تتقاذفنا في المغرب الانتماءات الهوياتية وتتنازعنا الأصول بين أمازيغ وعرب وأفارقة وموريسكيين... ومن تفاصيل هذه الأصول تتفرع القبائل حسب الجهات، وتتداخل العائلات وتتمازج. ويكون للانتماء تبعات مجتمعية وتصنيفات بين مواطن مكتمل الحقوق والواجبات، وآخر تحرمه العصبية القبلية والأعراف المرتبطة بها هذه الصفة وتصنفه دخيلا أو غريبا على البنية رغم تقاسم التقاءات في الدين واللغة والانتماء لنفس البلد. وإذا كان مغرب القرن الحادي والعشرين قد قطع مسارا كبيرا في سبيل تغليب المواطنة والانتماء للوطن؛ من خلال تعدد الزيجات بين مختلف الأصول وانتشار المصاهرات المتعددة الأعراق وتغير أنماط النشاط الاقتصادي وانتشار التمدن وغلبة الأنشطة الحضرية وارتفاع مستويات التعليم؛ فإن الحمولة التاريخية لازالت تحمل تبعات ماض قبلي مغرق في الصراعات والدماء والثأر... مناسبة هذا الحديث نقاش ماتع مع أحد المغاربة الفارين من جحيم الحرب الدائرة بليبيا، وحديث مطول مع الوالد حفظه الله حول صراع قبلي تاريخي عاشته قبيلتي أبناء بني السباع. الرابط بين الحديثين هو مفهوم الولاء للقبيلة ومدى ترسخ بنيته الحاضنة. يحكي الصديق الذي نشأ وترعرع في ليبيا ولم يغادرها بصفة نهائية سوى سنة 2019 واشتغل على قضايا السلام فيها، أن العامل المتحكم في رحى الحرب الدائر لا يرتبط ابتداء بدهاليز السياسة وصراعات الثوار وعودة الثورة المضادة والحرب ضد الإخوان المسلمين، بل له علاقة وطيدة بالولاء إلى الانتماء القبلي الذي يسبق الاصطفاف الإيديولوجي. لم تستطع ليبيا الخروج من بنية قبلية امتدت عبر قرون طويلة جعلت العشائر والقبائل والانتماءات فضاءات جهوية تتصارع انتصارا للانتماء لها دونما انصهار في بوتقة الوطن الواحد ليبيا. في المقابل يحكي الوالد عن مخلفات حكم الحديد والنار الذي مارسه القايد إبراهيم المتوكي وقبله والده على قبيلة بني السباع، وأعداد الضحايا من خيرة شباب القبيلة التي مازلت الذاكرة الشفهية تروي قصص الفظاعات التي تعرضوا لها، ومدى المعاناة التي كابدتها القبيلة عبر عشرات السنين... الوالد يحتفظ بهذه الذكريات لأنه خبير بأنساب القبيلة وتاريخها ورجالاتها، لكنه يؤكد في المقابل أن قصصه تظل مقصورة على فئة قليلة وأن التمازج الذي عاشه المغرب ومنطقتنا كجزء من هذا التحول الاجتماعي محا نسبيا من الذاكرة الجمعية تلك العداوة التاريخية بين القبيلتين. تعطي عملية استقراء الواقع القبلي بين المثالين المذكورين فرقا شاسعا بين بنيتين قبليتين كانتا متشابهتين خلال منتصف القرن الماضي، غير أن الواقع القبلي المغربي عرف تفككا بدرجات مختلفة حسب المناطق والأوساط الجغرافية، في مقابل احتفاظ القبيلة الليبية بأدوار الريادة في البنية المجتمعية رغم انتشار مظاهر التمدن والطفرة النفطية. لقد استثمرت الدولة الليبية في عهد الراحل معمر القذافي في البنية القبلية وغذتها ورعتها، بل أقامت توازناتها السياسية والعسكرية بناء على استقطاب قبلي. على النقيض من ذلك، لعبت السلطة أو المخزن في فترة مابعد الاستقلال دورا محوريا في تراجع الاستقطاب القبلي التاريخي. وهكذا خرجت السلطة في المغرب من شكلها القديم رغم احتفاظها بنفس البنية التراتبية وحولت المخزن المرتبط سلفا بالقبيلة إلى إدارة ولاءها للإدارة المركزية الحديثة خارج اعتبارات القبيلة، بل وضعت آليات لتقنين نفوذ الأعيان وإخضاع أعضاء المجموعات السلالية لسلطة الدولة الحديثة. لم يمنع اعتماد الدولة هذا الخيار من استمرار منطق الرعية بعيدا عن المفهوم الحديث والديمقراطي للمواطن، ووجدت في الأوساط القروية موروثا فرديا من الخضوع لسلطة المخزن في شكلها القديم، تم استثماره في تحويله إلى خضوع لشكلها الحديث. ساهمت عدة عوامل في تكريس السلطة المخزنية المتجددة، ومن أهمها البنية القروية لساكنة المغرب والتي تطورت تدريجيا نحو غلبة الحضريين الذين لا يملكون نفس الماضي القبلي مقارنة مع نظرائهم من سكان البوادي، والذين يتوقون لمفهوم المواطنة الحديثة المبنية على الحقوق والواجبات. إن مرور بنية السلطة إلى الشكل الحديث ليس مجرد إعادة هيكلة بسيطة بل هو إعادة لرسم خريطة توزيع السلطة وتقزيم لدور القبيلة بغرض تشكيل دولة حافظت على نفس التقاليد المخزنية، مع تغيير جوهرها وتنظيمها في تراتبية إدارية تتقاطع والحاجة إلى إرساء دولة المؤسسات. لا يمكن لكل ديمقراطي إلا أن يتبنى طرح الولاء إلى الدولة الوطنية، وسمو الانتماء إلى الوطن على باقي الانتماءات العرقية، والتي لا يمكن باي حال من الأحوال إلغاؤها، غير أننا نلحظ تعثر مسار التحول إلى دولة المؤسسات وفق مقومات البناء الديمقراطي الحقيقي. إن تراجع سلطة القبيلة واستمرار سيرورة انصهار المكونات العرقية وذوبانها في قالب المواطنة والانتماء الموحد للوطن لا ينفي عدم استكمال مسار التحول نحو دولة مؤسسات حقيقية تجسد اختيارات المواطنين عبر صناديق الاقتراع، وهو ما يمكن ملاحظته من انتقال العصبية القبلية إلى البلقنة الحزبية، وهذا موضوع يستحق مقالا قادما.