مواقف صامدة ومحطّات حافلة بالتحدّي فى حياة صاحب "الأيّام"

عميد الأدب العربي د. طه حسين ، من مواليد قرية مغاغة (محافظة المِنيا) في 15 نوفمبر 1889، وإلتحق بالرّفيق الأعلى في يوم 28 أكتوبر 1973 عن عمر يناهز 84 عاماً،. فى مثل هذا التاريخ من السنة الجارية (2015) مرّت 42 سنة على رحيل هذا الرّائد فى مجالات التنوير، والتحديث،والكتابة، والتأليف ،والإبداع، والتعليم.
قال أبو عليّ البصير:
لئن كان يهديني الغلامُ لوجهتي /ويقتادني فى السّيرِ إذ أنا راكبُ
فقد يستضيئُ القومُ بي فى أمورِهم / ويخبُو ضياءُ العينِ والرّأيُ ثاقبُ
وهذا ما ينطبق تماماً على أديبنا الكبير الرّاحل طه حسين،تلك الشخصية العنيدة المتمرّدة،التي أحدثت هزّات عنيفة فى حياتنا الأدبية ،ذلك الطوح التوّاق إلى التجديد والتحديث،والمفكر العملاق الذي تصدّى لنوائب الدهر ، وصروف الزمن،لقد كان طه حسين هادياً لنا،ولطالما إستضأنا بآرائه الثاقبة، فى العديد من أمورنا، وآدابنا،وتاريخنا، وإن خبا ضياءُ عينيه،وحُرم نعمة البصر والنور.
كان شخصية فريدة من نوعها،لا يضاهيه فيها سوى أمثاله من العظماء الأفذاذ، والعباقرة القلائل الذين أحدثوا تغييراً جذرياً فى الفكر ، والثقافة، والعلم، والأدب، والإبداع، إذا ما جال المرء بفكره فى تواريخ الأمم على إختلافها. فبأيّة كلمات يمكننا أن نصف ذلك الرجل القروي الفقير الذي إنحدر من أعالي الصّعيد، من بيئة تسودها تقاليد بالية ،وعادات سقيمة،لا تسمح لأحدٍ أن يتخطّى حدودَها الضيّقة إلاّ لرجلٍ من طينة طه حسين.
من مظاهر الطموح المبكّر عنده
الجميع يعرف قصّة كفاحه المريرة،وتتبّع مراحلَ حياته الصاخبة المضطربة الحافلة بشتّى ضروب التحدّى والصّمود، ثم التفوّق والنجاح إلى اليوم الذي إنتقل فيه إلى مثواه الأخير.وقد حقّق ما كان يصبو إليه منذ كان فى قريته ، كما يعرف الجميع، مدى ما تركه بيننا ، ونحن تلامذة تلاميذه، من صدىً عميق ،لا زال أثره يفعل فينا فعلَ السّحر ،ويبعث على الزّهو،والفخار، والإعجاب بشخصية ذلك الرّجل الأسطورة الذي لا يجود الزّمان بأمثاله إلاّ بعد مراحل متباعدة من الدّهر كالمرحلة الزمنية التي تفصل بينه وبين قرينه أبي العلاء !.
كان طه حسين صبيّاً مغموراً كسائر صبيان قريته يركضون فى جنبات القرية وأرباضها، ويلعبون ويعبثون، وهمّهم الوحيد هو إختزان أو حفظ أكبر قدر من سور القرآن الكريم.كما كان عليه االشّأن فى جميع بوادي وقرى مصر فى ذلك الإبّان ..!
كان يقرأ القرآنَ على الأموات فى الجنائز مع أترابه،وكان كلّ مبتغى والده منه يتمثّل فى قوله له فى يومٍ من أيّام خريف 1902 :"أمّا فى هذه المرّة، فستذهب إلى القاهرة مع أخيك،وستصبح مجاوراً ،وستجتهد فى طلب العلم .وأنا أرجو أن أعيش حتى أرى أخاك قاضياً،وأراك من علماء الأزهر،وقد جلستَ إلى أحد أعمدته، ومن حولك حلقة واسعة بعيدة المدى".
غير أنّ هذا الصبيّ تخطّى ذلك كلّه إلى أبعد بكثير ممّا كان يتمنّاه له والدُه ،أو يظنّ هو ذاته عن نفسه. أجل لقد حقّق طه حسين الكثير ،وهو لم يبلغ ما ناله من شهرة واسعة، ومجد أدبي كبير عن طريق الصّدفة أو الحظ، بل لقد كانت نفسه مهيّأة لمثل هذه الرسالة الكبيرة التي إضطلع بها فى حياته، والتي نقف نحن اليوم ،ويقف عارفو آثار طه حسين ،ودارسو تاريخه الشخصي ذاهلين مشدوهين ممّا حققه ذلك الصبيّ الأعمى الفقير.
ولنبحث منذ البداية عن بعض الجوانب من مظاهر الطموح المبكّرفى شخصية هذا الأديب الكبير،منذ صباه البعيد فى قريته بمغاغة بصعيد مصر.
يحدّثنا طه حسين فى كتابه " الأيّأم" عن " القناة التي تنتهي عندها الدنيا" حسبما كان يخيّل إليه،وكم كان يتمنّى، أن لو إستطاع أن يحمله أحد إليها، أو يتخطّاها هو نفسه ليرى ما وراء هذه القناة التي كانت بالنسبة له بمثابة عالم جديد مسحور، فيه بعض ما تشتهي نفسُه وتتوق إليه، وفعلاً تحقّقت أمنيته فإذا به : " يذهب غير ما مرّة إلى حيث كانت تقوم وراء القناة شجرات من التّوت فيأكل من توتها ثمراتٍ لذيذة" كما يذكر أنه تقدّم غير ما مرّة إلى حديقة المعلّم وأكل فيها غير مرّة تفّاحاً ، وقطف له فيها غيرَ مرّة نعناعاً وريحاناً" .
أحلام الفتى
إنّ أكبر ما كان يظفر به المرء فى قريته هو لقب الشيخ ،وها هو ذا صبيّنا سرعان ما أصبح شيخاً وهو لمّا يتجاوز التاسعة من عمره.! غير أنه لا يقنع ، ولا يقتنع بهذا اللقب، إذ ما هي إلاّ أيام حتى سئم لقبَ الشيخ، وكره أن يُدعى به، كما أنه:" لم يلبث شعورُه أن إستحال إلى إزدراء للقب الشيخ" كان كلّ منيته أن يعثر على خاتم سليمان " الذي كانت حاجته إليه شديدة " كما كان يقضي طوال النهار فى راحة مطلقة ،ولعب متّصل ينتظر أن تنتهي السنة ،ويأتي أخوه الأزهري من القاهرة" إنه ينتظره لأنّ والده وعده بأن ّ أخاه هذا سيصحبه معه إلى القاهرة ليجاور فى الأزهر.أجل تلك كانت منيته ،وهي الإنسلاخ من قريته، والبحث عن بيئة جديدة مناسبة حتى لو كانت هذه البيئة فى الأزهر،ويعترف لنا طه حسين فى " الأيّام" أنه لم يكن حزيناً قطّ لفراق الأهل والقرية فى الطريق إلى القاهرة ، التي ما أن يصلها حتى بدأ يختلف إلى الأزهر حيث وجد كلَّ شئ على ما كان عليه الأمر فى قريته،ولمّا سمع العالِمَ الأزهريّ يقول:.."ولو قال لها أنتِ طلاق، أو أنتِ ظلام ، أو أنتِ طلال أو أنتِ طلاة، وقع الطلاق ،ولا عبرة بتغيّر اللفظ.. فَاهِمْ يا أدع..؟ " ،حتى إذا إنصرف عن الدّرس سأل أخاه ما الأدع..؟ فقهقه أخوه وقال له : الأدع الجدع فى لغة الشيخ.."! وأقسم طه حسين أنه بعد ذلك إحتقر العلمَ منذ ذلك اليوم.
إقرأ يا أعمى !
ويتمثّل لنا مظهر آخر من مظاهر هذا الطموح المبكّر كذلك فى حديث الفتى إلى أخواته ،وهو ما زال فى القرية ، حيث كان يقول لهنّ: " بأنه سوف يذهب إلى أوربّا ،وينعم فيها بالحياة الهادئة الهانئة هناك، وأنه سوف يصطحب معه زوجةً مثقفة ليست غافلة مثلهنّ ولا جاهلة مثلهنّ "!
كان الجميع يضحك ويسخر من أحلام هذا الفتى الطموح بما فى ذلك أهله وذووه وأصحابُه ومعارفُه ، كيف السّبيل إلى تحقيق آماله وهذا أستاذه يصيح فيه فى إزدراء وسخرية مريرين : - إقرأ يا أعمى..!..وهذا إبن خالته يهزأ منه ويصفه بالجاهل الذي لا يفقه من تاريخ بلاده شيئاً ، ولا تتعدّى علومُه حفظه للقرآن، وبعض قواعد النحو والصّرف . غير أنّ طه حسين لم يثنه شئ عن مواصلة الطريق بنفس الإيمان الذي رسخ فى أعماقه منذ قرّر البحث عن خاتم سليمان ..منذ أن إكتشف عالمَه الجديد من وراء القناة حيث الحقول الخُضر، والسهول الخصبة تجري فيها المياهُ عذبةً سلسةً منسابةً من كلّ الجوانب ،وحيث تكثر أشجار التّوت والتفّاح..!
إنّ الظلام الذي أطبق على طه حسين لم يزده إلاّ إيماناً، وقوّة ،وصلابة ،وعزماً لمضاعفة طموحه وتطلعاته وإنطلاقه بصبر حثيث، وبعزيمة لا تُقهر، وإرادة لا تعرف الوَهن نحو سبر كلّ مجهول، وتحقيق أهدافه ،أو ربّما بلوغ غاياتٍ لم تخطر له على بال . !
وما هي إلاّ سنوات قليلة لا تتعدّى الأربع حتى سئم طه حسين الأزهرَ والأزهريين، ولم يعد يطيق المكوثَ فيه أكثرَ ممّا قضى من مدّة،والتي ذاق فيها من ضروب المرارة، والسخرية ،والعَنت الشئ َالكثير ،كيف لا وهو يسمع بين الفينة والأخرى من هذا وذاك تلك الكلمة القاسية الجارحة والمؤلمة : يا أعمى !
حينئذ قرّر طه حسين أن يهجر الأزهر ،وإنتسب إلى الجامعة المصرية، وتذكّرنا هذه الحادثة بالشاعرالرقيق المرحوم كامل الشنّاوي الذي كان يقول هو الآخر : إنه حينما وضعَ العمامةَ عن رأسه، وضعَ معها كلَّ أحزانِه وهمومِه..!
وقبل أن يهجر طه حسين الأزهر كانت له فيها صولات، وجولات، ومعارك تشهد على تفوّقه ونضجه، وطموحه، وإيمانه ،بنفسه ، لقد كان يجادل ويناقش بالعقل والبرهان الطلبةَ والشيوخَ أنفسَهم. " وفى ذات يوم جادل الشيخَ فى بعض ما كان يقول ،فلمّا طال الجدال غضب الشيخُ وقال للفتى فى حدّة ساخرة : أسكت يا أعمي ما أنت وذاك"..!.."وإمتلأت نفسُ الفتى حزناً ،وغيظاً، وساء ظنّه بالطلاّب كما ساء ظنّه بالشيوخ".
"فولتير مصر وأبو علائها"
ومن مظاهر هذا الطموح أيضاً فى تلك الفترة إلتحاقه بالمدرسة الليلية التي أنشأها الشيخ عبد العزيز جاويش لتعليم اللغة الفرنسية لمن يشاء من الطلاّب ، إذ لم يتوانَ طه حسين لحظة فى الإنضمام إلى هذه المدرسة طمعاً فى تحقيق رغبته ،وإكتساب علم أفضل ،ومنزلة أعلى سائراً فى الطريق الذي إختطّه لنفسه التوّاقة نحو إقتحام كلّ مجهول.
كما أنه كان يكتب بغزارة فى كبريات الصحف الأدبية والسياسية ،ويتعرّف إلى رجالات مصر وأساتذتها الكبار حيث تعرّف على لطفي السيّد الملقّب بأستاذ الجيل ومدير " الجريدة" ،وصاحب الدعوة العقلانية ،وإذاعة المنطق الأرسطي،الذي كان يشجّع طه حسين ،ويرسم له خطط المستقبل ليكون أديباً كبيراً ،وممّا كان يقول له : " أنت فولتير مصر فى المستقبل ،وأنت أبو العلائنا" يعني شاعر المعرّة.
ثمّ نال طه حسين أوّلَ دكتوراه تمنحها الجامعة المصرية عام 1914 عن أبي العلاء المعرّي نفسه.وبعد ظروف صعبة إبتعث طه حسين إلى فرنسا حيث حصل هناك على رسالة الدكتوراة كذلك عن فلسفة ابن خلدون، وفى فرنسا حقّق أكبرَ قسط من أمانيه، وأحلامه ،وطموحه ، حيث شاء له القدر أن يلتقي هناك مع رفيقة عمره التي كانت تقرأ له أشعارَ " راسين " بصوتٍ عذبٍ رخيم !
وعاد طه حسين إلى مصر متشبّعاً بالمناهج العلمية الحديثة فى دراسة التاريخ والآداب التي تلقّاها عن أساتذة ومستشرقين كبار فى فرنسا، فنشر كتابَه " فى الشعر الجاهلي" ،وقد أعاد طبعَ هذا الكتاب بعد أن بدّل عنوانَه ،وغيّر فى بعض فصوله وإن لم يحد فيه عن الأفكار الرّئيسية التي أثارها فى الطبعة الأولى .
ويتجلّى لنا طموحُه كذلك فى العديد من أعماله الأدبية التي تزخر معظمها بالرموز والدلالات العميقة عمّا كان يعتمل فى نفسية هذا الصبيّ من حوافز التطلّلع أبداً نحو الأمام، وإكتشاف عوالم جديدة وآفاق بعيدة،يتجلّى هذا فى أعماله القصصية، كدعاء الكروان، والمعذّبون فى الأرض، وأحلام شهرزاد، وشجرة البؤس، وأديب، والأيّام، وغيرها ممّا يضيق المجال هنا للتعرّض لها بالتفصيل.
العِلْم والتعليم والإيمان بالعمل
لقد بنى طه حسين طموحَه على عاملين إثنين أساسيين فى حياته اوّلهما : العلم، أو التعليم ،فبالتعليم إستطاع أن يشقّ لنفسه طريقاً أفضى به إلى الأزهر ، وبالتعليم إنتقل من الأزهر إلى الجامعة المصرية ، وبالتعليم كذلك نال تلك المكانة المرموقة بين معاصريه، وبين من جاؤوا بعده. وبالتعليم إنتقل من حياة الشظف، والفقر والخصاص إلى حياة الرفاهية والنعيم،وبه إنتقل من الغضارة إلى الوزارة، حيث كان مستشاراً ،ثم وزيراً للمعارف والتعليم ،وبالتعليم كذلك بلغ عمادةَ الجامعة ثمّ عمادة الأدب العربي. وكان يقول : " إنّ العلم كالماء والهواء يجب أن يكون متاعاً لكل أفراد الشّعب ،ولا يمكن أن تقوم ديمقراطية حقيقية من دون أن يتعلّم الشعب" ولهذا السبب لُقّب بوزير الماء والهواء !
وفي كتابه " مستقبل الثقافة فى مصر" يعرض طه حسين آراءَه فى فى العلم والتعليم ،وفيه يقول: " كي ننشئ لمصر الحديثة أجيالاً من الشباب كراماً أعزّاء،لا يتعرّضون لمثل ما تعرّض له بعض أجيالنا السابقة من الذلّة والهوان، سبيل ذلك واحد لا ثانية لها وهي بناء التعليم على أساس متين" ،وهكذا يصرّ على التعليم الذي يفضي إلى المقاصد النبيلة والكريمة للأمّة من حرية وديمقراطية حقّ كقاعدة أساسية لبلوغ الغايات من إستقلال، وتقدّم ،ورقيّ، ورخاء، وإزدهار".
والعامل الثاني الذي يؤكّد به هذا الطموح هو الإيمان بالعمل ،فطه حسين لم يعرف اللهو فى حياته إلاّ لماماً ،بل على العكس كان شغوفاً بالعمل، مهووساً به إلى أبعد الحدود، لأنه كان يرى فيه الدّافع الأساسي لتغيير مجريات الأمور ، وتحريك السّواكن، يقول فى كتابه " مرآة الضمير الحديث" :" إنّ تغيير الأشياء لا يكون بالكلام الذي يُقال عن إخلاص أو تكلّف، أوعن تفكير أو إندفاع وإنما يكون بالعمل الذي ينقل الأشياءَ من طور إلى طور" كما يؤكّد نفسَ هذه المعاني فى كثيرٍ من كتبه سواء التاريخية،أو الأدبية وغيرها.
كان طه حسين شاهداً على عصره،كان الأديب الذي عاش عصرَه،وإستوعبه،وقدّم له الكثير ،فكان بحقّ رائداً من روّاده ،ومثالاً نادراً يُحتذى به ،فى تخطّيّ العقبات، وتأكيد العزم، وتحقيق الغايات، لما عًرف عنه من جرأة، وشجاعة نادرتين، وفهمٍ عميق للحياة ،وإطّلاعٍ واسع على ثقافات الأمم قديمها، وحديثها، الشئ الذي أهّله بحقّ أن يُلقّب عن جدارة وإستحقاق، بلقب " عميد الأدب العربي" .وكما نذكره نحن اليوم فى ذكرى رحيله الثانية والأربعين ، وفى كلّ ذكرى، لابدّ أنّ التاريخ الإنساني سوف يذكره كذلك، ويضعه فى مصافّ عظمائه،وكبار مفكّريه، وكتّابه، وشعرائه أمثال المعرّي، وبشّار، وبورخيس، وابن خلدون، وديكارت،وراسين الذين كان معجباً بهم .
*عضو الأكاديمية الإسبانية الأمريكية للآداب والعلوم - بوغوطا- كولومبيا.