يحكي أحمد رضى اكديرة في كتاب «مغرب الحسن الثاني» بأن الأمير مولاي الحسن اعتبر تأسيس حكومة يسار برئاسة عبد الله إبراهيم، تولى فيها بوعبيد منصب نائب رئيس الوزراء، خطرا». وسيزيد صديق الملك الراحل و مدير ديوانه في الشرح، موضحا أن «الخطر كان يكمن في حكومة عبد الله إبراهيم»، على اعتبار أن الأمر يتعلق بحدث من أحداث عالم الخمسينيات والستينيات الذي كان خاضعا بقوة لتيار اليسار. «وبسرعة أظهرت التدابير الأولى لحكومة اليسار، على الصعيد الاقتصادي وكذا السياسي، نوايا أصحاب هذه التدابير وحوافزهم، مما جعل ولي العهد الأمير مولاي الحسن يشكل مجموعة قوية حوله، تتكون من الشخصيات الأكثر تمثيلية، وهي عناصر منتمية أو غير منتمية للأحزاب الأخرى. هكذا نظمت معارضة حقيقية أدت إلى سقوط حكومة عبد الله إبراهيم». وما كان يعتبره اكديرة قرارات خطيرة على مستوى التدبير الاقتصادي والمالي لحكومة عبد الله إبراهيم هو ما قاله عنه محمد الخامس في خطاب تدشين بنك المغرب يوم الخميس 2 يوليوز1959 «ويطيب لنا بهذه المناسبة أن ننوه بوزير اقتصادنا عبد الرحيم بوعبيد الذي ما فتئ يبرهن على كفاءته ومقدرته منذ أن أوليناه ثقتنا وأسندنا إليه تدبير ماليتنا، وتسيير سياستنا الاقتصادية». لذلك لم تكن الخلفيات التي حركت الأمير مولاي الحسن لدفع والده إلى اتخاذ قرار إعفاء عبد الله إبراهيم وإسقاط حكومته، غير طموح أميري بمعية بطانته لتولي شؤون البلاد. وبموازاة هذا الشق الاقتصادي لحكومة عبد الله إبراهيم، كان هناك شق سياسي يشرحه أحمد رضا اكديرة في نفس المؤلف، حيث يوضح أن «التيار اليساري بالذات لم يكن إلا شكلا من أشكال رد الفعل ضد الإمبريالية.. لذلك لم يختف التيار اليساري بما له من قوة ضاربة وبما كان عليه من تنظيم سياسي، وبما له من أنصار جد متمركزين وجد منظمين». لقد نجح الأمير في إسقاط الحكومة، بعد أن اعتمد في حربه على عدد من المقربين منه، خصوصا من داخل حزب الاستقلال الذي وجد الفرصة مواتية لرد دين سابق. ولم يكن غريبا أن صحافة حزب الاستقلال هي التي تولت أمر الهجوم على كل ما كانت تحمله الحكومة من مشاريع. وشكلت أسبوعية «ليفار»، التي أسسها أحمد رضا اكديرة، ثم أسبوعية «الأيام»، ما سيطلق عليه سياسيا أدوات حكومة الطابور الخامس، لدرجة أن علال الفاسي ظل يكتب افتتاحيات «الأيام»، التي ستغلق صفحاتها مباشرة بعد أن سقطت حكومة عبد الله إبراهيم. وبحلول يوم الخميس19 ماي 1960، كان القرار الملكي بالإقالة. يحكي عبد الوهاب بن منصور، مؤرخ المملكة وقتها، في كتابه عن الحسن الثاني وبتفصيل عن لحظة اتخاذ القرار من قبل محمد الخامس: «ترأس الملك عشية الأحد 22 ماي جلسة عمل بقاعة الأكل الكبرى، وبعد غروب الشمس بقليل بينما نحن غارقون في المناقشات، استأذن على جلالة الملك مدير ديوانه السيد أحمد الحمياني فأذن له، فلما دخل قال للملك إنه جاء يبلغه رسالة من خدام أوفياء، مخلصين، أذكر منهم السيد محمد لغزاوي، أمحمد الزغاري، السيد عبد الكريم بن جلون والسيد عبد الرحمن بن عبد العالي، وبدأ يشرح له موضوع الرسالة، الذي هو التماس من جلالته بأن يبقى هو وولي العهد بعيدين عن مباشرة الحكم والسلطة اجتنابا للانتقادات التي توجه عادة بحق أو بباطل إلى كل من يمارس الحكم. وفجأة رأينا قوى الملك تنهار ولونه يتغير.. فلما عاد إلى الجلسة كان التعب لا يزال باديا على محياه، ولكن مولاي أحمد العلوي أطلق كعادته نكتة لاشعورية وهو يعلق على الرسالة التي جاء يبلغها مدير الديوان الملكي، محت العبوس والتجهم من وجه الملك وأحلت محلها البسمة والإشراق، واستؤنفت المناقشات بعدها فوقع الاتفاق على أن يستبدل بعبارة «والحكومة التي سنرأسها» عبارة «والحكومة التي سنرأسها ويكون ولي عهدنا نائبا عنا في تسييرها».» ويذكر الأستاذ عبد الوهاب بن منصور أسماء من كانوا حول الملك في تلك اللحظة، وهم الأمير مولاي الحسن بن إدريس، محمد عواد، مولاي أحمد العلوي ومؤرخ المملكة عبد الوهاب بن منصور. لقد نجحت حكومة «الطابور الخامس» في مهمتها، وكانت تتكون أساسا من الأمير مولاي الحسن، وصديقه أحمد رضا اكديرة، وأحمد الغزاوي، وإدريس المحمدي، وامحمد باحنيني، وأحمد العلوي، والجنرال الكتاوي، والكولونيل أوفقير آنذاك، وغيرهم كثير، سيفتضح أمرهم لاحقا. لقد تشكلت هذه الحكومة مباشرة بعد الأيام الأولى على تعيين حكومة عبد الله إبراهيم، وكانت مهمتها هي إسقاطها باستعمال كل وسائل العرقلة والمناهضة والتنغيص والهدم والطعن من الخلف بنصب المكائد ووضع الدسائس. ومما سهل مأمورية الحكومة الموازية أن ولي العهد الأمير مولاي الحسن كان يشرف على القوات المسلحة الملكية ومختلف أجهزة الأمن والمخابرات. وقد كانت علاقاته متينة مع أغلب المتحكمين في الإدارة، إذ اخترقت صلاته كل دواليب الدولة، في حين لم يكن يحظى عبد الله إبراهيم، رئيس الحكومة، إلا بدعم نسبي جدا من طرف حزب الاستقلال والنقابات والاتحاد الوطني لطلبة المغرب. كما لم ينس الأمير أن حكومة عبد الله إبراهيم، وفي مقدمتها وزير الاقتصاد عبد الرحيم بوعبيد، رفضت أداء بعض الديون التي كانت قد تراكمت على الأمير وهو في باريس، حيث كان قد فتح مكتبا استشاريا لدعم القضية الوطنية خلال فترة المفاوضات حول الاستقلال. وقد ظل ولي العهد الأمير يعتبر نفسه مهندس العودة من المنفى، مما جعل والده ينظر إليه نظرة أخرى. لذلك راح الأمير، بعد هذه الصفقة، يطالب بالرفع من مصروفه، وهو وقتها في باريس، بعد أن فتح في العاصمة الفرنسية مكتبا كان يجري من خلاله اتصالاته مع الجهات النافذة. وهو المكتب الذي كان عليه أن يؤدي أجور تلك الشخصيات السياسية والإعلامية والأمنية التي كانت تشتغل على الملف المغربي. لقد طلب محمد الخامس من وزراء حكومته أن تصرف للأمير مولاي الحسن ما يحتاجه لكي يستمر هذا المكتب في أداء مهامه، وإلا فسدت كل الأشياء التي كسبها المغرب. غير أن بعض الوزراء تحفظوا على الأمر حينما اكتشفوا أن ديون الأمير لم تكن فقط بسبب هذا المكتب وأجور الأمن والمخابرات التي اخترقها، وإنما لأن الأمير دخل في جملة من الصفقات والامتيازات لفائدة شركات فرنسية وأمريكية. بالإضافة إلى أنه ظل يدعو من يشاء إلى المغرب من خلال رحلات نظمت لفائدة أصدقائه من النساء والرجال، مما رفع الكلفة عاليا. والحصيلة أن حكومة بداية الاستقلال ستكتشف بأن ذلك «الصندوق الأسود» الذي ستصرف منه ديون ولي العهد، لم يكن يتوفر إلا على ثلاثين ألف دولار، وتلك كانت مجرد قطرة في بحر ديون الأمير. هكذا سقطت أول حكومة وطنية في تاريخ المغرب الحديث لتأخذ الملكية بزمام الأمور بعد أن أصبح الأمير مولاي الحسن نائبا لوالده في الحكومة التي تلت، مما يعني أنه هو من أصبح يمتلك كل السلط بيده، قبل أن يصبح ملكا بعد وفاة والده محمد الخامس.