ٱلحقيقي، وذلك على ٱلنحو ٱلذي يجعل نَعْت "ٱلغالب/ٱلمُسيطر" يُشير إلى ٱلتفاعل (وٱلتنازع) بين مجموع ٱلبنيات ٱلموضوعية وٱلبنيات ٱلذاتية لِلَّذين يكتبون ٱلتاريخ فيُؤكد، من ثم، أن إعادة كتابة ٱلتاريخ لا يُمكن أن تتم من دون ٱستحضار شُروط إمكان "معرفة علمية" بأحداث ٱلماضي ٱلإنساني، بل يؤكد بالأحرى -وهذه هي ٱلخطوة ٱلثانية في فهم تلك ٱلعبارة- أنه حتى إذا ٱفْتُرض أن يُكتَب ٱلتاريخ من قِبَل ٱلضعفاء/ٱلمستضعفين أو من قِبَل مُمثِّليهم، فلن يُكتَب إلا وَفْق ما يسمح به واقع ٱلغَلَبة/ٱلسيطرة كواقع يَحكُمه منطق ٱلقوة ٱلمادية و/أو ٱلرمزية على نحو يجعل كل كتابة تعبيرا عن "إرادة للقوة" بشكل يَنأى بها عن أن تكون فقط إرادةً خالصة ومُخلصة للحقيقة.
من أجل ذلك، فإن ٱلنقاش ٱلذي يبتهج به (وله) بعض ٱلمُتقحمِّين حول إعادة كتابة ٱلتاريخ ٱلعربي/ٱلإسلامي أو ٱلتاريخ ٱلخاص بمنطقة جغرافية معينة (تاريخ شمال أفريقيا أو تاريخ ٱلمغرب) ليس نقاشا يُمكن أن يُخاض عموميا إلا في ٱلمدى ٱلذي يُمكن خوضُه كنقاش خاص ومتخصص كفيل بالتمكين من تفادي ٱلِانزلاق إلى أن يُسطَّر ٱلتاريخ تحت وطأة ٱلغالب/ٱلمسيطر على مستوى "ٱلحس ٱلمشترك"، وهو ٱلِانزلاق ٱلذي يجعل ٱلطمع في ٱلِانفكاك عن أساطير ٱلتاريخ وخُرافاته غير ممكن إلا بأداء ثمن باهظ هو ٱلوقوع تحت طائلة "ٱلفِكْرى" و"ٱلطُّوبى" كما تتجسدّان في توهُّمات وتضليلات هذه ٱلفئة أو تلك، أو ٱنتظارات وتوجُّسات عامة ٱلناس.
ومن ثم، فإن أي دعوة أو محاولة لإعادة كتابة ٱلتاريخ مُطالبةٌ بأن تكون مُؤسَّسة على أحدث مكتسبات ٱلنقد ٱلمنهجي وٱلمعرفي في هذا ٱلمجال بنحو يجعلها قائمة كانعكاسية نقدية تُسائِل كثيرا من ٱلْأَبْنِية ٱلمُسبقة وٱلراسخة ٱلتي تُفلِت -في غياب هذه ٱلِانعكاسية- من كل مُراجعة متفحصة ومُقَوِّمة وٱلتي تتعلق، في آن واحد، ب"ٱلحس ٱلمشترك ٱلعادي" و"ٱلحس ٱلمشترك ٱلعالِم". ذلك بأن هناك كثيرا من ٱلمَقُولات وٱلمفاهيم وٱلصِّيَغ (مثلا: "هُويّة"، "شعب"، "لغة"، "دولة"، "عقيدة"، "وطن"، إلخ.) ٱلتي جَفّ حِبْرُ حروفها من قريب أو لم يَجِفّ بَعدُ وٱلتي تُسقَط ٱستدباريا من دون تَبيُّن على ماض بعيد في تَواريه خلف ٱلأسوار ٱلهشّة وٱلمتحركة للذاكرة الخاصة بكل جيل.
وهكذا، إذا كان ٱلتاريخ ذاكرةً كما يُقال، وكانت "ٱلذاكرة" مزيجا معقدا ومتغيرا من ٱلأفكار وٱلرغبات وٱلأوهام وٱلمخاوف، فإن "ٱلتاريخ" لا يعود مجرد ماض يَحضُر ويُستحضَر بهذا ٱلنحو أو ذاك في مواجهة أخطار "ٱلنسيان" ٱلدائمة، وإنما يصير بالأساس أنواعا من ٱلِاستجابة لمجموع ٱلتصدُّعات وٱلِانقطاعات وٱلإحباطات ٱلتي تُعاش في ٱلحاضر وٱلتي لا تقبل أن تُعطى لها حلول بالاستناد فقط للمعطيات وٱلإمكانات ٱلراهنة، بحيث لا يبقى ثمة خيار سوى ٱلِارتداد بها نحو نظائرها ٱلتي لا تزال أصداؤها مترددةً بين جدران ذاكرة مبنية على رمال متحركة.
ولذلك، فقد يجد ٱلمرء بين رُكام ٱلتاريخ (أو ٱلتواريخ) أي شيء يبدو صالحا لترميم ثُقب في أحد ٱلجدران ٱلمتهاوية للحاضر ٱلمتأزم أو لتثبيت صورة في مُجريات ٱليومي ٱلشديدة ٱلتصرُّم وٱلتفلُّت. ومن هنا، فإن دعوى إعادة ٱلتاريخ لا تُمثِّل على ألسنة وأقلام كثيرين سوى ذريعة للتملُّص من مُواجهة ٱلتأزم وٱلتصرّم على مستوى ٱلحاضر ٱلمعيش، وهي ذريعة تبدو صالحة في ٱلمدى ٱلذي يظن ٱلناس ٱلحاليّون أنهم أشد ٱنفكاكا عن أحداث ٱلماضي من أصحابها وأقدر منهم على فهمها وتفسيرها. غير أن ما يكشف أن ٱلِالتجاء إلى "ٱلتاريخ" على هذا ٱلنحو يفتقد كل تبصُّر إنما هو توهُّم ٱلِانقطاع عن آثار ٱلماضي ٱلمُدمَجة لاشعوريا (آثار لا تتعلق فقط بالماضي ٱلبعيد)، وهو ٱلتوهم ٱلذي يقود إلى إغفال كون "ٱلتاريخ" يُحيط بالإنسان من كل جانب إلى ٱلحد ٱلذي يجعل كل إمكان للانفكاك عنه معلولا لنوع من ٱلسعي لتبيُّن ٱلضرورة ٱلمُلازمة بنيويا للواقع ٱلحاضر بالشكل ٱلذي يسمح بمعرفة أنها لا تَفرض نفسها إلا لكونها تحدَّدت تاريخيا خارج إرادة ووعي ٱلناس ٱلذين لم يصيروا مُنتِجين لها إلا في ٱلمدى ٱلذي يتحدَّدون أيضا كنِتاج لها. فالضرورة ٱلتاريخية وٱلاجتماعية مُلازمة لوجودنا ٱلحاضر كما كانت ملازمة لوجود ٱلسابقين ٱلذين نجد من ٱلسهل أن نصفهم كما لو كانوا مجرد دُمًى بين أيدي أقدار شيطانية، وكما لو أن "مكر ٱلتاريخ" لا يفعل حاضرا ما يصير ماضيا وما سينعكس جليّا في مرايا ٱللاحقين ٱلذين يظنون أنهم يرون ٱلسابقين فيها بوضوح لشدة إعجابهم بأنفسهم أمام أشباح لا تملك -مع ذلك- إلا أن تبدو شاحبة وباهتة في مرايا لا تستطيع بطبيعتها أن تعكس ما صار شديد ٱلبُعد وقوي ٱلغياب على ٱلرغم من أن هذا ٱلبعد وٱلغياب ليس سوى ٱلوجه ٱلآخر للقرب وٱلحضور ٱلمرغوبين وٱلمفقودين في الحاضر نفسه.
ومن ثم، فإن "ٱلإسلامانيين" ٱلمستعدين للدفاع عن كل ٱلتاريخ ٱلذي يُسمّى إسلاميا، و"ٱلمتمزغين" ٱلمندفعين نحو محو كل ألواح ٱلتاريخ ٱلتي لا تأتي على ذكر شيء أمازيغي، لا يفعلون شيئا سوى تأكيد أن ٱلضعفاء/ٱلمستضعفين لا يستطيعون كتابة تاريخهم ٱلفعلي إلا بالإسقاط على تاريخ لا يَخُصّهم وحدهم ولا يتحكمون فيه إلا ظاهريا. وإنهم، بذلك، ليُقدِّمون ٱلدليل ٱلحي على أن «ٱلتاريخ يكتبه ٱلغالِب/ٱلمسيطر»، ليس على أساس وجوب ٱلِاستسلام لنوع من ٱلقدر ٱلوجودي، وإنما لكون منطق ٱلغَلَبة/ٱلسيطرة يَسْري على ٱلحاضر بقدر ما سرى على ٱلماضي، على ٱلنحو ٱلذي يجعل صعوبة ٱلِانفكاك عنه في ٱلواقع ٱلراهن تُؤدي إلى ٱلِاستنجاد ببقايا ماضٍ لا يمكن أن تُستجمَع لتُستحضَر حقيقتُها إلا بالقدر ٱلذي صار ممكنا ٱمتلاك ٱلواقع ٱلحاضر علميا وتقنيا ضمن سيرورة ٱجتماعية وثقافية مشروطة طبيعيا وتاريخيا في إطار مُمكِنات ٱلوضع ٱلبشري في هذا ٱلعالم.
إن ٱلتاريخ ٱلِاجتماعي للأشياء وٱلأحداث على مستوى بشري معين يقود إلى تأكيد ٱلتجذُّر ٱلِاجتماعي لكل ما هو طبيعي في ٱلإنسان ("ٱلجسد"، خصوص كأداة أو آلة للرؤية وٱلتذكر) وتشديد عمق ٱلتفاعل وٱلتداخل بين أنماط إنتاج وإدراك وجوده ٱلِاجتماعي، بشكل يجعل كل حديث أُحادي وجوهري عن "طبيعةٍ" أو "نوعٍ" أو "هويةٍ" أو "لغة" أو "ثقافة" ما ضربا من "ٱلتوهُّم" أو "ٱلتوهيم" ٱلمُعلَّل تاريخيا وٱجتماعيا وٱلمرفوض منهجيا ومعرفيا. ومن هنا، فإن ما ينخرط فيه بيننا كل "ٱلقومانيين" (من ٱلمُتعرِّبين وٱلمُتمزِّغين) أو "ٱلهُوِيّانِيِّين" (من ٱلإسلامانيين وٱلحداثانيين) ليس سوى "فِكْرى" لا يُسوِّغُها إلا غياب ٱلممارسة ٱلعلمية ٱلصارمة في خِضمّ واقع اجتماعي وسياسي يُشجع (ويُكافئ) ٱلميل نحو ٱلسجال بلا قيد ولا شرط.
لذلك، حينما يتعلق ٱلأمر بإعادة كتابة ٱلتاريخ، فإن ٱلِانفتاح على ٱلتجارب ٱلحاضرة في إطار ما يُسمّى "ٱلتاريخ ٱلجديد" (مثلا: بريطانيا، ألمانيا، فرنسا، أمريكا، إسرائيل، ٱلهند) من شأنه أن يؤكد أنه لا سبيل إلى مراجعة أساطير وخرافات ٱلتاريخ ٱلمُكرَّس رسميا ومذهبيا إلا بالانخراط في ممارسة منهجية للبحث ٱلمعرفي، ممارسة مُؤسَّسة علميا ومنفتحة فلسفيا على نحو يجعلها كفيلة ببلورة إجابات ذات كِفاية على مستوى ٱلمعرفة ٱلموضوعية، مما يُعطيها نجاعة على ٱلمستوى ٱلسياسي. ذلك بأن مراجعة ٱلتاريخ لا تقتضي فقط ٱلتأكيد ٱلمُبتهِج وٱلمُبهِج بأن «ٱلتاريخ ليس مجالا للمقدس»، وإنما أيضا وبالأساس تأكيد أن إعادة كتابة ٱلتاريخ ينبغي ألا تكون صادرة عن إرادة لإيجاد نوع من ٱلتبرير يَسنُد توهمات أو توجسات ٱلأجيال ٱلحاضرة. فكما أن ٱلتاريخ ليس مقدسا بالجملة، فإنه ليس ميدانا لحسم حروب ٱلتدنيس على حساب ما كان موضوعا للتقديس من قِبَل ٱلسابقين، لأن "ٱلمُدنَّس" نفسه ليس -في معظم ٱلأحيان- سوى ٱبن غير شرعي ل"ٱلمقدس" باعتبار أننا نجد، من الناحية الأنثروبولوجية والسوسيولوجية، أن «لكل مقدس مُكمِّله ٱلمُدنّس»! ولذا، فإن إعادة كتابة ٱلتاريخ لا تَتَّخذ غرضا لها تدنيس ٱلماضي، بقدر ما تتوخّى تعطيل أشكال وآليات ٱلتقديس ٱلتي لا تزال مشتغلةً في ٱلحاضر حيث يميل ٱلناس -من جراء ذلك- إلى بناء كل ما يحتاج إلى نوع من ٱلشرعية على نظير له في ماض لا تقبل ٱلصفحات ٱلمتبقية منه أن تُبَيَّض إلا حينما تفتقد أعمال ٱلمُسوِّدين في ٱلحاضر كل إمكان لتبييضها، فينبري -من ثم- ٱلمُبْطِلون لغَمْسها في أعمال بعض ٱلسابقين ٱلتي لا تملك هي نفسها -بمقتضى أنها نِتاج للتاريخ- أن تكون بيضاء إلا في عيني من يظن أن ٱلسحر ٱلِاجتماعي ل"ٱلفِكْرى" و"ٱلطُّوبى" من شأنه أن يُحوِّل ٱلعجز ٱلراهن إلى قُدرة مُلهِمة منبعثة من ٱلماضي ٱلبعيد. وبهذا ٱلمعنى، يستطيع ٱلضعفاء وٱلمستضعفون أن يكتبوا ٱلتاريخ "تسطيرا" وليس "تحقيقا"، ما دام وقوفُهم دون ٱستيعاب منطق ٱلغَلَبة/ٱلسيطرة يفرض عليهم -موضوعيا وبنيويا- ألّا يطمعوا في شيء من "مُنجَزات ٱلحاضر" وأن يكتفوا باجترار "أساطير ٱلأولين" ضمن مُغالَبة حكائية مشدودة إلى "ٱلتوهيم" وبعيدة عن إكراهات "ٱلتحقيق" ٱلمرتبطة بالمُغالَبة ٱلعُمرانية ٱلتي من شروطها أن "ٱلتاريخ" لا يُصنَع أو يُكتَب إلا غِلَابًا ومُغالبةً.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.