في ندوة بكلية الحقوق السويسي، أطلق محمد الساسي، العضو البارز في حزب فيدرالية اليسار الديمقراطي، تحليلا صادما لواقع الحقل السياسي المغربي.. وكشف الساسي أن ما كان يُعرف ب"جدار برلين المغربي" – الذي فصل لعقود بين الأحزاب التاريخية وأحزاب الإدارة – قد انهار تماما، لتحل محله صورة سياسية جديدة، نظام يشبه "حزبا واحدا"، يتأسس على توافق غير مسبوق حول مركزية الملكية، وتراجع الإيديولوجيا، وصعود البراغماتية بوصفها الإله الجديد. قسم الساسي المشهد الحزبي تاريخيا إلى كتلتين، الأولى تضم "أحزاب الإدارة" التي ترى في الديمقراطية "وصفة قابلة للتخصيص" حسب الخصوصية الوطنية والدينية، ولا تعترض على السياسات الملكية. أما الثانية فهي "الأحزاب التاريخية" أو "الوطنية"، التي شذت في الماضي عن هذه القاعدة، كما ظهر في مواقف صحف مثل "الاتحاد الاشتراكي" و"العلم"، أو في تصريحات قيادات مثل عبد الرحيم بوعبيد. لكن الساسة أكد أن هذا التمايز التاريخي أصبح من الماضي. "سقط الجدار، وتلاشت الفروقات"، بحسب تعبيره. لم يعد الصراع بين يمين ويسار، ولا بين تاريخي وإداري، بل صار هناك "تماه متبادل" وتأثير متداخل بين المجموعتين، نتج عنه إجماع واسع على "السيادة الملكية" كمرتكز ثابت، سواء عبر مفهوم "إمارة المؤمنين" أو فكرة "الملك قائد المشروع الديمقراطي الحداثي". وأشار محمد الساسي إلى تحول جوهري في أهداف الأحزاب التاريخية، التي انتقلت من حلم "أول الحكم" إلى الرضا ب"المشاركة في الحكم" ثم إلى "التدبير" اليومي. وأصبح "البقاء في الحكومة" هو الأولوية المطلقة للجميع، حتى لو كان الثمن التنازل عن قضايا استراتيجية، مثل قضية التطبيع أو النضال من أجل الديمقراطية. "أصبحنا أمام حكومة ثلاثية شبه دائمة، والكل مستعد للتنازل"، كما قال. ولفت إلى مفارقة لافتة: "في العالم، يحلم كل حزب بتحويل برنامجه إلى برنامج دولة. في المغرب، يحلم كل حزب بتلائم برنامجه مع برنامج الدولة القار". وأبرز الساسي تحولا آخر يتمثل في تحول المعادلة من ثنائية إلى ثلاثية بظهور "الفاعل الإسلامي" كقوة أساسية. ولفت إلى أن قوة هذا الفاعل تكمن في بساطة خطابه، ومسايرته للحس العام، وشبكته الدعوية والخيرية، وادعائه الدفاع عن الهوية. لكنه يحمل أيضا نقاط ضعف، مثل الفجوة بين الخطاب المكتوب والشفوي، وتحديات الجمع بين مقاليد الحكومة والبرلمان. وسلط الضوء على تحولات كبرى تطال الخطاب والممارسة، و تراجع الخطاب الوطني والإيديولوجي لصالح خطاب براغماتي، وانتقال خطاب "حماية الملكية" إلى الحديث عن "حماية منجزاتها والأوراش الملكية". كما تغيرت مصادر القوة، فأصبح "القرب من النظام" هو المدخل الرئيسي لها. ولم تعد الأحزاب تواجه بعضها فقط، بل باتت أمام منافسين جدد غير حزبيين: الحركات الاجتماعية، و"الفضاء الأزرق" (الإعلام الرقمي)، والتنسيقيات. كما برز نمط جديد من القيادات "الشعبوية"، التي تعتمد خطاب المظلومية والبحث المباشر عن الشعبية. واختتم الساسي تحليله بالإشارة إلى أن الدولة أصبحت هي من "يصلح" بنية الأحزاب عبر القوانين، وليس العكس. كما لاحظ أن التحالفات السياسية فقدت ثباتها، فأصبح "الجميع يتحالف مع الجميع" داخل الحكومة، حتى تلك التحالفات التي كانت تعتبر غير طبيعية في الماضي..النتيجة، وفق تحليله، هي مشهد حزبي مغربي "هجين"، يتحرك بشكل جماعي نحو نموذج يشبه الحزب الواحد ذا التلوينات المتعددة، في ظل هيمنة البراغماتية وتراجع الإيديولوجيا، بينما يترقب الجميع تأثير هذا التحول الكبير على مستقبل الديمقراطية والتعددية في البلاد