يوم بيوم نور الدين مفتاح يكتب: موت يغيظ العِدَا نور الدين مفتاح نشر في 19 يونيو 2025 الساعة 15 و 50 دقيقة بعد صمت متواطئ طويل، وتعتيم مقصود، بدأت وسائل إعلام غربية تنقل صورة ما يجري داخل غزّة. وهكذا خصصت قناة «إل.سي.إي» الإخبارية الفرنسية ليلة السبت ربورتاجا وافيا عن الأوضاع في القطاع المحاصر، ورسمت صورة التجويع والقتل، من خلال مراسلين محليين متعاونين معها، وأكدت أن السلطات الإسرائيلية ومنذ سنة وثمانية أشهر وهي تمنع منعا كليا وسائل […] نور الدين مفتاح [email protected]
بعد صمت متواطئ طويل، وتعتيم مقصود، بدأت وسائل إعلام غربية تنقل صورة ما يجري داخل غزّة. وهكذا خصصت قناة «إل.سي.إي» الإخبارية الفرنسية ليلة السبت ربورتاجا وافيا عن الأوضاع في القطاع المحاصر، ورسمت صورة التجويع والقتل، من خلال مراسلين محليين متعاونين معها، وأكدت أن السلطات الإسرائيلية ومنذ سنة وثمانية أشهر وهي تمنع منعا كليا وسائل الإعلام الدولية من دخول غزة. وقالت مقدمة الربورتاج إن هناك 124 طلبا من قنوات عالمية لدى سلطات الاحتلال لم يتم التجاوب مع أي منها. وحتى وإن حاول الربورتاج أن يكون متوازنا، بحيث نقل جزءا من الدمار والجوع في غزة مقابل جزء من البنايات التي ما تزال واقفة وبعض باعة الخضر والخبز، إلا أنه مع هذا الجهد التخفيفي كانت المشاهد تنقل يوم قيامة لا غبار عليه.
رغم ذلك، وبعد العودة من الربورتاج إلى البلاطو، كان تركيز الزميل مسؤول القسم الدولي في القناة، على مدى صحة ما تنقله وسائل الإعلام من فظاعات في غزة، بمعنى أنه إذا لم تكن هناك كاميرات غربية فكل شيء مشكوك فيه!! كما ركز على مظاهرة من بضع عشرات من الغزيين الذين يتظاهرون ضد حماس، وكأن هذه هي القصة! ولا تعليق على هذا العقاب الجماعي الذي جرف لحد الآن أكثر من 52 ألف شهيد أغلبهم أطفال ونساء، و125 ألف جريح لا توجد أسرة في المستشفيات لمداواتهم. وأما الباقي فهم مجوَّعون مع سبق الإصرار والترصد تماشيا مع المنطق المعلن منذ اليوم الأول بعد 7 أكتوبر 2023: «الفلسطينيون حيوانات وسنعاملهم على هذا الأساس»!!
بغض النظر عن هذه الملاحظات، يبقى هذا الربورتاج، وبعض الصور المنقولة هنا وهناك مؤشرا على تململ محمود بعد طول جمود لإعلام غربي، لو أنه مُنع من دخول بلد آخر دون ما تتحكم فيه إسرائيل، لأقيمت الدنيا ولم تقعد. إعلام منحاز يكاد يرى في القضية الفلسطينية مجرد تهديد لأمن إسرائيل، وفي كل مقاومة إرهاب، وفي كل شرق أوسطي مشروع مدان إلى أن تتم تبرئته.
وعندما يتم المس بصحافي غربي فكأنه تم المس بهم جميعا، وعندما يُقتل الصحافيون الفلسطينيون فكأنهم أعراض جانبية للحرب. أكثر من مائتين من الزملاء في غزة قتلوا شهداء للكلمة الحرة ونقل الحقيقة، ولكن لأن القاتل هو إسرائيل فكأن القتلى ذباب كان يحمل مكروفونات! إنها منظومة متناسقة في الغرب، الحكومات ووسائل الإعلام واللوبيات الصهيونية وسيف ديموقليس المسلط على رقاب من ينتقد إسرائيل هو «معاداة السامية».
وعلى رأس هذا الغرب، هناك بطبيعة الحال واشنطن التي لم يسبق أن شهدت رئيسا في بيتها الأبيض بهذا الشكل «الترامبي» الفاقع. لقد تم فصل السياسة ليس عن الأخلاق ولكن عن مجرد التبريرات الأخلاقية، وفصل الحكم عن الثقافة، وطويت صحائف التفكير الاستراتيجي، ورُميت حقوق الإنسان في أول قمامة، ورفع على القبعات شعار السياسة هي الصفقات.
ترامب أطلق يد حكومة التطرف الصهيوني كما لم يطلقها رئيس أمريكي سابق. كلهم كانوا رعاة لإسرائيل، ولكن ترامب كان ملهما للجبروت والطغيان، فلم تكن تدور في خلد نتنياهو ولا وزيريه المتطرفين بن غفير وسموتريتش فكرة تهجير سكان غزة إلى أن ألقى بها ترامب هكذا دون تمحيص في لقاء من لقاءاته الاستعراضية بالبيت الأبيض، فتم نقض كل الاتفاقات السابقة مع حماس التي بدأت بوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى وكانت ستنتهي بإنهاء الحرب، وتم التخلص من كل شبه عاقل في القيادة الإسرائيلية من رئيس أركان الجيش ورئيس الشاباك، وتم تعيين متطرفين شنوا حربا جديدة أصبح هدفها هو احتلال غزة وتهجير سكانها، وترامب يساند.
لقد قال الرئيس الأوكراني فولوديمير زلينسكي نهاية الأسبوع «إن منظومة دفاع جوية أمريكية كانت مخصصة لبلادنا قد تم تحويلها للشرق الأوسط»! والغريب أن روسيا وصلت هذا الأسبوع إلى حدود غير مسبوقة في حربها العدوانية ضد أوكرانيا، وما تزال تحتل أراضي بلد مستقل، وترامب يعاقب المعتدى عليه بالتماطل بل وبتحميله المسؤولية لأنه لا يريد أن يتخلى عن أراضيه مقابل سلام الجبناء!
وعندما قال زلينسكي لترامب إنه إذا سقطت أوكرانيا فالدور سيأتي على أوربا وأمريكا، نهره الرئيس ونائب الرئيس في مشادة تاريخية بالبيت الأبيض أمام كاميرات العالم! والواقع أن زلينسكي على صواب، وأوروبا اليوم على أبواب خطر حرب غير مسبوقة، والمظلة النووية الردعية الأمريكية التي كانت تعول عليها في مواجهة الدب الروسي طارت، ولم تبق إلا مظلة فرنسا المتمايلة.
ودخل الأمن العالمي في سيرك لا تحكمه لا أفكار ولا بعد نظر ولا رؤية استراتيجية، بل يحكمه جنون كاد في ولاية ترامب الأولى أن يؤدي إلى إنزال الجيش الأمريكي إلى الشارع لقمع مظاهرات مدنية سلمية، عقب مقتل المواطن الأمريكي الأسود جورج فلويد، وهو ما يعيده اليوم بإرسال المارينز إلى لوس أنجلس. وكاد أيضا بعد فوز جو بايدن والهجوم على الكونجرس أن يؤدي إلى حرب أهلية، ويكاد اليوم أن يشعل حربا عالمية ثالثة بعدما تم فعليا إطلاق الحرب العالمية التجارية الأولى في التاريخ!
في هذا الجنون، تعتبر غزة كنقطة قد يداس على مليونين من سكانها بجرة مزاج ويتم محوهم من الخريطة مع قهوة صباح!
ومن مظاهر عدم عقلانية ما يجري تحت يافطة «أمريكا أولا» و «عظمة أمريكا» هو ما حدث الأسبوع الماضي بين دونالد ترامب وصديقه الأقرب أغنى أغنياء العالم إيلون ماسك الذي يزن أكثر من 400 مليار دولار. لقد جند ماسك كل طاقته، بما في ذلك منصة «تويتر x» التي يملكها وملاييره لدعم ترامب في حملته الانتخابية. وبعد نجاح هذا الأخير عينه الرئيس في منصب غريب هو ترشيد الإدارة، وهو بدوره عين شبانا يعتقد أنهم عباقرة أعمارهم لا تتجاوز العشرينات، ودخلوا إلى كل حسابات الإدارات وباشروا القطع في الميزانيات. وهذا بالطبع جعل وضعية هذا الملياردير شاذة، فهو ليس جزءا من الإدارة، ولم يصادق الكونجرس على تعيينه، وهو في نفس الوقت أعلى رتبة من الوزراء! بل إن الذين ظلوا يتابعون الأنشطة الرئاسية وقفوا على عجائب من مثل وقوف ماسك مع الرئيس في البيت الأبيض وابنه على كتفيه، أو كتابته لتغريدات يسب فيها رؤساء دول وينحاز لتنظيمات سياسية كما فعل في الانتخابات الألمانية.
هذا الغرام والهيام سيتحول إلى اصطدام بين الرجلين، وبدل أن يجمع كل واحد حقيبة العلاقة ويرحل، فجر ماسك القنبلة تلو الأخرى، وعاد لإثارة قضية أبستين ملمحا إلى تورط ترامب فيها. وللذين يريدون معرفة خطورة هذه القضية أن يشاهدوا سلسلة «جيفري أبستين : سلطة ومال وانحراف» على نتفليكس. لقد كان هذا الرجل ذا نفوذ واسع وله علاقات مع كبار العالم، وكان يجلب القاصرات إلى حفلات أصدقائه، وقد توبع من طرف القضاء الأمريكي وانتحر في سجنه، وكانت تحوم شكوى حول تورط ترامب معه.
ألم يكن ماسك يعرف هذا عندما ساعد بشكل رئيسي على انتخاب ترامب لقيادة أقوى دولة في العالم؟
المهم أن المسلسل بدأ للتو، وهناك انتخابات نصفية للكونجرس وقد يفقد ترامب أغلبيته في مجلس النواب وماسك يلوّح بتأسيس حزب جديد.
إن أسرار هذا الصعود غير المسبوق لمثل هذا النموذج من الحكام أكبر مما نشر الآن مع أول اصطدام. وعلى الذين يريدون أن يعرفوا حقيقة الكوارث التدبيرية وطريقة حكم ترامب أن يقرأوا كتاب «الحرب» للصحافي العالمي بوب وودوارد مفجر فضيحة «ووترغيت». فبعد الانتهاء منه سيضع العاقل يده على قلبه ويدعو الله أن يحفظ هذه الكرة الأرضية التي يلعب بها رجل يهابه العالم اليوم، بالضبط لجنونه.
ولكن، ماذا استطاع أن يفعل هذا النرجسي المندفع؟! قال إنه بمجرد انتخابه ستتوقف الحرب الروسية الأوكرانية، وها هي قد حمي وطيسها. وقال إنه سيركع أوربا والصين بالرسوم الجمركية وها هو يتراجع ويفاوض. وقال إنه سيبتلع كندا وها هي كندا في معافاة مع رئيس وزراء جديد، وقال نفس الشيء عن باناما وها هي باناما بخير، وقال إنه سيضم جزيرة غرينلاند التابعة للنرويج، وها هي الجزيرة حرة رابحة لأنها استفادت من لفت انتباه السياح إليها. وقال إنه سيهجّر سكان غزة إلى الأردن وسيناء مصر وها هم السكان صامدون منتصبون كوصمة عار في جبين أمريكا والغرب المساندَين للطغيان الإسرائيلي.
الشيء الوحيد الذي نجح فيه ترامب هو صفقات الخليج، لقد وعد ووفى وحمل 3 تريليون دولار من جدة والدوحة وأبوظبي دون مقابل، ولو حتى تنازل لإدخال شاحنات غذاء ودواء إلى الجوعى والمرضى في غزة.
رغم كل هذا الذي نراه، هناك عالم آخر يراه ترامب من منتجعه بمارالاغو، فيتصور أنه هبة من الله، وأنه قدر مدَّخر للبشرية، حيث نجا بأعجوبة من رصاصة مصوبة على رأسه بدقة، ولذلك أصبح يبدأ اجتماعاته بصلوات يتلوها راهب. وكل قتل أو تجويع أو إبادة جماعية، فهي من أجل الرب ومن أجل السلام!
مازال على العالم أن ينتظر 3 سنوات ونصف السنة قبل نهاية ولاية الجنون الرئاسية. والناس صنفان: فإما «اللي خاف نجا» وإما ما قاله الشاعر الفلسطيني الشهيد عبد الرحيم محمود: سأحمل روحي على راحتي وألقي بها في مهاوي الردى فإما حياةٌ تسرّ الصديق وإما ممات يغيظ العدا.