مقرب من رئيس مجلس النواب ل"گود": التمثيل النسبي والدستور كيعطي الحق للاتحاد الاشتراكي لرئاسة لجنة العدل والتشريع    عطل الزمن التشريعي.. هذه كواليس الصراع حول رئاسة لجنة العدل والتشريع    هذه مخرجات اجتماع برلماني مع الوزير ميراوي بشأن أزمة طلبة الطب    المغرب داير اتفاقيات مع روسيا وضد الحصار اللي باغي يديرو عليها الغرب. ها اش وقع معانا    ها أول تعليق رسمي ديال إيران على "الهجوم الإسرائيلي"    رئيس نادي المحامين بالمغرب: احتجاز بعثة نهضة بركان قد يعرض الجزائر لعقوبات قاسية من "الفيفا"    أنگولا ربحو مصر وتأهلو لفينال كوب دافريك للفوتسال    جريمة قتل تستنفر أمن الرحمة جنوب الدار البيضاء    دركي يطلق الرصاص على كلب لإنقاذ قاصر مختطفة    المعرض الدولي للكتاب.. بنسعيد: نعمل على ملائمة أسعار الكتاب مع جيوب المغاربة    مؤشر ثقة الأسر المغربية في وضعها المالي يتحسن.. وآراء متشائمة في القدرة على الادخار    نشرة إنذارية.. أمطار ورياح قوية غدا السبت بعدد من مناطق المملكة    الوكيل العام يثبت جريمة الاتجار بالبشر في ملف التازي وينفي التحامل ضده    "لارام" و"سافران" تعززان شراكتهما في صيانة محركات الطائرات    وزارة الصحة تكشف عن حالة وفاة جديدة بفيروس كورونا    تعرض الدولي المغربي نايف أكرد للإصابة    مجلس النواب يعقد جلسة لاستكمال هياكله    "إعلان الرباط" يدعو إلى تحسين إدارة تدفقات الهجرة بإفريقيا    ارتفاع كبير في أسعار النفط والذهب عقب الهجوم على إيران    موعد الجولة ال27 من البطولة ومؤجل الكأس    بورصة الدار البيضاء تفتتح التداولات بارتفاع    قرار جديد لوزارة الصحة يرفع سعر دواء للسرطان بنحو 973 درهم    حماية المعطيات الشخصية تذكر بشروط تثبيت كاميرات المراقبة في أماكن العمل    طوق أمني حول قنصلية إيران في باريس    السجن المحلي الجديدة 2 ترد على ادعاءات سجين سابق تقول ب "تجويع السجناء"    سيول: راغبون في مشاركة المغرب بالقمة الكورية الإفريقية الأولى    وفاة الفنان المصري صلاح السعدني عن 81 عاما    الجزائر تبرر طرد صحافي بمواقف جون أفريك    المكتب التنفيذي ل"الكاف" يجدد دعمه لملف ترشيح المغرب وإسبانيا والبرتغال لتنظيم مونديال 2030    بسبب فيتو أمريكي: مجلس الأمن يفشل في إقرار العضوية الكاملة لفلسطين في الأمم المتحدة    سفيرة المغرب بإسبانيا تتحدث عن سبب تأخر فتح الجمارك بباب سبتة    قبل مونديال 2030.. الشركات البرتغالية تتطلع إلى تعزيز حضورها في السوق المغربية    "ميتا" طلقات مساعد الذكاء الاصطناعي المجاني فمنصاتها للتواصل الاجتماعي    توقعات أحوال الطقس ليوم غد السبت    في تقليد إعلامي جميل مدير «الثقافية» يوجه رسالة شكر وعرفان إلى العاملين في القناة    طنجة .. توقيف ثلاثة أشخاص لإرتباطهم بشبكة إجرامية تنشط في المخدرات    صورة تجمع بين "ديزي دروس" وطوطو"..هل هي بداية تعاون فني بينهما    منظمة الصحة تعتمد لقاحا فمويا جديدا ضد الكوليرا    السودان..تسجيل 391 حالة وفاة بسبب الاصابة بمرضي الكوليرا وحمى الضنك    باستثناء الزيادة.. نقابي يستبعد توصل رجال ونساء التعليم بمستحقاتهم نهاية أبريل    التراث المغربي بين النص القانوني والواقع    المدير العام لمنظمة "FAO" يشيد بتجربة المغرب في قطاعات الفلاحة والصيد البحري والغابات    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية اليوم الجمعة    أخْطر المُسَيَّرات من البشر !    مهرجان خريبكة الدولي يسائل الجمالية في السينما الإفريقية    ورشة في تقنيات الكتابة القصصية بثانوية الشريف الرضي الإعدادية بجماعة عرباوة    ضربات تستهدف إيران وإسرائيل تلتزم الصمت    "الكاف" يحسم في موعد كأس إفريقيا 2025 بالمغرب    نصف نهائي "الفوتسال" بشبابيك مغلقة    الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم يطالب بفرض عقوبات على الأندية الإسرائيلية    بيضا: أرشيف المغرب يتقدم ببطء شديد .. والتطوير يحتاج إرادة سياسية    "قط مسعور" يثير الرعب بأحد أحياء أيت ملول (فيديو)    الانتقاد يطال "نستله" بسبب إضافة السكر إلى أغذية الأطفال    قبائل غمارة في مواجهة التدخل الإستعماري الأجنبي (6)    الأمثال العامية بتطوان... (575)    هاشم البسطاوي يعلق على انهيار "ولد الشينوية" خلال أداء العمرة (فيديوهات)    الأمثال العامية بتطوان... (574)    خطيب ايت ملول خطب باسم امير المؤمنين لتنتقد امير المؤمنين بحالو بحال ابو مسلم الخرساني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الرواية المغربية والسياسة..هل يتعانق المتخاصمان؟
انتقد بعض كتابها الوضع القائم وتحاشاها آخرون للتأشير على غياب الديمقراطية
نشر في المساء يوم 30 - 04 - 2014

كيف تعامل الكتاب المغاربة مع السياسة في كتاباتهم؟ وهل هناك من يرى أن هؤلاء الكتاب ينشغلون بالقضايا الاجتماعية وينسون السياسة وشجونها لعدم خبرة الكثير منهم بالميدان وعدم انخراطهم في الإطارات الحزبية وما شابهها؟ ثم أليس عدم الاهتمام هذا مؤشر قوي على غياب الديمقراطية بالبلد؟ هذه جملة من أسئلة طرحتها "المساء" على كتاب ونقاد مغاربة. هنا ملف شامل في الموضوع.
محمد برادة: الرواية هي ملتقى كل العناصر التي تجعل من المرء إنسانا
أنا لا أميل إلى تصنيف الرواية على أساس الثيمات والموضوعات العامة، أي تصنيفها إلى تاريخية وعاطفية وسياسية...لأن الرواية تتناول موضوعات متداخلة، يمتزج فيها التاريخ بالحياة اليومية، والعاطفة بالجنس، والسياسة بالسلوك الاجتماعي. ومثلما أن الحياة قائمة على هذا التجاور بين المجالات والخطابات والعواطف والأفكار، فإن الرواية هي ملتقى كل العناصر التي تجعل من المرء إنسانا...صحيح أن بعض الموضوعات قد تغلب أحيانا، ولكن ذلك لا يعني أن على النقد أن يختزلها في ثيمة واحدة، لأن هذا الاختزال سيجعل الفهم سطحيا وغير حامل للتعقيد المرافق دوما للمشاعر والسلوك والمواقف. من هذه الزاوية، يمكن القول بأن جميع الروايات تشتمل على عناصر سياسية تتعلق بوضعية الشخصيات ضمن سياق معين، حتى لو لم يكن الخطاب يحيل على أحداث سياسية بارزة في المجتمع. أضرب مثلا من روايتي «حيوات متجاورة»، حيث تبدو نعيمة آيت الهنا بعيدة عن السياسة بحكم نشأتها وتطلعها إلى نموذج أوروبي في العيش والرفاهية؛ لكن سياق مجتمعها يضطرها إلى أن تصبح مشرفة على شبكة لبيع المخدرات، ويؤول بها الأمر إلى السجن، فتكتشف نماذج أخرى من النساء. وعلى هذا النحو، تصبح السياسة عنصرا مكملا لفهم أوضاع المجتمع وصراعاته؛ لأن السياسة في معناها العميق هي ملامسة طرائق التدبير وتنظيم العلائق بين الأفراد والمؤسسات. إلا أن رسم مسار حياة نعيمة في جوانبه المختلفة هو ما يعطي الرواية طابعها الشمولي، الحياتي.
أما عن علاقة الديمقراطية بالرواية، فأظن أن نضج الروائي هو الذي يتيح له أن يتابع تجليات الديمقراطية أو غيابها من خلال التفاصيل، ومن خلال بناء النص الروائي، حيث يكون تعدد الأصوات والخطابات مظهرا أوليا لتجسيد الصراع الديمقراطي. من هذه الزاوية، يصبح المقياس هو عمق الكاتب الروائي ووعيه بإمكانات الرواية في التعبير عن مختلف الظاهرات الاجتماعية. لذلك لم يعد بإمكان السلطة أو الرقابة أن تمنع كاتبا من أن يعبر عن أي موضوع شاء، فتصبح الجودة الفنية هي المقياس لما يضيفه من خلال روايته؛ ودائما هناك وسيلة للتغلب على الرقابة؟
بعبارة إجمالية، فإن عدم انتماء الروائي إلى حزب أو منظمة، لا يمنعه من أن يوظف السياسة في كتابته إلى جانب عناصر أخرى. كذلك، فإن غياب الديمقراطية لا يمنع من ظهور السياسة في الرواية، بل هو يحرض عليها؛ لكن الشرط الأهم هو نضج الروائي وثقافته.
حليفي: هاجس الروائي ليس هو السياسة بقدر ما هو الرواية أولا وأخيرا
إنّ التعبير السردي هو الأقدر على الخوض في السياسة بشكل تخييلي خلف أقنعة فنية عديدة. وأرى أن هناك قاعدة أساسية للحديث عن هذا التلازم، وهي أن تُعالج الرواية الوضع السياسي برؤية فنية من زوايا مختلفة.. فهاجس الروائي ليس هو السياسة بقدر ما هو الرواية أولا وأخيرا.. أما السياسة فهي رؤية وخطاب يشتبك مع خطابات أخرى ضمن قصة وحكاية. وبخصوص الرواية المغربية أرى أن الروائي المغربي في سياق انتمائه -تعاطفا- مع اليسار في ظروف العقود الثلاثة التي تلت الاستقلال كانت نبرته الروائية انتقاديه للذات والمجتمع، لا تقترب بشكل مباشر – كما فعل الشعر مع بعض الشعراء – ولكن يمكن تأويلها في هذا الاتجاه بشكل غير مباشر.
أعتقد أن الروائي لو أصبح سياسيا محترفا لن يستطيع كتابة نص روائي بمواصفات فنية. ممارسة السياسة عندنا قد تفسد الذوق الفني لأنها تتحول إلى حرب أو حروب لا نهاية لها. أرى أن الروائي المغربي له خبرة فطرية وجمالية بالسياسة، لذلك يُدمجها في نص يبدو المهيمن فيه هو الذاتي والاجتماعي. ألا ترى أن كتابات زفزاف وشغموم، وخصوصا محمد برادة في عمله الأخير وقبله في «امرأة النسيان»، وفي العملين الأخيرين ليوسف فاضل وأعمال عبد القادر الشاوي وغيرهم.. هي نقد للرؤى السياسية وتدابيرها وآثارها في النفس والمجتمع. تختلف مع كل روائي ولكن النَّفَس السياسي حاضر يطل من هذه الروايات. كما أن كل روائي لا يريد أن توصف روايته بنعت من النعوت التي تصنفها...في حين هناك روايات اختارت الحديث عن تجربة سياسية ذاتية ضمن جنس السيرة، كما هو الحال مع النصوص التي تناولت سنوات الرصاص، أو بعض السير الذاتية كما هو الحال مع محمد العمري مثلا...
الكاتب هو فرد من هذا المجتمع، وهو أكثر حساسية من الآخرين، لذلك تجده دائم الضجر والتبرم من كل ما لا يلمس فيه سبيلا لتحقيق حلمه الذي هو حلم الآخرين.
عبد اللطيف محفوظ: الرواية هي الأقدر على مقاومة السياسات العمومية أو التصالح معها والمساهمة في تيسير تنفيذها
تعتبر الرواية، بعدها الجنس الأدبي الأكثر تماسا مع الواقع المحايث لزمن الكتابة، الجنسَ الأكثر قدرة على تشخيص الأفكار ونقدها، ومن ثمة فإنها الجنس الأقدر على مقاومة السياسات العمومية أو التصالح معها والمساهمة في تيسير تنفيذها. بيد أن ذلك لا يمكن أن يتم مباشرة،لأن السياسة ليست أفكارا تمرر، بل توصيفا لآليات فكرية ومادية تفرض نسقا من المعاملات والمواضعات وتلتزم بها، الشيء الذي يؤكد أن العلاقات الممكنة بين الرواية والسياسة موسطة بالإيديولوجيا. ولهذا سنتوسل مفهوم الإيديولوجيا لرصد العلاقات الممكنة بين الرواية والسياسة:
إذا كانت التعريفات التي أعطيت للإيديولوجيا من قبل المفكرين الذين اهتموا بها (من بينهم ماركس ومانهايم وفيبر وغيرتز وألتوسر وهابرماس..) متعددة، فسنعمل في هذه الإجابة على الاستفادة من آراء بول ريكور وإيغلتون، نظراً لملاءمة بعض مفاهيمهما مع الموضوع الأدبي، ومساعدتها على تبصر حدود انفتاح الروائي على السياسي، انطلاقا من رؤية المعاني الرئيسة الثلاثة:
1 الإيديولوجيا بوصفها تشويهاً:
إن التشويه يعني، وفق تحليل ريكور لتصورات ماركس، لغة مفارقة للغة الحياة العادية، التي من سماتها كون الأفكار والمفاهيم وكل ما يتصل بمنتجات الوعي محايثاً ومتعالياً في آن، ومندمجاً بشكل مباشر في فسيفساء الفعاليات المنتجة للتعاملات المادية للبشر. وهذا المستوى من تمظهر الوعي في اللغة الممارسية العادية للبشر، هو الذي يمكن مماثلته بما فوق التسنينات الاجتماعية المؤولة للإدراك في مستوى العادات العامة لتلقي وتأويل الأدلة على اختلاف أنواعها.
في هذا المستوى من النظر تعتبر معظم النصوص الروائية المغربية، وهي تنبني على حكايات أقرب ما تكون إلى محكيات بسيطة تتمحور حول تجارب مناظرة لتجارب الذوات الكاتبة، غير قادرة على بنينة فكرة إيديولوجية ما مناهضة للإيديولوجيا المسيطرة، لأن الرغبة في التشويه، وإن وجدت وفق الفهم الريكوري، تنصهر في رغبة لاواعية في الوفاء للتمثل الموضوعي، وهو وفاء غالبا ما يجعل الرواية نقدا ملطفا وحسب.
2 الإيديولوجيا بوصفها إضفاء للشرعية:
أما المستوى الثاني، فيرتبط بالإيديولوجيا بوصفها إضفاء للشرعية. وتتمظهر تأثيراتها في محاولات سحب الرمزية عن الحياة الممارسية، وبناء وتعميم رمزية بديلة.
من الواضح أن المرجع الأساس لهذا المعنى يعود إلى عدم دقة الروابط الآلية بين شكل الوجود الواقعي، وعالم الأفكار التي ليست بالضرورة انعكاساً له، بقدر ما هي انعكاس لتمثلات مختلفة عما يورثه التنظيم الاجتماعي، ومن جهة ثانية أكثر واقعية ما تثبته التجارب من استحالة فرض نظام ما سيطرته الدائمة بالاعتماد فقط على القوة، بل إن أهم الأشكال ترسخاً واستقراراً هو الذي يعرف جيداً كيف يوازن بين آليات عمله بوصفه نظاماً، وبين التنظيم الاجتماعي الذي هو متشارك وموروث وغير قابل للتحويل ببساطة، ذلك أن النظام نفسه في أغلب الأحيان يكون من بين معطيات التنظيم. ومن ثمة، فإن أصعب تحويل هو الذي يمس التنظيم الاجتماعي، وهو الذي يضم منظومة القيم وسلمية التدرج، وبلغة السيميائيات: كل المؤولات ما فوق التسنينية ذات البعد العلائقي. ويبدو أنه، استجابةً لهذه الحقيقة، ركز ريكور في هذا المستوى على ثنائية الادعاء والاعتقاد بوصفها ملتقى الفعل الرمزي للخطاب الإيديولوجي، حيث يربط سيرورة الادعاء بالسلطة، بينما يربط الاعتقاد بالمحكومين، ومن بين أهم آليات المساعدة على الاعتقاد، تأتي الشرعية التاريخية والاستفادة الشخصية والتطابق مع منظومة القيم التي يفرضها التنظيم..
ومن الملاحظ وجود تقارب وظيفي بين مفهومي الادعاء والاعتقاد، كما وضحهما ريكور، وسيرورتي التوصيف والجزاء، كما صاغهما إيغلتون، لكون التوصيف هو نفسه نوع من الادعاء الهادف إلى خلق اعتقاد طوعي ينجم عنه انخراط طوعي في الخضوع للبنية الرمزية الناظمة لأشكال الوجود والحياة، كما تفترضها البنية الفوقية التي توجهها الطبقة الحاكمة، بغض النظر عن كونها تؤمن بها بوصفها البنية الأكثر نموذجية للتوافق مع شكل التنظيم المتوارث والضامن للاستمرارية السلمية، أو بوصفها البنية الأكثر ضمانة لاستمرار النظام.. ثم لكون الجزاء يعبر عن التلويح بالقوة والإرغام كلما تمادى الفرد أو الجماعة في تشويه ادعاءات السلطة والتشكيك في مصداقيتها، أو محاولة بناء بنيات رمزية مناوئة وبديلة تهدف بشكل أو بآخر إلى تهديمها.
بالنظر إلى هذا المعنى الثاني، فإن الرواية المغربية، وإن كانت قد ساهمت بفعالية في فك الرمزية عن المثقف والسياسي.. وعن أنساق التفكير الأسطورية والسلفية والخرافية.. وشككت في نزاهة المؤسسات الديمقراطية، فإنها في العمق تعقد تصالحا خفيا مع الإيديولوجيا السائدة عن طريق التقاء في ثوابت التنظيم الاجتماعي، الذي يتبدى في الرواية في شكل قيم ضائعة إما مبحوث عنها أو مأسوف على تلاشيها. الشيء الذي يجعل الرواية في موقف البين بين.
3 الإيديولوجيا بوصفها إدماجاً:
ويعني هذا المستوى الأخير أن الإيديولوجيا، بوصفها خطاباً متميزاً، هي نوع من ربط التواصل المحايث بين منظومة القيم، بما فيها المدونات الأخلاقية والقانونية والثقافية.. وبين أشكال تمثلاتها التي تترجمها في مستوى الفكر العملي إلى قناعات فكرية وممارسات عملية، مسؤولة عن تمظهراتها في لغة وفعل الحياة الواقعية، وحيث تكون في هذا المستوى عنصراً فعالاً لسيرورة دائمة وضرورية للإدماج. وهنا أيضاً يمكن الشعور بتقاربٍ ما بين الإدماج والتوصيف.
وبالنظر إلى هذا المعنى الثالث للإيديولوجيا، وإلى حدود إمكانية كون الرواية المغربية تمارس إيديولوجيا الإدماج، يتبين، من خلال أغلبية النصوص، أنها فعلا تمارس الإدماج والتوصيف، ذلك أن أغلب الروايات، سواء كانت تخييلية تنضد عالمها على العالم الراهن المحاقب لزمن الكتابة، أم تخييلية تاريخية تنضد عالمها على واقعة أو حقبة أو شخصية تاريخية، تصر على عوالم مشاكلة لعوالمنا، ومحكومة بمنظومة قيمنا ومدوناتنا. وليس الاختلال الذي يسم العوالم الممكنة، أو الإخفاقات التي تؤول إليها مشاريع الشخصيات إلا نتيجة انحرافات عن البنيات التي توجد في التنظيم الاجتماعي. الشيء الذي يفيد أن الرواية في جوهرها وإن كانت نقدية فهي متصالحة مع شكل التنظيم الاجتماعي.
ثانيا:
إن الاعتقاد في كون الرواية السياسية هي التي تنبني على حكاية تقوم بتشخيص الأجهزة الفاعلة في تسيير دواليب الحكم، أو تشخيص شكل فعل الأجهزة الحزبية أو النقابية، ليس دقيقا، لأنه يتنافى مع طبيعة التمثيل الروائي، الذي يتميز بكونه عملا مفكرا فيه بشكل مدروس، بدءا من الإيجاد أو الفكرة النواة إلى المرحلة الأخيرة التي عادة ما نسميها الإظهار؛ إن الحكاية لا تشكل إلا مرحلة في سيرورة البناء الذهني للعمل الروائي، ومن ثمة لا تكون هامة، بالضرورة، في ذاتها، بل بقدرتها على تجسيد لحظة من تطور الفكرة التي تختزل سؤالا مبأرا حول الكامن والنوعي وراء الظاهر الكمي. ويعني ذلك أن البعد الإيديولوجي يتشكل من خلال سيرورة الإنتاج كلها، بدءا من الفكرة، ومرورا بتجسيدها في حكاية، إلى تحبيكها، وصولا إلى التظهير النهائي الذي يمنح السيرورة شكل النص الروائي. إن مثل تلك الحكايات وإن كانت تضمن تمرير إيديولوجية ما بشكل واضح، فإنها لا تضمن المساهمة في إنتاج نص أدبي تتضافر فيه الأبعاد المعرفية بالجمالية.
صدوق: وضعية الأدب كمؤسسة، كتعبير وموقف في المغرب الحديث، هي وضعية في طريقها إلى الانقراض
يقتضي الحديث عن العلاقة بين الروائي/ السياسي بخصوص جنس الرواية المغربية إثارة سؤال البداية، وبالتالي إشكالية العلاقة بين النقد الأدبي والجنس الروائي. فالبداية يتم تحديدها باختلاف بين النقاد كما النصوص التي يرى إليها كبدايات. فبعض الدراسات النقدية تقر بأن رواية «الزاوية» للتهامي الوزاني (1942)، نواة التأليف الروائي بالمغرب
(ثمة من يشير إلى «سليل الثقلين»). في حين ترى أخرى أن «في الطفولة» لعبد المجيد بنجلون (1957)، التأسيس الفعلي لجنس الرواية بالمغرب. والواقع أن الوقوف على التجربتين، يقود إلى اعتبار المادة المشتغل عليها ذاتية صرفا. والأصل أن البعد الأوتوبيوغرافي سيسم أكثر من تجربة روائية مغربية حديثة. على أن الإقرار الفعلي بالتأسيس سيرتبط بظهور رواية «دفنا الماضي» لعبد الكريم غلاب (1966). فإثارة إشكال البداية لم يتفرد به النقد الأدبي بالمغرب وحده، وإنما العربي خاصة فيما يتعلق بالتجربة المصرية والشامية. هذا الاهتمام في العمق، صرف النقد عن إيلاء الأهمية لمختلف المعاني التي أسهمت الرواية المغربية في إنتاج وعي بتفاصيلها، إلى الانشغال بهم السؤال عن التراكم الروائي، وهو قضية أعتبرها منتهية راهنا، بحكم التحولات التي يعرفها الخطاب الروائي بالمغرب: أسماء، قضايا ومتحققات.
بيد أن الشق الثاني من التمهيد يدفع للتفكير في علاقة النقد الأدبي بجنس الرواية في المغرب. والأصل أن العلاقة راهنا لم تعد تمتلك فاعلية حضورها، لتراجع الثقافي بشكل فظيع، والسياسي على السواء، مادام في مرحلة اعتبر كمتكإ للوصول، التوظيف الإيديولوجي للثقافي. ومن جانب مواز، فإن ذيوع التصورات الأكاديمية ذات الاشتراطات العلمية ورهاناتها على الشكليات النصية، قاد إلى جناية الأكاديمي على الذوقي والتأملي. وموضوعيا فإن كان الأكاديمي أسس لآليات مرجعية من شأنها دراسة وتحليل النصوص فإنه أجهز على وضعية النقد الأدبي بالمغرب، وعلى حصيلة السجالات التي طبعت النهضة الثقافية والفكرية، وإلا فمن يذكر اليوم نقاشات البشير الوادنوني (إدريس الناقوري) وكبور لمطاعي (الراحل أحمد المجاطي) وحسن الطريبق أيضا، ومن يمكنه استعادة محاورة المفكر الراحل محمد عابد الجابري للدكتور عبد الله العروي، وقس على ذلك.
فالمطلب الأساس اليوم، وحتى نقارب الروائي/السياسي، ضرورة استعادة النقد الأدبي بالمغرب ريادته، بهدف إعادة النظر في حصيلة التقييمات التي خضعت/أخضعت لها الرواية المغربية، وخاصة أن الكثرة الكثيرة منها إيديولوجية خالصة. ومن ثم سيتحقق فهم وتأويل تجارب التأسيس في الكتابة الروائية بالمغرب، مقارنة بالسياق الراهن، حيث أكدت تجارب روائية كفاءة ملامستها للسياسي وفق صوغ روائي متمكن وناضج.
انطلاقا من السابق، يمكن القول بأن المعنى الذي أسهمت الرواية المغربية في/وعلى إنتاجه، يتقارب ومتحققات الرواية العربية. بمعنى آخر، إن هنالك تقليدا وتصاديا لا يمكن الغفل عنه، مادامت الكتابة تتأسس على القراءة. ومن ثم يحق النظر إلى هذا المعنى وفق تمظهراته التالية:
أ التعبير عن مرحلة المطالبة بالاستقلال: وهو معنى سياسي في جوهره.
ب التطرق لمرحلة الإصلاح والبناء المتمثلة فيما بعد الاستقلال: وهو معنى إذا حق- اجتماعي، علما بصعوبة الفصل بين البنية الاجتماعية والسياسية من منطلق التداخل إلى الاعتبار الذي يرى بأن كل بناء اجتماعي يتحدد وفق القناعات السياسية.
ت تمثل الغرب: وهو معنى يستحضر مسألة التقدم والتفوق الغربي، وكأن الأمر يتعلق بتخييل الذهني روائيا، بالانبناء على فكرة: «لماذا تأخر المسلمون، وتقدم غيرهم؟».
إن المعاني المحددة سابقا، تختصر في التالي: الاستقلال، البناء والتقدم. بيد أن ما كشفت عنه الروايات التي كتبت لاحقا، وأخص تجارب الروائيين: عبد الله العروي، محمد زفزاف، محمد عزالدين التازي، محمد برادة، سعيد علوش، أحمد المديني، محمد صوف، ولاحقا عمر والقاضي، أن المعنى الأجد والأقوى سياسيا يتمثل في الإخفاق. إخفاق مشاريع الإصلاح والبناء، وبالتالي نهضة المغرب المتوقعة. من هنا بالذات تولد الوعي السياسي المغاير في الكتابة الروائية بالمغرب. إلا أنه لم يكن وعيا يتم تخييله وفق صيغ مباشرة، وإنما كان التلميح والإشارة إليه، من ناحية لمقتضيات البعد الجمالي للكتابة الروائية، وأخرى لانتفاء خاصة الحرية. وهي الخاصة التي دلت عن احتلال مدني أنيق، وبالتالي عن استبداد يتلون ويصعب الفكاك منه. وهنا لابد من دقة الإشارة إلى أن من التجارب الروائية الرائدة والموضوعية التي أبانت بالكشف والاستجلاء محنة طبقات اجتماعية كادحة ناضلت دون أن يتم الاعتراف بجهودها، وحتى لا نقول دون أن تغنم، ما كتبه محمد صوف في «رحال ولد المكي» (1980)، و»السنوات العجاف» (1985). وأيضا يمكن الحديث عن جرأة الروائي محمد زفزاف في أغلب نتاجاته الروائية التي عرت القاع الاجتماعي، برغم التمثل الذاتي الذي يعد اختيارا لإنتاج وعي سياسي واجتماعي.
إن موضوعة الإخفاق، كشفت عن واقع أقوى من واقع الحلم بالتغيير. فالروائي الذي تنازعه الإيديولوجي في مرحلة، أثبتت التحولات العالمية ألا قيمة في الزمن العولمي، حيث تقاليد السوق والاستهلاك الشره والليبرالية المتوحشة، لما يعد إيديولوجيا. وأما عربيا فتم تدجين المثقف، وإخضاع الحزب والنقابة والجمعية لمنطق أنظمة سياسية تجيد حبك أساليب الاحتيال. ولذلك تحققت الهيمنة السلبية على الثقافي والتربوي، أقول على كل ما يعد عقلانيا تنويريا..
إن الروائي وهو يستحضر وضعية، أو يتقصى مادة بالتفكير والتخييل والصوغ، يعكس صورة مثقف متميز برؤية لها فرادتها مادامت تختلف عن المتداول من رؤيات عادية. إنه مثقف يقرأ، يتابع وبالتالي يقارن بين الحالات والأوضاع. هذه الصورة بالذات، لا تلزمه التأطير داخل تنظيم سياسي، من منطلق كون التأطير يفرض تصورا ورؤية عن المؤطرين. فلقد كتب الروائي عبد الكريم غلاب «دفنا الماضي» (1966)، وبعد سنوات عاد ليكتب «لم ندفن الماضي» (2006). وأرى أن ما تحكم في إعادة النظر إلزامية البعد الأيديولوجي (لاحظ أن هذه الرواية بالذات لم تحظ بالتلقي الموسع). لذلك من الأولى أن يكون الروائي خارج التأطير، وبالتالي عليه رسم مسافة بين الحدث وتخييله، أمثل بما كتبه يوسف فاضل في روايتيه عن «القط» و»الطائر»، وأيضا ما صاغه أحمد لويزي في روايته «دار بلارج»، وما عبر عنه محمد برادة في روايته الأخيرة، وعمر والقاضي في مختلف نصوصه الروائية، مع مطلق العلم بالحالة التي أصبحت عليها التنظيمات السياسية بالمغرب، حيث الصراعات وهمية، وغياب الكفاءات القادرة على إدارة الشأن وشبه هجرة للمثقفين عن المنابر الإعلامية.
إن مجتمع التقليد، لا يتمثل السياسة كممكن ومحتمل. ولذلك ينتفي عنه الحداثي كمنطق عقلاني في الفهم. فالتقليد يجسد الثابت ويجلوه ويعكسه، في حين أن الحداثي ينزع إلى التغيير، وأرى أن المثقف الحق والموضوعي ارتبط باستمرار بوعي التغيير وهو وعي ترفضه مجتمعات التقليد المحافظة على الكائن، وبالتالي على ديمومته واستمراريته. ومن ثم فالاعتراف بشخصية المثقف، لا يرد في مدونة التنظيمات السياسية، لأن القبول بالرأي المغاير والمخالف، شبه مرفوض. ومن ثم فالبنية السياسية لهذه التنظيمات، صورة مصغرة عن بنية الدولة العربية المتسلطة..
وفي سياق هذه الوضعية بالذات، وضعية المثقف المقصى، لنا أن نتساءل على السواء عن وضعية الأدب كمؤسسة، كتعبير وموقف في المغرب الحديث، وهي وضعية في طريقها
للانقراض، مادامت مجتمعات التقليد ليست في توجهاتها علمية صرف، ولا أدبية خالصة. إنها وضعية التيه..
يبقى القول بأن محاولة فهم علاقة الروائي/السياسي، بمثابة صيغة لفهم العلاقة بين الثقافي/ السياسي، والتي أسالت حبرا كثيرا.
الدايم ربي: السياسة هي فن الممكن و الرواية هي فن الممكن والمستحيل معا
كلما طرحتْ جدلية الثقافي والسياسي تم تصوير الفاعليتين كما لو كانتا متناقضتين، والحال أنهما متطابقتان أو تكادان، لأن ما يجمعهما أكبر مما يفرق بينهما، سيما أنهما تؤمّنان، معا، السيرورة السوسيوتاريخية للشعوب والحضارات وإن اختلفت الآليات. صحيح أن «الثقافي» يمنح نفسه امتياز الاشتغال على العمق، فيما يكتفي «السياسي» بتدبير الشأن العام في شقه النفعي قصير المدى، ومع ذلك فإنهما يلتقيان، من حيث المبدأ، في العمل ضمن الأفق ذاته تقريبا. إلا أن انحطاط الممارسة السياسية، أحيانا، لدى بعض السياسيين قد يجعل كثيرا من المثقفين ينأون عن الانخراط فيها تلافيا للوقوع في مستنقعها الآسن، من دون أن يعني هذا أنهم لا يهتمون بها، لأنهم يمارسونها، في كل الأحوال، ولو عبر انشغالهم الفكري والجمالي. أي أنهم يفكرون بها شاؤوا أم أبوا. من ثم فإنه لا مناص للكاتب- الروائي تحديدا- من الغوص في السياسة، بغض النظر عن توسلاته الفنية، لأنه يتنفسها حتى لو تعالى عنها، مما يعني أن القول بكون الروائيين المغاربة لا يعبؤون بالواقع السياسي ليس محسوما فيه تماما، وإلا فما السياسة وما الرواية؟ فلئن كانت السياسة هي فن الممكن، كما يقال، فإن الرواية هي فن الممكن والمستحيل معا، وهي، بالتالي، متورطة في السياسة بحصر المعنى وإطلاقه. والروائي المغربي، باعتباره مثقفا، ليس معزولا عن عوالم السياسة كما نعتقد، ولربما هو أكثر من يفهمها على وجهها الدقيق، لأن من مهامه طرح أسئلتها وتشريحها لا العمل بمقتضاها بالضرورة، أي إخضاعها لمتخيله لا الخضوع لإكراهاتها، والاصطدام بها لا القبول بشروطها الضاغطة. وهو عندما يلجأ إلى أقنعة التاريخ، مثلا، أو ينشغل بما هو اجتماعي، فإنما ليشخص تصاريف السياسة وتحكم السياسيين في العباد والبلاد، ثم ألا تشكل محكيات السجن والاعتقال كتابات سياسية؟ أكثر من ذلك لا يمكن كتابة رواية دون إدراك العلائق الكائنة بين الفرد والمجتمع، وهذا في حد ذاته وعي يحكمه تموقف سياسي، لأن الاصطفاف مهما كانت طبيعته هو في أصله سياسة. وحتى يكون كلامنا مؤسسا على حالات ملموسة، بوسعنا أن نستشهد في هذا الصدد، تمثيلا لا حصرا، برواية «امرأة النسيان» لمحمد برادة كرواية راصدة للحراك السياسي في مغربنا الحديث، والكاتب، كما نعلم، فاعل سياسي وروائي معا، وهو ليس وحده في هذا المجال، إذ إن هناك كتابا آخرين خاضوا في الموضوع سيريا أو روائيا لعل من بينهم محمد العمري في «زمن الطلبة والعسكر» وآخرون. والخلاصة هي أن عزوف الروائيين، والكتاب عموما، عن العمل السياسي، لا عن الكتابة عنه، مرده، بالأساس، كونهم يعونه جيدا لا لأنهم يجهلونه. إن الكتابة الروائية ببلادنا، كما في باقي المجتمعات، هي ممارسة الفعل السياسي عن طريق التخييل الأدبي. عدا كون السياسيين كتبوا الرواية كما مارسوا السياسة ولا تناقض بين الأمرين. أما الربط الميكانيكي بين غياب الديموقراطية وانصراف روائيينا عن ولوج الإطارات والأحزاب السياسية فهو أيضا في حاجة إلى إثبات، هذا إذا صح أن هؤلاء الروائيين هم، في الواقع، خارج دائرة الفعل السياسي أصلا.
«نصيبي من باريس» لأحمد المديني.. سيرة ذاتية عبر المكان
منذ كتب رفاعة رافع الطهطاوي كتابه الرائد «تخليص الإبريز في تلخيص باريز» في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وباريس تحتل حجر الزاوية في كتابات الرحالة والموفدين والمهجَّرين العرب من الأدباء والشعراء والدارسين والمفكرين، فبعد رفاعة الطهطاوي (1801- 1873) ظهرتْ كتابات علي مبارك (1823- 1893) في عَلَم الدين، وهو كتاب مقامي يدور حول مهندس انتقل إلى باريس لمتابعة دراسته العليا بين عامي 1844 و1850 وفي انطباعات هذا المهندس عن باريس ما يتلخص في أنها «أحسن مدن الدنيا وأعظمها لحسن نظامها، وكثرة ما فيها من المباني اللطيفة، والأشياء الظريفة». وأحمد فارس الشدياق (1805- 1887) في «الساق على الساق»، وفي «كنز المخبأ» الذي يقول فيه واصفًا باريسَ:
أذي جنةٌ في الأرْضِ أم هيَ باريسُ ملائكةٌ سُكانُها، أمْ فرنْسيسُ
وبعد الشدياق ظهر كتابٌ لفرنسيس مراش (1835- 1874) الذي فتن بباريس أيما افتتان، ولا سيما بما فيها من حياة حضارية قوامها العلم والعقل، والنظام القائم على الحرية والمساواة. تلاه المصري محمد المويلحي (1858- 1930) الذي تحدث على لسان عيسى بن هشام، مؤكدا أن باريس مدينة كثيرة المحاسن، جمة المساوئ، وعلى الشرقي أن يأخذ منها ما حسن، ويترك ما لم يحسن. ويعقوب صنوع الملقب بأبي نظارة الذي نشر في العام 1899 كتابا بعنوان «البدائع المعرضية، في باريس البهية»، ويبدو لمن يقرؤه كتابًا يروي فيه مشاهداته لمعارض باريسية استمرت ستة أيام طاف خلالها بقلمه في المسارح، مؤكدًا أنها «تياترات يشخصون فيها كيفيات مَنْ سلف من القرون الخالية، وما كانوا عليه من مساوئ ومنْ مناقب، وكيف كانت معاملاتهم ومخاطباتهم، حتى يُعتبر الرأي، ويُنقض المليح من القبيح، والشريفُ من الوضيع».
ومن الأدباء الذين أقاموا بباريس ردحًا من أعمارهم فكتبوا عنها كتابة شيقة أحمد شوقي (1968- 1932)، وتوفيق البكري (1870- 1932) صاحب «صهاريج اللؤلؤ»، وأحمد زكي باشا (1867- 1934)، ومصطفى عبد الرازق (1885- 1947)، ومحمد كرْد علي (1876- 1953)، ومحمد تيمور (1892- 1921)، ومالك بن النبي (1905- 1973)، وتوفيق الحكيم (1898- 1987)، وزكي مبارك مؤلف كتاب «النثر الفني في القرن الرابع»، وأحد الذين اعتركوا أدبيًا مع الأديب طه حسين، ومع العقاد، ومع مصطفى صادق الرافعي. ففي كتابه «ذكريات باريس» يسلط الضوء بصفة خاصة على المرأة الباريسية، وعلى غانيات الحي اللاتيني، وعلى ما ينشر عن الباريسيات من أخبار مروعة في الصحف، حامدًا الله على أن المرأة الشرقية تختلف عن الباريسية في اعتصامها الشديد بالحياء، واحتجابها داخل البيت، مما يدع الرجل الشرقي مطمئنًا على أهل بيته، لا كالفرنسي الذي لا يعلم متى تخونه زوجته، ومتى لا تخون. وممن كتب عن باريس يحيى حقي في «قنديل أم هاشم»، وسهيل إدريس في روايته «الحي اللاتيني»، وطه حسين في «مذكرات طه حسين»، ومحمد حسين هيكل الذي كتب فيها روايته «زينب»، وآخرون كثيرون منهم الشاعر، ومنهم الناثر، ومنهم المفكر الباحث، والفيلسوف المتأمل، والدبلوماسي المتعفّف. ويطول بنا الأمر، ويتشعَّب المقام، لو أننا عددناهم، وذكرنا عنوانات كتبهم، ومصنفاتهم، وليس آخرهم الدبلوماسي المغربي عبد الهادي التازي، الذي ترك لنا كتابًا وصف فيه رحلته الأولى إلى باريس عام 1952. ففي هذا الكتاب يصف باريس بأم العواصم، وذلك شيء يعبر عن افتتانه بها، وبما فيها من المغاني، والمجالس، والمسارح، والمتاحف، والأماكن التي تعجُّ بتماثيل النوابغ من شعراء فرنسا وفلاسفتها وكتابها، من أمثال: جان جاك روسو، وديكارت، وغيرهما الكثير الكثير.
ولا كان آخرهم الموريتاني محمد الباهي، أحد الصحفيين المقيمين باريس، فقد نُشر له بعيد وفاته التي كانت عام 1997 كتابٌ في الدار البيضاء بعنوان لا يخلو من دلالات وهو «اكتشاف باريس» (2008). يذكرنا هذا الكتاب، والعهدة في ذلك على ذمة أحمد المديني مؤلف «نصيبي من باريس» (2014) بأصحاب الحوليات، مع منهجية تتصف بالموسوعية في البحث، والتحقيق، لا تعوزها العقلية التركيبية التي تؤمن بتعدّد العوامل الصانعة للمُدن، ولا يعوزها التفاعل، ولا الإيمان العميق بأنّ التاريخ سلسلة من المسارات المتواشجة، تستمر بالدم، والثورات، ومَكْر السياسة، إلى جانب عبقرية الأفراد، وهو المنهج ذاته الذي غلبَ على أعمال المؤرخ الفرنسي عمانويل لوروا ألدوري (1929)، الذي كان الباهي مولعًا به جدًا، ومعجبًا بمؤلفاته إعجابًا شديدًا.
وأياً ما يكن الأمر فإن الشيء المشترك الذي تتصف به الكتب المذكورة، وتتصف به تلك التي لم تذكر، استبعادًا للإسهاب، وتجنبا للإطناب، أنها جميعا تقدم لنا رؤى متغايرة لأصحابها لباريس، لكنها بتغايرها هذا، واختلافها، تفصحُ عن صورة متكاملة الخطوط والأضواء والظلال اكتمالا يَعْلقُ به القلب. ولهذا فإنَّ صديقنا أحمد المديني، الكاتب القصصي والروائي والأكاديمي المغربي، يحاولُ، بعد أنْ سلخ من عمره المديد- إنْ شاء الله- نحو ثلاثين عامًا أو تزيد في مدينة النور، والفكر، والفنّ، بحذر وتهيّب أن يدلي بدلوه في هذا السياق، وأن يضيف جديداً لذلك المقام، تهيبًا وحذرًا مصدره طريقة الكتابة عن باريس، وضرورة أن تكون طريقته مغايرة لطرائق من تقدَّموه، مختلفة عن طرق من سبقوه، طريقة تليق بهذه المدينة التي هي حقاً مدينة النور، والفكر، والفن.
فلا تكفي الرغبة في تذكّر المكان، أو إعادة اكتشافه صيانة لمخزون الذاكرة، ولا تكفي أيضًا الرغبة في استعادة الزمن بما يمثله من مراحل الصبا، وعنفوان الشباب، ولا يكفي أيضا الحنين لريّق الماضي تعلة للقيام بهذه المهمة، التي هي من أصعب المهام، إذا أردنا الدقة الصريحة التي لا تحتملُ الموارَبة. ولا تكفي الرغبة في كتابة تاريخ شخصي ذاتي يروي فيه المؤلف، ويذكر المصنّف، ما كان له من شأن في جامعة باريس الثامنة، أو الثالثة، أو الكوليج دو فرانس، أو السوربون، وما أعده من أطاريح..ولكن هذه الدوافع وهذه الرغبات تجتمع طرًا لدى المديني، وتدفع به دفعًا كمنْ أصابته(صعقةٌ) فهبَّ مذعورًا ليكتب هذا السِفر الأنيق (ص 280) بأسلوب لا يُعْوزه التشويق، ولا يغيب عنه التعبير السلس الرقيق. فهو سيرة ذاتية عبر المكان، وتاريخ شخصي عبر الآخر، واعترافاتٌ لا ينقصها البوحُ، وإن كبح جماحَها التحفظ. وهو في نهاية النهاية رواية يرويها السارد للأجيال طلبًا للموعظة والعبرة، وتوثيقًا للذاكرة والمذاكَرَة.
فالدوافع الذاتية التي دفعت به لاختيار باريس منتجعًا ينتجعه، ومحجًّا يقتصدُه، بعد أن ظفر بالشهادة الجامعية الأولى في فاس، وبعد أن عمل سنوات في التدريس ببلاده تارة، وفي العاصمة الجزائرية تارة، شد الرحال كسلفه عبد الهادي التازي إلى عاصمة الثقافة والفن باريس، وهاجسه الثابت الذي لا يريم الاختلاف إلى معاهد العلم، وجامعات باريس، ومكتباتها التي لا تحصى. يروي في الصفحات الأولى حكايته مع البوغاز (مضيق جبل طارق)، فالجزيرة الخضراء في إسبانيا، فالأندلس، التي اجتازها في ليلتين نحو تخوم «البرنس»، ملقيا عصا الترحال في الدائرة الخامسة بباريس، ليقيم في أحد أزقة هذه الدائرة، ثم يروي لنا في فصل يمسك بأنفاس القراء قصة زيارته الأولى للحي اللاتيني، ذلك الحي الذي اتخذ منه سهيل إدريس- مؤسس دار الآداب - فضاءً لحوادث روايته «الحي اللاتيني»، فهو يتجوّل بين مطاعم الحي، ومقاهيه، ومكتباته، وفي خياله تتداعي حوادث تلك الرواية.
يحاول المديني الاندماج في الحياة الجديدة. لكن الحنين إلى الأهل، وإلى أمّه بالذات، وإلى قفتها التي تحتوي ما لذ وطاب من الأطعمة والمشهيات، يعكر عليه صفو تلك اللحظات. فالشعور بالاغتراب، كما قال الشاعر عبد الصبور، «خَرَاجٌ» ولا بد للمبدع والمثقف أن يؤديه، وضريبة للتميّز لا بد أن تسدَّد في الموعد والأوان.
وهكذا نجد الكتاب، والمكتبات، والأصدقاء من أمثال: محمد باهي، وعلياء، في جانب، والحنين إلى الأسرة في جانب آخر.
يجد المديني عزاءه في تلك المكتبة التي تحمل اسم فرانسوا متران، ففي قاعاتها الوقور التقى، وجالس العديد من الجهابذة: ميشيل فوكو، وبودريار، والمستشرق أندريه مايكل، والمستشرق مكسيم رودنسون، وبورديو، وعبد الرحمن بدوي، وبنسالم حميش.. يجلسون الساعات الطوال.. وحين يأتي موعد الغداء يكتفون بالساندويش، وبعض المياه المعدنية، على طريقة فوكو. في باريس، وعلى إيقاع السلال التي بدأت تصل إليه مع القادمين من المغرب حاملة بعض ما يؤجج الحنين، تعرف على طالبة من سوريا (علياء) كانت قد سبقته بعامين، ونشأت بينهما علاقة تحفَّظ في الكثير مما رواه عنها، وإن كان في الذي ذكره عنهُما ما يوحي بالكثير من التفاصيل المضمَرَة. لكنه كغيره ممّن كتبوا عن باريس، كلما روى لنا حادثة، أو وصف لنا مشهدًا، مما رآه، سارع للمقارنة بين باريس والحياة فيها من ناحية، وما اختبره من ألوان العيش والنظام الحياتي في بلادنا نحن العرب من ناحية أخرى. فعلى سبيل المثال، يدهشه اصطفاف الباريسيين أمام بائع الفواكه لا يزاحم أحدُهم أحدًا. ويدهشه أن يرى بين المصطفين علمًا من أعلام الفلسفة هو ميشيل فوكو. فيروي لنا ما رآه موازنا بين موقف هذا الفيلسوف الشهير، ومواقف صغار المثقفين لدينا «بزنقة روشيليو، البروفسور، الفيلسوف، ميشيل فوكو، بصلعته اللامعة، ونظراته الحادة، ينتظر كأيِّ واحدٍ من الناس، دوْره، لابتياع التفاح، أو البرتقال، لا غير، فالفيلسوف هنا لا يبحث عن المال، ولا عن الجاه، ولا عن مقعد في البرلمان، ولا عنْ كرسيّ وزارة..».
ومما يُدهشُ له القارئ أن المديني في الفصل الذي يحدثنا فيه عن غواية الفصول، يؤكد لنا أن الخريف، وهو الفصل الذي يوصف عادة بأسوأ فصول السنة، هو الذي فُتنَ به المؤلف، فخريف باريس كالربيع في غيرها من مدن.. فاتن.. ورائع. ليس كخريف فاس، أو الدار البيضاء، ولا كخريف برشيد، أو غيرها من مدن. ولأنه أحبَّ خريف باريس كان عنوان مجموعته القصصية التي صدرت في العام 2009 تحمل عنوان «خريف». ففي باريس يواصل اكتشافَ الغابة، واكتشاف الشمس، واكتشاف الغيم «قبعة السماء» واكتشاف الشارع، والدائرة، واكتشاف الألفة بعيدًا عن الشعور النوستاليجي بالاغتراب، فهو «لا يجد وقتا للإحساس بأيّ حنين رغم السلال التي تأتيه من المغرب مع القادمين، فلا غربة لمن يربط أفقَ يومه، وغدهِ، وأحلامه، بأقربِ عودةٍ إلى الوطن، ليرتمي في أحضان الوالدة، مقبلا ذا الجدارَ وذا الجدار، منتشيا بين «أولاد الدرب» كأنه عاد من القمر توًا».
وفي باريس أيضا يكتشف عادة التواصل، والتحول في اللهجة الفرنسية من ضمير الغائب إلى ضمير المخاطَب. وفي السوربون يلتقي كلا من جاك لينهارت، أحد تلامذة لوسيان غولدمان صاحب المذهب البنيوي التكويني.. و»الإلهِ الخفيّ».. وعالم راسين.. والبورت رويال. ويلتقي البروفسور جيرار جنيت أحد كبار دارسي السيميائيات السردية، والمنظرين للسرد ولخطاب الحكاية، مواصلا تنقله بين جامعة باريس الثامنة، والثالثة، والكوليج دو فرانس، والسوربون، وفي فقرة مكتنزة دلاليًا يروي لنا شيئا عن مقابلته للكاتب آلان روب غرييه مؤلف كتاب «الرواية الجديدة». تلك المقابلة التي جرت بالصدفة عندما ألفى نفسه يزاحم الآخرين في حشد من الطلبة في زنقة (أولم) الشهيرة في يوم من أيام شهر نوفمبر (تشرين2) من العام 1982 وهو يتحدثُ ببالٍ رخيٍّ عن صنعته الروائية. فتقدم المديني منه طالبًا رقم هاتفه، ليقول له هذا بكلمة موجزة: (أوه تستطيع أن تجده في دليل التلفون). وبعد أيام زاره في بيته بضاحية نويي ليقول لنا واصفاً «زرته بعيد وقت وجيز، في بيته، في ضاحية نويي، وإذا هو منزلٌ مختنق بالكتب، والأوراق، والملفَّات، وهو يتحرك بينها بصعوبةٍ، ويتحدث عن أشياءَ مختلفة، وخلالها يقول لي: ليس لديَّ ما أعطيك. اعتمد على نفسك. عليك بالعمل. العملَ. العملَ. وفهمت أن آلان روب غرييه مهندسٌ فلاحي، فالكتابة عنده هي حقل يحرثه، ويقلّبه، ويغرسُ، ويتعهَّد، وينسِّق بدأبٍ شديد، ويجني أخيرًا» (ص 170).
وفي الكتاب فصولٌ شائقه، وشهادات رائقة، عن أصدقاء نابهين عرفهم المديني، وعاشرهم في باريس، سنين طويلة، وآماد غير قصيرة. منهم من هو أستاذ تتلمذ له في سنوات الطَّلب كجمال الدين بن الشيخ، مؤلف كتاب «الشعرية العربية»، فكان له في سني الإشراف نعم الأخ، والصديق الحميم، والمعلم، ومنهم من هو شاعر كأحمد عبد المعطي حجازي، الذي غادر القاهرة مضطرًا بعد زيارة الرئيس المصري القدس، وعقده اتفاقية الإذعان، ومنهم من هو روائي كبير كعبد الرحمن منيف، مؤلف رواية «شرق المتوسط»، و»النهايات»، و»عالم بلا خرائط»، و»سباق المسافات الطويلة»، و»حين تركنا الجسر»، و»مدن الملح»، و»أرض السواد»، الذي توفي إثر عملية جراحية ببيروت 2004، ومنهم من هو صحفي كالموريتاني محمد باهي، الذي توفي هو الآخر في الدار البيضاء سنة 1997، تاركا وراءًهُ مادة الكتاب الذي نشر لاحقًا بعنوان «اكتشاف باريس» (2008) وعنه ألف عبد الرحمن منيف كتابه الشيّق الممْتع «عُرْوةُ الزمان الباهي»، ومنهم محمد آيت قدور أحد السياسيين المنشقين على الحسن الثاني سنة 1971، والمفكر الفيلسوف محمد عابد الجابري، مؤلف «الخطاب العربي المعاصر»، و«بنية العقل العربي»، وشاكر نوري، وعبد الواحد عوزري، وعبد الرحيم الجلدي، وآخرون لا يتسع هذا المقال لذكرهم، وذكر ما شهد به وفيه المديني. فهو جزء من الكتاب يحتوي على شهاداتٍ واقعيّة، مؤثرة، عن هؤلاء المفكرين الباريسيين إذا جاز التعبير وساغ، كُتبتْ بأسلوب سلس لا تعوزه الشفافية، ولا الرحيق الوجداني الذي يشعرنا بما في الأسلوب من نشوة تشبه بمذاقها مَذاق النبيذ الباريسيّ الشهير.
صفوة القول، وزبدة الحديث، أن أحمد المديني بهذا الكتاب (نصيبي من باريس) يكتب لنا سيرة ذاتية من خلال المكان، الذي هو باريس، مؤكدًا في كل فصل منها، بل في كل صفحة، وفي كل فقرة، أن الحياة هي الكتابة، والكتابة هي الحياة.
د. إبراهيم خليل *
* ناقد وأكاديمي من الأردن
حكيم بلعباس والعقيدة السينمائية
كنت عضوا في لجنة الدعم، التي عينتها وزارة الاتصال، لدعم الصناعة السينمائية في المغرب في بداية التسعينيات. وكانت اللجنة تناقش فيلما لمخرج شاب، درس السينما بالولايات المتحدة الأمريكية. دار النقاش حول نوعية هذا الفيلم، واتفق أغلب المتدخلين على أن هذا الشريط عبارة عن مقاطع مصورة، لا رابط بينها، فهناك صور لطفل يطوف وسط الأبواب المقوسة، ونار مشتعلة في أفران الجير، ورجل ينام في قبر. وكنت آخر من تدخل قبل ان يحسم رئيس الجلسة في حق هذا الفيلم.
بدأت مداخلتي بسؤال عن المقياس الذي اعتمدته اللجنة للحكم على الفيلم، فوجدت انه مقياس الحدوثة القصصية، الذي لا يتماشى مع هذا العمل المختلف. تنحنح الجميع في أماكنهم. تابعت لأفسر لهم أن الفيلم ينتمي إلى السينما الشعرية، وإلى الكتابة الشذرية، ولا علاقة له بالسرد السينمائي التقليدي. إن هذا الفيلم شبيه بشعر الهايكو الياباني الذي يتدفق ببساطة الحياة، وبدقة الملاحظة، ورقة الإحساس، ونبل الخيال، وغنى المخيلة. فقرات عليهم ما يلي:
الغدير القديم
ينط الضفدع
صوت الماء
هذه الأبيات تقبض على تفاصيل صغيرة، لكنها تضم الكون والديمومة والفعل اللا ينتهي.
كما ان الطفل الذي يجري في الحواري الضيقة، والأقواس ذات المعمار العريق، والرجل الذي يقيس قبره، والنار المشتعلة وقودها الحجارة، والأواني الطينية، والريح التي ترقص اللهيب..هي ذي عناصر الحياة، التي يزرعها حكيم بلعباس في مشتل إبداعه، والتي ستشكل «عوده الابدي»، بالمفهوم النيتشي، ليخلق منها مصائر وأقدارا، يحكي بها تاريخه الخاص، وتاريخ إنسانيتنا من «المهد إلى اللحد»، كما يقال.
إن الفيلم الذي بين أيديكم، يتطلب منكم تغيير النظر، لكي يحل محله البصر،الذي هو نافذة البصيرة، فانظروا وأبصروا لعلكم تفلحون.
هكذا جاء حكيم بلعباس إلى السينما المغربية، ووجدها غارقة في استجداء الحكاية، والبحث عن الحلول لبعض المشاكل الاجتماعية وتلبيسها بلعب الممثلين والممثلات، وخلق وضعيات درامية شبيهة بالميلودراما التلفزيونية، مع بعض الاستثناءات القليلة.
لقد استطاع حكيم بلعباس، من خلال منجزه السينمائي، ومع قلة من السينمائيين المغاربة، أن ينتقل بالسينما في المغرب، من منظومة السينما الكلاسيكية، التي تعتمد مفهوم «الصورة-الحركة»، إلى منظور السينما الحديثة، التي تعتمد مفهوم «الصورة-الزمن». وقد استطاعت أفلامه أن تحرر بكتابتها الشعرية الصورة السينمائية من جمودها المرجعي ومن سيطرة النمطية الكليشية، التي تسجن الفيلم العربي بشكل عام. ان الحكاية عند بلعباس ليست سوى ذريعة من اجل حفر المرئي وفسخ مقروئيته قصد بناء أو إعادة بناء اللامرئي الكامن في التفاعل بين المعرفة المرجعية-الواقعية، والرؤية البصرية السينمائية،المولدة لماء المعنى.
استطاع حكيم بلعباس بأفلامه: همسات، وعش في الحر، وخيط الروح، وعلاش البحر، وحرفة بوك، وهذه الأيادي، ووجوه، وأحلام حارقة، وأشلاء، ومحاولة فاشلة لتعريف الحب، ان ينتقل بالكتابة السينمائية في المغرب من مستوى تنظيم «الصورة –الأشياء»، إلى تنظيم وتشخيص «الصورة - المفاهيم والوجدان»، التي تدل وتعني لذاتها وبذاتها. انه المخرج المجدد الذي حاول أن يدمج الإشكالية الإنسانية الخاصة مع التاريخ الاجتماعي الذي يحدد حياة الشخصيات. ولتعميق هذه المسألة، اجتهد بلعباس في البحث عن إمكانيات فنية جديدة للاستحواذ على المتفرج عن طرق جديدة للاستعراض البصري، وتحطيم الحاجز الذهني، بين الجمهور والفيلم، من خلال جنس الفيلم الوثائقي- التخييلي، أو التخييلي –الوثائقي. إنها محاولة جديدة للانتقال من السينما الاجتماعية، التي تعتمد المشكل والحل، والتي ينتجها اغلب المخرجين المغاربة، إلى السينما الإشكالية، التي تطرح أسئلة جذرية وشجاعة حول وجود الإنسان ووضعيته في عالمنا المعاصر، وتبحث عن أجوبة غير يقينية تربط الحالة الإنسانية الخاصة بالتاريخ الاجتماعي.
إن الإخراج السينمائي عند حكيم بلعباس ليس لغة أو وسيلة أو طريقة، ولكنه مفهوم وتصور، مبني على «العقيدة السينمائية»، التي تؤطر الرؤية للعالم لدى بلعباس.
إن المشروع السينمائي لحكيم بلعباس يتأسس على إرادة فنية وإبداعية مبنية على ما يسميه المنظر كادينسكي «مبدأ الضرورة الداخلية» الذي يعتمد على ثلاثة مبادئ متداخلة ومتفاعلة هي:
الفن تعبير عن ذاتية الفنان.
الفن تعبير عن خصوصية عصره.
الفن تعبير عن كل ما يأتي من الفنون الأخرى والشعوب الأخرى.
نستنتج من كل هذا أن السينما عند حكيم بلعباس هي بحث مستمر وكشف عن المعنى البصري. كما أن الكتابة لديه هي تحويل أسلوبي للأشياء، حيث تفقد هذه الأشياء مرجعيتها الأيقونية، لتسكنها الاستتيقا كفعل أنطولوجي تكويني، وبهذا يتحقق الجوهر الشعري للصورة وللسينما، التي تحدث صدمة في الفكر وفي الوجدان، وتؤدي إلى اهتزازات في قشرة الدماغ وفي الأحاسيس.
إن أفلام حكيم بلعباس تبني الذكاء الوجداني عند المشاهد وترعاه، وترحل به من الممتع إلى الجميل ومن الجميل إلى النبيل، وهي تبحث عن الحقيقة، لتصل به إلى مرحلة الهرمونيا الإنسانية، أي إلى المطلق الوجودي.
بهذا الفعل الفني المستمر يدخل حكيم بلعباس في رواق الحكائين الكبار، الذين يردون السينما إلى مهمتها الكبرى لأنه ينحت في الإناء البصري شهد الحكاية وشهد الكلام، لكي تظل ظلال الصور تعرض في الذاكرة المحكية والبصرية، بلور الزمن للبحث عن الصورة المشتهاة، التي تخلق الرغبة المستجدة في الحياة.
حمادي كيروم


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.