سامسونغ تزيح آبل عن عرش صناعة الهواتف و شاومي تتقدم إلى المركز الثالث    هجوم روسي استهدف السكك بأوكرانيا لتعطيل الإمدادات د مريكان    حريق كبير قرب مستودع لقارورات غاز البوتان يستنفر سلطات طنجة    تطوير مبادرة "المثمر" ل6 نماذج تجريبية يَضمن مَكننة مستدامة لأنشطة فلاحين    حكيم زياش يتألق في مباريات غلطة سراي    احتجاج تيار ولد الرشيد يربك مؤتمر الاستقلال    زلزال بقوة 6 درجات يضرب دولة جديدة    الأكاديمية تغوص في الهندسة العمرانية المغربية الإسبانية عبر "قصر الحمراء"    بوزنيقة : انطلاق المؤتمر 18 لحزب الاستقلال بحضور 3600 مؤتمر(فيديو)    حالة "البلوكاج" مستمرة في أشغال مؤتمر حزب الاستقلال والمؤتمرون يرفضون مناقشة التقريرين الأدبي والمالي    ممثل تركي مشهور شرا مدرسة وريبها.. نتاقم من المعلمين لي كانو كيضربوه ملي كان صغير    الرابطة الرياضية البيضاوية يؤكد ان الوحدة الترابية قضيتنا الاولى    طقس السبت: أمطار وطقس بارد بهذه المناطق!    جمارك الجزائر تجهل قانون الجمارك    رئيس بركان يشيد بسلوك الجمهور المغربي    بركة يتهم النظام الجزائري بافتعال المؤامرات وخيانة تطلعات الشعوب المغاربية    فضّ الاحتجاجات الطلابية في الجامعات الأمريكية: ماذا تقول قوانين البلاد؟    الصحراء تغري الشركات الفرنسية.. العلوي: قصة مشتركة تجمع الرباط وباريس    على هامش المعرض الدولي للفلاحة.. إطلاق هاكاثون الذكاء الاصطناعي للفلاحة القادرة على الصمود أمام التغير المناخي    المدير العام للوكالة المغربية لتنمية الاستثمارات والصادرات : المغرب مركز أعمال من الطراز العالمي    شبكة جديدة طاحت فالشمال كتبيراطي شبكات الاتصالات الوطنية وها المحجوزات    اكتشف أضرار الإفراط في تناول البطيخ    "طوطو" يشرب الخمر أمام الجمهور في سهرة غنائية    أكبر صيد أمني منذ عشر سنوات.. 25 طنا من الحشيش المغربي تدخل أوروبا    كورونا يظهر مجدداً في جهة الشرق.. هذا عدد الاصابات لهذا الأسبوع    رئيس اتحاد العاصمة صدم الكابرانات: المغاربة استقبلونا مزيان وكنشكروهم وغانلعبو الماتش مع بركان    البطولة الوطنية الاحترافية "إنوي" للقسم الأول (الدورة ال27).. الشباب السالمي يتعادل مع ضيفه مولودية وجدة 0-0    تفريغ 84 طنا من منتجات الصيد البحري بميناء مرتيل خلال الأشهر الثلاثة الأولى لسنة 2024    تتويج 9 صحفيين في النسخة الثامنة للجائزة الكبرى للصحافة الفلاحية والقروية    الأمثال العامية بتطوان... (583)    السعودية تحذر من حملات الحج الوهمية عبر مواقع التواصل الاجتماعي    المغرب يعتزم بناء مزرعة رياح بقدرة 400 ميغاوات بجهة الشمال    قميص بركان يهزم الجزائر في الإستئناف    عطلة مدرسية.. الشركة الوطنية للطرق السيارة تحذر السائقين    للجمعة 29.. آلاف المغاربة يجددون المطالبة بوقف الحرب على غزة    مقتل 51 شخصا في قطاع غزة خلال 24 ساعة    الأميرة للا مريم تترأس اجتماعا بالرباط    مندوبية السجون تغلق "سات فيلاج" بطنجة    بيدرو روشا رئيساً للاتحاد الإسباني لكرة القدم    دراسة: التمارين منخفضة إلى متوسطة الشدة تحارب الاكتئاب    الأمير مولاي رشيد يترأس بمكناس مأدبة عشاء أقامها جلالة الملك على شرف المدعوين والمشاركين في المعرض الدولي للفلاحة بالمغرب    ‬غراسياس ‬بيدرو‮!‬    بايتاس : الحكومة لا تعتزم الزيادة في أسعار قنينات الغاز في الوقت الراهن    "شيخ الخمارين ..الروبيو ، نديم شكري" كتاب جديد لأسامة العوامي التيوى    سعر الذهب يتجه نحو تسجيل أول خسارة أسبوعية في 6 أسابيع    احتجاجا على حرب غزة.. استقالة مسؤولة بالخارجية الأمريكية    الشرقاوي يسلط الضوءَ على جوانب الاختلاف والتفرد في جلسات الحصيلة المرحلية    تطوان .. احتفالية خاصة تخليدا لشهر التراث 2024    محمد عشاتي: سيرة فنان مغربي نسج لوحات مفعمة بالحلم وعطر الطفولة..    بروفيسور عبد العزيز عيشان ل"رسالة24″: هناك علاج المناعي يخلص المريض من حساسية الربيع نهائيا    السعودية قد تمثل للمرة الأولى في مسابقة ملكة جمال الكون    عرض فيلم "أفضل" بالمعهد الفرنسي بتطوان    مؤسسة (البيت العربي) بإسبانيا تفوز بجائزة الشيخ زايد للكتاب في دورتها ال18    الأمثال العامية بتطوان... (582)    جراحون أميركيون يزرعون للمرة الثانية كلية خنزير لمريض حي    لأول مرة في التاريخ سيرى ساكنة الناظور ومليلية هذا الحدث أوضح من العالم    في شأن الجدل القائم حول مدونة الأسرة بالمغرب: الجزء الأول    "نسب الطفل بين أسباب التخلي وهشاشة التبني"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الجامعة الوكاكية..من خلال مخطوط رواية نهضة جزولة العلمية والدينية اليوم
نشر في التجديد يوم 08 - 10 - 2005

إن ما تلاقيه هذه الحلقات التي ننشرها من إقبال وترحيب، بل وشوق كبير إلى قراءتها أسبوعيا لدى كل متتبعي كتابات والدنا رحمه الله، هي وحدها التي تجعلنا ملزمين بالمضي في هذا الدرب، ومواصلة البحث والتنقيب في ثنايا خزانته لاستخراج وإظهار ونشر ما تحتويه من وثائق عديدة، وخصوصا منها غير المنشورة، وما هذا كله إلا من واجب المسؤولية الملقاة على عاتقنا من جهة، ومن جهة أخرى أردنا مواصلة نشر العلم الذي ورثه رحمه الله، مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم: >إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له<.
لقد لاحظ القارئ أن كل ما نشرناه لحد الآن متنوع الموضوعات، وهذا كان هو هدفنا، حيث ارتأينا أن نبين مجموعة من الوثائق حسب موضوعاتها، لتبيان جوانب كتابات والدنا كدروسه وخطبه ومحاضراته ومقالاته، ولا زال في جعبتنا ما ننشره منها، أما جوانب موضوعات مؤلفاته المخطوطة على الخصوص، فإننا خضنا فيها على سبيل المثال وذكرنا جانب الرحلة (الرحلة الوزيرية) وبينا كذلك ما ألفه في أصول الفقه (تحفة القاضي في بدايات علم الأصول)، وكذا في جانب الحكايات والنوادر والأمثال الشعبية (قطائف اللطائف وغيره)، وزدنا على ذلك ما كتبه عن شيوخه الحضريين، خصوصا جانب محاوراته العلمية معهم، وفي الجانب الروائي ذكرنا محورا من محاور روايته (أحاديث سيدي حمو الشلحي في العادات والتقاليد السوسية)، وسنواصل في هذه الحلقة كذلك الخوض في هذا الجانب ونكشف الغطاء عن روايته الرابعة (نهضة جزولة العلمية والدينية اليوم)، وقد عرفنا بها وذكرنا ملخصها في الصفحة الثالثة من الكتيب الذي نشرناه منذ شهرين (دليل مؤلفات ومخطوطات العلامة رضى الله محمد المختار السوسي). وهذه الرواية والرواية المذكورة قبلها لهما تقريبا نفس أسلوب الكتابة، فالاولى تدور أحداثها
بين فقيه شاب وشيخ مسن معتكف في خلوته، تحاور معه الفقيه حتى أقنعه بمخالطة الناس واتفقا على القيام بجولة سياحية في ربوع مناطق سوس لمداخلة الطبقات المختلفة فيه، ونجم عن هذه الجولة التعريف بالعادات والتقاليد السوسية، وأما الرواية الثانية فلها نفس الخطة، حيث إن بطلها، وهو أحد حفدة سيدي وكاك، تونسي المولد قرأ مرة مقالة في أحد الجرائد التونسية تحدث فيها مراسلها من المغرب عن ما شاهده عند حضوره للحفلة السنوية التي تقيمها عادة الجامعة الوكاكية، ووصف ما شاهده فيها وعن أحوالها، وقد كان لهذه المقالة أكبر الأثر حتى عزم هذا الحفيد التونسي، وحفزته ليقوم بزيارة المغرب وزيارة أجداده والوقوف على مشهد جده سيدي وكاك، وزيارة الجامعة الوكاكية، ومنها العمل على جولة يزور فيها كبريات المدارس العتيقة المنبثة في القطر السوسي.
هذا هو برنامج هذه الرواية باختصار، وسيقرأ معنا القارئ في هذه الحلقة تلك المقالة التونسية كاملة، التي تحدث فيها كاتبها عن مشاهداته لحضور الحفلة السنوية التي أقامتها الجامعة الوكاكية، وفي الشطر الثاني سنختصر ما رواه بطل الرواية (التونسي الحفيد) عند قدومه للمغرب مما شاهده هو الآخر عند حلوله في الجامعة الوكاكية وسنبين البرنامج الذي سطر له لزيارة كبريات المدارس العتيقة السوسية( فالله المستعان وعليه التكلان).
الشطر الأول: ما جاء في مقالة إحدى الصحف التونسية، التي يصف فيها المراسل ما شاهده في الحفلة السنوية التي تقيمها سنويا الجامعة الوكاكية
..... لاقاني صديق كان يعرف مبدإي في أن النهضة الإسلامية لا تقوم إلا على علم ودين، كما يعلم أن أسلافي من سوس الأقصى، فناولني عددا من جريدة فقال: خذ واقرأ، فقرأت ما يأتي:
لا ندري نحن أبناء العرب كيف نجازي الحكومة بالمغرب الأقصى، التي اعتنت غاية العناية بنشر اللغة العربية في القطر السوسي، الواقع جنوب تلك المملكة، ونحن نعلم أن سكانها من الشلحيين الذين لا يعرفون اللغة العربية إلا تعلما، فلئن كان ماضي ذلك القطر كما يشهد به التاريخ حافلا بالاعتناء الكبير باللغة العربية وعلومها منذ أوائل القرن الخامس، فإن ذلك عقبه فتور عظيم في الفترة التي امتدت فيها حماية الدولة المعروفة على تلك البلاد، حتى أقفرت تلك المدارس القديمة التي كانت مزدهرة في القرون قبل مضي الربع الأول من هذا القرن، ثم لم تكد الحكومة الحالية تستولي على البلاد، وتتولى زمام تلك المملكة الفخيمة، حتى كنا نسمع من بين أعمالها التي تقوم بها عناية عظيمة لإحياء تلك المدارس الجزولية القديمة، وإدخال التنظيم العصري إليها بحسب الإمكان، وبالتدريج شيئا فشيئا، ولم يزل ذلك الاعتناء متسلسلا في الترقية، إلى أن بلغ اليوم أوجا تغبط به سوس، وتتمنى كل بوادي شمال إفريقية لو كان لها مثل تلك الخطا المتزنة. ومثل ذلك الاعتناء بالعلم والدين، وبالمحافظة على الأخلاق وعلى عادات البلاد الحسنة، وقد توصلنا اليوم من مكاتبنا
المتجول بوصف الحفلة العظيمة التي أقيمت في جامعة سيدي وكاك في ضواحي تيزنيت، وهي حفلة تتكرر على رأس كل سنة، كذكرى لتأسيس تلك الجامعة العظمى، يقول مكاتبنا:
وصلت تيزنيت في الحادي عشر من الشهر الجاري على الساعة الخامسة صباحا، فأقلتني سيارة رفيق لي من أهل البلاد، صاحبته ليكون مترجما عما لا أعرفه من لغة الشلحة السائدة في هذه الجهة، وفي عشر دقائق وصلنا باب الجامعة، وأول ما لفت بصري منذ اللحظة الأولى سذاجة البناء، وعدم الاهتبال بالنقش والتخاريم في كل بناء الجامعة، وإنما روعي في البناء أن يكون متينا صحيا أبيض، فتذكرت ما كنت أراه من أمثال هذه الجامعات في العالم، من كثرة ما لم أجد له هنا أثرا من النقش والتزويق، وما إلى ذلك مما هو مألوف عند من يريدون أن يهيئوا مبانيهم بادئ ذي بدء نزها للعيون، وقرة أبصار لمن يزورونها، وقد سألت رفيقي عن سبب ما أرى فقال: إن قطرنا ضعيف المال، وحين كان المقصود هو تربية العقول وتنشئة رجال بدويين علماء عاملين، يقودون هذا القطر البدوي إلى أوج الرقى، اختار مؤسسو الجامعة هذه البساطة، ليكون بين بناء الجامعة وبناء دور الطلبة التي منها درجوا وإليها سيؤولون غدا تناسب تام، وإلا فإن الطالب الذي يسكن سنوات في أبهاء المرمر المجزعة بالرخام والفسيفساء، تنفر نفسه من دور البادية التي يراد منه أن لا يفارقها، وأن يظل طوال حياته ملازما
لأهلها لينتفعوا به، وكثيرا ما نرى من تخرجوا من مدارس الحضر التي هي كالقصور الممردة لا يقدرون بعد أن يسكنوا في دور البادية بعد التخرج، وكثيرا ما تلتهمهم الحواضر، فيتطاير الأمل المعلق عليهم في بادياتهم أدراج الرياح، وهذا هو الحامل على ما ترى، فقلت في نفسي: حقا إن المؤسسين للجامعة لعلى حق في الذي فعلوه، حيث راعوا الزمان والمكان.
قابلنا الرئيس في غرفته الواسعة مرحبا، فقدمني إليه رفيقي، وحين علم أنني صحفي جوال ابتهج وأعلن استعداده للجواب عن كل سؤال أوجهه إليه، ثم بعد أن تداولت معه زمنا في كيفية نظام الجامعة، وأطلعني على البرنامج، ونقلت منه ما أريد، تعجبت في كون هذه الجامعة تخالف في كثير من نظمها غيرها من الجامعات التي نراها اليوم في العالم الإسلامي، وما ذلك إلا لجمعها بين المحافظة على النظم العلمية على الكيفية التي تساير بها غيرها من معاهد العلوم، وبين المحافظة على النظم الدينية، وكل ذلك ببرنامج مدقق، ثم كان العجب أن ذلك البرنامج مع تدقيقه الذي يستمد من تدقيق الفلسلفة آتى أكله، وأنتج لهذا القطر السعيد ما نراه من عشرات مدارس أخرى منبثة بين القبائل، وهي أكثر من مائة (1)، وكلها تمشي على هذا النظام المدقق، لكن بصورة مصغرة وتعد كابتدائيات وكثانويات لهذه الجامعة الوكاكية، وهي تهيمن عليها وتتمشى تحت أنظارها، وسأفصل ذلك في رسالة خاصة للقراء، لأن الوقت الآن أمامي ضيق، وسأحتاج إلى أن أستعجل لآخذ لي كرسيا في ساحة الحفلة التي ستقام اليوم على العاشرة.
*****
مرت الحفلة العظيمة التي لا أبالغ إذا قلت: إنني لم أشاهد قط مثلها في عمري، لكونها تجمع بين حرية التفكير ونباهة العلم وخشوع الدين، وبين تباعدها ما أمكن عن عادات الغرب، واكتفائها بما ورثه الشرق عن أسلافه الكرام، فما كادت التاسعة تصل حتى تتابع الرجال المستدعون رسميا إلى أن يأخذوا أمكنتهم في الساحة الفسيحة وسط الجامعة، في باحة مزدانة بأصص الأزهار، وأنواع الأشجار الخضراء، واكتظ المجمع بنظام، ولا تسمع من الداخل إلا الجهر بالسلام عليكم، والرئيس وحده واقف إزاء المدخل وفي جانبيه كبار الأساتذة ومعينوهم وهم أربعون، فيصافح الداخل الرئيس وحده، ثم يسير قدما إلى محله، ثم بعد أن أخذ علماء القبائل وأساتذة المدارس المتفرقة في سوس مراكزهم وكلهم من متخرجي الجامعة استدار بهم رؤساء القبائل وموظفو الحكومة، ومن بينهم مندوب المعارف، نائبا عن وزارة المعارف المغربية، ونائب الرئيس الأكبر للجامعة القروية، لأن هذه الجامعة بهذه الصفة الدينية تعد من توابعها، ثم على رأس العاشرة أعلن الرئيس افتتاح الحفلة، وذلك بقيامه على منصة عليا، فألقى على الحاضرين التحية بصوته الجهوري بقوله: السلام عليكم فاهتز المحفل بالرد
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، ثم كان أول ما فعل أن أشار إلى حافظ قرآن، فتلا آيات مفتتحة بقوله: (إنا فتحنا لك فتحا مبينا) ثم أخذ المدير الكلام، فتلا كلمة في أن العلم والدين توأمان، من فرَّق بينهما فقد فرق بين السعادتين، سعادة حياته الأولى وسعادة حياة أخراه، ثم ذكر أعمال الجامعة في هذه السنة الدراسية التي يختتمها اليوم، فتعجبت كثيرا حين رأيت أعمالا عظيمة ومصاريف قليلة، لا توازي عشر تلك الأعمال، ولكن لما علمت أن نظام الجامعة يرتكز كثيرا على عادة هذا القطر البدوي، وأن الطعام واللباس وكل شؤون الحياة في الجامعة كلها مأخوذة مما يعتاده أهل البلاد، فلا رفاهية ولا تنعم إلا بمقدار، أدركت سبب قلة المصاريف، ثم بعد أن جلس الرئيس بين كلمات التكبير لأن التصفيق ممنوع عند المغاربة كما منع اليوم في كثير من محافل العرب الإسلامية قام خطيب فذكر نبذة عن حياة سيدي وكاك، لأن العادة كانت مستمرة منذ تأسيس هذه الجامعة أن يعتنى بذكر حياة ذلك العالم الذي يقولون عنه: إنه أول عالم يعرفه التاريخ في تلك البلاد، أسس لحياة علمية عامة، وكانت كلمة الخطيب لطيفة المنزع، أخاذة الأسلوب، هز بها قلوب كل السامعين،
ليعملوا مثل ما عمله سيدي وكاك في حياته العلمية، حيث ربى مثل عبد الله بن ياسين، مؤسس الدولة اللمتونية، وقال: إن كل مرَبّ لم تظهر أعماله في الذين رباهم، فلا يعد من صفوف المربين الخالدين، ثم تلاه خطيب آخر فألقى خطبة طنانة حافلة، عزيزة النظير، في أدوار سوس العلمية منذ نحو ألف سنة، وقد أتى والله بالعجب العجاب، وساق ما أدهش كل ذوي الألباب، ثم تلاه شعراء متعددون ألقى كل منهم قصيدة رائقة، وهي تدور حول حث الهمم إلى التحليق في الجِواء العلمية، وحول مبادئ الدين الحنيف، وحول حياة أبطال سوسيين كانت لهم آثار خالدة في العلم والدين والأخلاق، والإصلاح الاجتماعي والتأليفي وما إلى ذلك، وكل ذلك ببلاغة من أمثال أبناء الشلحة، فما كنت أملك نفسي حين كنت أسمع سليقة عربية فصيحة من فم شلحي عريق في الشلحيين، فقلت: هكذا يفعل العلم ويأتي بالمعجزات، فهؤلاء استحالوا عربا بوساطة العلم، فحيا الله أعمال رجال أثمروا مثل هذا الثمار.
ثم رجع الرئيس إلى منصة الخطابة، فصار يستدعي شبانا من المتخرجين من الجامعة في السنة قبل هذه، ساروا في الميادين العلمية أو الدينية أو الإصلاحية أشواطا، فهذا ألف مؤلفات كانت الجامعة اقترحت تأليفها، وذاك قضى شهورا وهو يسيح بين قبائل لا تزال في مؤخرة قبائل جزولية، وذاك سافر على نفقته الخاصة إلى إحدى جامعات أوربا، ثم رجع منها بإتقان ما كان يدرسه هناك، مع أنه لم يتأثر قلامة ظفر بتلك البيئة، فاستحق شكر الجامعة الجم على صيانة أخلاقه، فينتظم في سلك أساتذتها هذه السنة، يعلم ما أتقنه في الخارج لأبناء جلدته، وهكذا صار الرئيس يعرض على الأنظار شبانا يقص على الحاضرين صنع كل واحد منهم، حتى عرض نحو ثلاثين، ثم وقفوا مصطفين عن يمينه، ثم استدعى التلاميذ الذين تخرجوا نهائيا في السنة الحالية، فصار كذلك يستعرضهم واحدا فواحدا، يذكر مقدار كل واحد في معارفه، ثم وجه إليهم كلمة صرخ بها في وجوههم: إنكم اليوم بعد ما تخرجتم في هذه الجامعة العلمية الدينية ينتظر منكم أن تقوموا بمثل ما قام به هؤلاء وأشار إلى الثلاثين المصطفين عن يمينه فكل من تنكر للعلم منكم أو أعرض عن شعائر دينه، أو تأثر أي تأثر بأخلاق وعادات غير
أهله، فإن الجامعة تتبرأ منه، ففي تلك اللحظة قام آباء هؤلاء التلاميذ فصاحوا بلسان واحد: وإننا أيضا نتبرأ منهم إن عقوا مبادئ هذه الجامعة التي أحيا الله بها قطرنا بعدما مات، ثم مد الرئيس يده إليهم قائلا: من يبايعني منكم كما بايع الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم على أن يظل وافيا عاضا بالنواجد على مبدإ الجامعة ما حيي؟ فتقدموا فردا فردا يبايعونه بكلمات مؤثرة اغرورقت لها العيون، وجاشت بها النفوس، وفي تلك الساعة نادى مؤذن الجامعة الله أكبر الله أكبر فكانت موافقة عجيبة استشعرنا فيها عظمة الإسلام، وعظمة العلم تحت قبة هذه الجامعة العلمية الدينية، الغريبة الوضع والبرنامج بين جامعات البلاد الإسلامية، فأعلن الرئيس وهو رئيس الحفلة اختتام الحفلة، ثم رفع كفيه كما رفعها كل الحاضرين، وهم زهاء تسعة آلاف، فدعا دعوة أشعر بها تنبعث من أعماق قلبه، فكان الحاضرون يؤمنون بكل تؤدة ووقار على دعائه، فرفعت مع الحاضرين كفيَّ، وكان آخر دعائه بعد الفاتحة والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين. فقلت: هاأنذا حييت حتى رأيت عادات الأجداد لا تزال
حية إلى الآن، بعدما أتت عليها في كثير من بلدان الإسلام عادات المدنية الغربية الجارفة.
ثم رأيت الناس يشتغلون بالوضوء ويؤمون مصلى الجامعة حتى اكتظ على سعته، فتقدم رئيس الجامعة وهو الإمام الراتب أيضا فصلى بالناس الظهر صلاة خشوع واطمئنان، ثم استدعى الناس الجفلى إلى المأدبة التي هيأتها الجامعة في مطعم واسع طويل عريض، آوى إليه بعض الناس، والبعض الآخر في ساحة الجامعة، وقد فرشت كلها على سعتها بفرش نظيفة ساذجة، فقدم الطعام وهو كسكسو الشعير بلحم وخضر فقط، غير أنه طعام كثير استطابه الحاضرون فأمعنوا فيه، وهو الطعام الرسمي للجامعة وسط النهار دائما، وقلما تقدم الخبز من القمح والمرق، وحين طعم الناس قدمت أواني التمر الجيد مع الفواكه المتنوعة، وهذا التمر والفواكه من بساتين الجامعة التي تمدها بكل ما تريده من الخضر والفواكه، وعند الثالثة وقف الرئيس أمام الباب يودع الحاضرين كما قابلهم ببشاشة يقطر بها وجهه الذي يكسوه الشيب نورا، فقلت لرفيقي: إنني أريد ملاقاة خاصة للرئيس قبل الوداع، فرجع من عنده مستمهلا إلى الرابعة والنصف، فحين ودع كل الناس رجع إلى مصلى الجامعة. فصلى بالطلبة وبنا صلاة العصر، ولا تجد أي إنسان يتخلف عن الصلاة، ثم اجتمع طلبة المدرسة في بهو كبير، فأخذ بيدي الرئيس فدخلنا
عليهم وهو يقول: إن الطلبة سيلحقون بأهاليهم، وسيسافرون صباح الغد إلى أن تنقضي عطلة الصيف، فجلس إليهم يوصيهم وصايا عجيبة تأثرت بها أنا، وأنا ذلك الصحفي الذي يعرفني أهلي، فكيف لا يتأثر بها الطلبة الذين أشاهد عليهم علامات ظاهرة لتأثر شديد، ويظهر لي أنهم يحبون هذا الرئيس الوقور المشفق أكثر من محبتهم لآبائهم، فإن أنس لا أنس ما قاله لي رفيقي:
إن هؤلاء الطلبة يرون لهذا السيد يعني الرئيس من الإجلال والاحترام مالا يرونه لغيرهم، وكذلك يحبون كل الأساتذة الذين تراهم واقفين إزاء سياراتهم، يقول لي ذلك إزاء خروجنا من بهو الطلبة إلى باب الجامعة، ونرى الرئيس يودع الأساتذة الذين سيركبون سياراتهم التي يملكونها، فيقضون كذلك العطلة الصيفية حيث يريدون، ثم خلوت مع الرئيس فاعتذر لي عن طعام الغداء الذي هو من الكسكسو من الشعير فقال: إن ذلك هو شرط المدرسة المفروض علينا أن لا نخرج عنه، وربما لا تألف أنت أكل الشعير فيضربك، ولكن ستبيت عندي هذه الليلة بفضلك، وأقدم إليك ما أقدر عليه من نوع ما تألفه في الحضر، فاعتذرت إليه وقلت: إنني لك من الشاكرين كثيرا حين سعدت فنلت من طعامكم الجامعي، وسأعدّه أفضل أكلة أكلتها في عمري، وضيافتي عند سيدي الرئيس هي أن يفسح لي حتى أطلع على كل ما أريده في الجامعة، فتفضل فصاحبني إلى خزانة الكتب، فوجدتها خزانة طافحة بكتب كل نوع من أنواع العلوم، وفيها كذلك من كتب غير العربية شيء كثير، فقلت له: إنني مبتهج كثيرا بكون هذه الخزانة فيها كتب بكل لسان، فقال: إن برنامج الجامعة يوجب تعلم ألسن يتوقف عليها السوسي في معارفه وفي
سياحاته كيفما كانت، ولذلك كانت عندنا أقسام للألمانية وللفرنسية وللإنجليزية وللإسبانية وللبرتغالية وللطليانية وللتركية وللفارسية، وكل هذه الألسن توخذ عندنا، وإنما الذي يحضر في الجامعة أن تغمر هذه الألسن العربية، ولذلك نقرأ كل العلوم أية كانت بالعربية، ولا نقرأ هذه اللغات إلا لكونها لغة فقط، ثم إن تخرج من عندنا متخرج وأراد أن يدرسها أكثر من ذلك، فإنه يلحق بإرساليات الجامعة في أوربا، وهي تتجدد في كل سنة بكثرة أو قلة، حسب ما في مستطاع الجامعة من المصاريف، وأما الكتب فإننا نقبل كل شيء منها إلا ما يتعلق بالإلحاد أو بالمجون، ولذلك لا يدخل كتاب إلى الجامعة إلا بعد تفتيش شديد من لجنة خصصتها الجامعة لذلك، ثم مررنا بقاعة المطالعة الفسيحة، ثم إلى أقسام الجامعة، ما يتعلق منها بالسكنى وما فيه من المخازن، أو ديار الأساتذة الذين يلزمون أن يأتوا باهاليهم إلى السكنى هنا في كل شهور الدراسة، وكذلك مساكن الخدم، وكل ذلك نظيف ساذج البناء، إلا أنه متين صحي أبيض، تسكن إليه النفس الهادئة، ثم طلعنا فوق سطح عال فوق المدرسة، فوجدت مرصدا مبنيا هناك ويحتوي على أحدث آلات الرصد، وهو على صغره يؤدي للطلبة المطلوب منه،
ثم أراني قاعة السينما في جانب الجامعة، وفيها الراديو، وإزاءها مطبعة كبيرة، وهي التي تصدر مجلة علمية وتطبع كل ما تريده الجامعة من نشرات الدراسة والمحاضرات التي تلقى على الطلبة، وكل العمال في الجامعة، إنما هم الطلبة لا غير، كما أراني من بعيد مسبح الطلبة في سيف البحر، كما أراني ملعبا رياضيا متسعا في مكان آخر يبعد بأميال عن البحر، وقال: إن الألعاب الرياضية مفروضة على كل الطلبة، خصوصا السباحة والرماية، والتمرين العسكري في الأرض والجو، لأن كل ذلك مأمور به شرعا نتقرب به إلى الله، ثم بعد أن اتصلت بنسخ الخطب والقصائد التي ألقيت في الحفلة طلبت من الرئيس، الذي شكرته كثيرا أن يشرفني بالتوديع، فودعني بعدما اعتذر إلي، فخرجنا من الجامعة عند غروب الشمس.
وفي العدد الآتي ننشر الخطب والقصائد السوسية التي أرسلها إلينا مراسلنا، وأما الرسالة التي سيوصف فيها ما يتطلع إليه القراء من نواحي هذه النهضة السوسية، فسيوافينا بها المكاتب بعد أن يحررها، فننشرها للقراء بحول الله.
الهوامش:
1 وجدنا فصلا غير منشور في مخطوط كتاب رجالات العلم العربي في سوس (في صيغته الأولى) أسماء لأكثر من 200 اسما لهذه المدارس، وسننشره إن شاء الله عند نشرنا لهذه الرواية.
الشطر الثاني: حلول بطل الرواية ( حفيد سيدي وكاك) بالمغرب وبداية سياحته بدءا بالجامعة الوكاكية (نكتبه هنا بتصرف مع ذكر برنامج جولته للمدارس العتيقة بسوس)
....نزلت اكادير في مفتتح رجب، ففتشت عن إنسان هناك حملت إليه كتاب توصية، لينظر لي دليلا من أبناء البلاد، ...فسرعان ما تيسر لي طالب نبيه... وأصله من بعقيلة... فقصدنا توا زيارة الجامعة الوكاكية، بعدما علمت أن الجامعة اليوم مقفلة... لكن لا يزال نائب الرئيس فيها للمراقبةعلى دروس صيفية تكميلية اختيارية... فاستقبلنا الرئيس عند الحادية عشر في النهار... فوجدناه هيأ لنا في داره غداء طيبا...فأدينا صلاة العصر فقصدت مع النائب مشهد الشيخ سيدي وكاك... فقلت له: أحب من سيدي أن يدلي إلي بكل ما عنده من بداية هذه الأعمال الجزيلة الكبرى، وكيف أمكن تأسيسها (الجامعة)... فإن ذلك هو مقصودي من هذه الزيارة... فقال النائب: سنتداول في ذلك الللية إن شاء الله... ثم صعدنا إلى مصلى الجامعة... فصلينا المغرب فقرأنا مع الطلبة الحزب الراتب بقراءة مرتلة... فطلعنا فوق السطح نراقب النجوم في مرصد الجامعة بالمرآة المكبرة... وتعجبت حين وجدت عند أبناء هذه الجامعة كل ما يتعلق بهذا العلم... ثم لما أذن العِشاء نزلنا فأديناها، فذهبنا لتناول العشاء في دار النائب، ثم اقترح علي أن أصاحبه لأشاهد فيلما جديدا توصلت به الجامعة... فإذا به
فيلم يستعرض جزر اليابان وبحورها وأساطيلها... فقال النائب: إننا ما فسحنا للسينما إلا لنستعين بها في دروس الجغرافيا وفي دروس الطبيعيات... فعندنا لغالب بلدان العالم أفلام اشتريناها تكملة لدروس التلاميذ... وأما أفلام الخلاعة والمجون فإننا نمنعها... ثم فتحنا الراديو فصرنا نستمع أحاديث أقطار مختلفة من العالم، فاستمعت حديث بلادي تونس العزيزة فابتهجت غاية الابتهاج... فقال النائب: إنني نسيت أن أستعرض أمامك أفلام القطر التونسي لأذكرك بلادك... ثم قال: إن الراديو لا يباح لأحد من التلاميذ ومن غيرهم... إلا بحضور المراقب الخاص على الراديو، وما فعلنا ذلك إلا خوفا من أن يتسرب منه ما يخالف أخلاقنا وديننا... فقلت له: هنيئا لكم بما وفقتم إليه من جمع العلم والدين والأخلاق، فقد شيدتم جمهورية كالتي تمناها فلاسفة اليونان في تخيلاتهم... فقال: هذا كله من بركة المؤسسين لهذه الأعمال من أول يوم، وبهم وبالحكومة وصلنا ما وصلنا والحمد لله...
ثم رجعنا إلى مضاجعنا... فاختلى النائب والتاجر (المرافق) ينظمان برنامج رحلتنا الأسبوعية، فأتموه قبل أن ننام، ثم أطفئت الأنوار فساد السكون على الدار فنمنا.
...استفقنا قبل طلوع الفجر بنصف ساعة... ثم تناولنا الفطور، فأراني النائب البرنامج الأسبوعي:
الخميس: البونعمانية البوعبدلية الأخصاصيات والبزكارنية و التغجيجتية والأدائية والإفرانيتان (والبيات في تانكرت)
الجمعة: المدارس المجاطية الأكمارية التازروالتية بعض مدارس بعقيلة (والبيات في أدوز).
السبت: باقي مدارس بعقيلة مدارس رسموكة مدرستا تلوكات وأزاريف (والبيات في أزاريف).
الأحد: باقي مدارس الحامديين والتوفتاركائية ومدارس الصوابيين والسملاليين (والبيات في الكساليين ليصل الزائر رحمه هناك ).
الاثنين: الوفقاوية الإلغية الإغشانية الفلالية التهالية التمليات المنوزية التمكدشتية (والبيات في تمكدشت).
الثلاثاء: مدرسة أيت عبل والزكرية مدارس إيلالن (والبيات في توعلات).
الأربعاء: مدارس أيت ودريم وهشتوكة وماسة (والبيات في المعد في دار المسعوديين)
*****
...هكذا البرنامج، وقال النائب: إن هناك بقية لا يمكن أن ندخلها في البرنامج... فإن عندنا هنا في أزغار بضع مدارس تسهل زيارتها، كما أن هناك في رأس الوادي وفي سكتانة وفي طاطا مدارس أخرى... سوف نزورها كذلك... فقال: إنني ما نمت أمس حتى أعلمت بالمِسَرَّة من ستكونون عندهم غدا، وقد حددت الوقت بالساعة الدقيقة... كما أنني حددت مقدار المكث في كل محل... فتفضلوا الآن صاحبتك السلامة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.